وجدان ناصيف: جسد المرأة – وثيقة الإدانة مجدداً

0

مرة أخرى تصيب الخلافات وتصفيات الحسابات السياسية والسلطوية الفئة الأضعف في المجتمع، وهنّ النساء، يحدث ذلك هذه المرة في تونس، البلد الذي ترنو إليه عيون نسويات العالم العربي والمشرقي، كونه يشكل تجربة رائدة في مجال تثبيت حقوق المرأة والمساواة، وهو البلد الذي خرجت منه أولى تباشير الربيع العربي الذي انقلب خريفاً في معظم البلدان، وبقي حلماً وفكرة لا تموت حول بناء بلدان ديمقراطية تسودها الحريات واحترام حقوق وكرامة الانسان، بما فيها حقه بحماية حياته الشخصية وخصوصيته، وبضمان عدم تعرضه للوصم والإساءة الشخصية، وحقه في محاكمة عادلة ونزيهة عند اتهامه بجرم ما.

خرق لحقوق الانسان ولكرامة النساء وصف بالـ ” مقرف” من قبل العديد من الناشطات النسويات والمدافعين والمدافعات عن حقوق الانسان، والذي جاء عشية قرار رئاسي متفرد من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد بعزل 57 قاضيا ًوقاضية من مناصبهم بتهمة “التورط في قضايا أخلاقية والتستر على جرائم إرهابية وقضايا أخرى تتعلق بالفساد المالي”، وفق ما جاء في القرار الرئاسي بتاريخ الأول من حزيران الجاري.  وهو القرار الذي ساهم في وصم ثلاث قاضيات والإساءة لسمعتهن، اثنتان منهما تم تداول تقارير عذرية لهما على وسائل التواصل الاجتماعي للنيل منهما وتبرير القرار، وواحدة منهما وصمت بالزانية، فيما لم نسمع تناول القضاة الرجال بمثل هذه الاتهامات.

“القاضية الزانية” مرفقاً بالاسم الصريح للقاضية أصبح وسماً على منصات التواصل الاجتماعي، وهو مؤشر جديد على شعبوية هذه الوسائل وانفلاتها من الرقابة، وسهولة استخدامها للانتقام الشخصي ولتصفية الحسابات، وهو ما يرى فيه البعض انحداراً أخلاقياً، وربما عودة عن المكتسبات التي حققتها التونسيات في نضالهن الطويل. لكن هذه العودة قد لا تكون ممكنة بقدر ما يتخيل البعض فالحركة النسوية في تونس هي حركة حيّة وديناميكية، وقد جاء ردها على ما يحدث سريعاً حين دعت كل الجمعيات التونسية لوقفة احتجاجية في 6 حزيران، وأُصدرت بيانات تنديد عبرت من خلالها عن تضامنها المطلق مع القاضيتين اللتين تم إعفاؤهما بأمر رئاسي بتهمة “الزنى “، ووصف أحد البيانات القرار بـ “الاعتداء الخطير على الحياة الخاصة للأشخاص والانتهاك الجسيم لكرامة النساء”.

خلافاً لما يمكن أن يحدث في دولة القانون التي تحترم حقوق الانسان والحريات الشخصية للمواطنين والمواطنات، جرت عملية انتقامية من القاضية، ليس من خلال تبيان الوثائق والأدلة التي تثبت انتهاكها لمعايير مهنتها أو قائمة بأخطائها كقاضية، بل من خلال الإساءة لسمعتها والإضرار بمسيرتها المهنية عبر اختراق فضائها الشخصي وحياتها الخاصة، ومن الطبيعي أن رميّ الشائعات ووصم امرأة بال” الزانية” هو أسهل بكثير من التحليل السياسي لما يحدث، ومن التذكير بقاعدة ” كل انسان بريء حتى تثبت إدانته” أو بحق أي مدان بالدفاع عن نفسه وبمحاكمة عادلة قبل اعدام سمعته ومسيرته المهنية .

جاء في ردود بعض الحقوقيين في تونس أن القانون التونسي لا يحتوى مادة تجرم ” الزنى” ، ويرى البعض أن المجتمع التونسي قد تجاوز هذه الوصمة وتجاوز أيضاً موضوع العذرية، وهو الأمر الذي لا يبدو صحيحاً من خلال متابعة ما حدث، فبالنسبة  لقضاة الفيسبوك والتويتر والشعوبيين على كل منصات التواصل الاجتماعي يكفي تسريب صورة واحدة لامرأة في فضائها الخاص لإدانتها والحكم عليها وتشويه سمعتها، تساهم في ذلك السلطات وأجهزتها التي تتلصص على الأفراد وتخترق فضاءاتهم الخاصة، ويضاف هنا أن  مفردة “الزنى” جاءت على لسان الرئيس ذاته الذي أصدر القرار.

مرة أخرى تتم تصفية الحسابات مع النساء العاملات في الفضاء العام من خلال الإساءة لهن لأنهن نساء، وهذا ليس بجديد في مجتمعاتنا التي لا تزال ترى في “العذرية” رمزاً ليس فقط لشرف المرأة، بل أيضاً لشرف عائلتها وقبيلتها ومجتمعها كاملاً، وهو ما عليها أن تقدم الدليل على ” طهارته”  رداً على الاتهامات مثل تهمة ” الزنى”،  لكن الأمر الصادم أنه في يومنا هذا يمكن لجهات قضائية معينة طلب إثبات العذرية وتقديمه كدليل لإدانة أو تبرئة امرأة، وأن يتم نشر هذا الدليل على العلن، وتداوله محملاً بالاسم الصريح للمرأة المدانة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي كانت أداة مهمة في ثورة التونسيين وفي وصول شرارتها لبلدان الربيع العربي هي ذاتها تصبح اليوم أداةً في يدّ أعداء الربيع وأهدافه وأحلام النساء والرجال بأوطان تحترم كراماتهم.

لقد بقي المرادف الأول للقضايا “الأخلاقية” في مجتمعاتنا يفسر في إطار ثنائية (الشرف -العار) التي تلتصق بجسد المرأة وهو ما دفعت ثمنه العديد من النساء في مجتمعاتنا قتلاً وعزلاً وتغيباً عن الشأن العام. وفي تونس الخضراء أُقيلت ثلاث قاضيات، تمت الإساءة لسمعتهن جميعاً، من خلال اختراق حياتهن الشخصية، ومن خلال نشر الشائعات التي أصبحت مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي سلاحاً في أيدي أعداء المرأة وحقوقها، ومشاركتها في الشأن العام.  وثورة الياسمين التي ” هرمنا” بانتظار وصولها لأهدافها، يبدو أنها اليوم تحتاج إلى الدفاع عن مكتسباتها، وأقلها مبدأ فصل السلطات، وصون الحريات والحقوق وتجريم الإساءة والتشهير بالنساء من خلال استخدام أجسادهن.

لقد آن الأوان للوقوف في وجه هذه الظاهرة التي ترعب النساء في مجتمعاتنا وتساهم في اقصائهن عن تصدر مواقع هامة في الميدان العام ، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث دون تأمين شروط بيئة آمنة قانونيا ومجتمعياً لهن، ودون صيانة الحريات الفردية، ويحتاج أيضاً  لإعادة تعريف بعض المفردات مثل ” الشرف” والأخلاق” من خلال فكّ ارتباطها بأجساد النساء أو بـ”العذرية”، وربطها بمعانيها العامة التي تنطبق على كل البشر رجالاً ونساءً؛ كالنزاهة والكرم والشجاعة والانصاف والعدل وحسن الخلق وعدم التطرف، وغيرها من المفاهيم الإنسانية الأشمل التي تجمعنا كبشر بغض النظر عن لوننا وعرقنا ودياناتنا وجنسنا .

*موقع مساواة