تحل ذكرى وفاة واحد من أهمّ الشخصيات العربية التي رفعت عاليا القيمة الفكرية العربية والإنسانية، في المنفى الأمريكي. فقد شكّل، منفردا، واحد من حيطان الصدّ ضد مسخ الصورة الحقيقية، واختزال العربي في صفة «الإرهابي». ذكرى أليمة لأنه صعب كثيرا تعويض هذا الصوت الذي لم توقفه لا التهم الصّهيونية، ولا النقد الثقافي الذي لم يخرج أبدا عن التسيّس والأدلجة في الكثير من نماذجه.
الكثيرون لا يعرفون إدوار سعيد (ولد في القدس في 1935، وتوفي في 2003 في نيويوركودفن في لبنان) الموسيقي، الذي اختبر هذا الفن ممارسة وتنظيرا، إلى جانب عمله الثقافي والعلمي والسياسي. فقد ساهم في الكثير من مقالاته المختصة موسيقيا، في الرفع من قيمة الموسيقى واعتبارها من أهم الحاجات الإنسانية التي تفرض على الإنسان ضرورة تعلمها كما يتعلم كل مناحي الحياة الأخرى. إضافة إلى ذلك فقد مارس إدارة الأوركسترا، والعزف على البيانو بحرفية لدرجة أن اعتبر «فيوتيوزا» مميزا. وتعمق خطابه الموسيقي انتهى به إلى تأسيس فرقة موسيقية سمّاها «أوركسترا الديوان الغربي الشرقي « لأنها تجمع بين نظامين رمزين مختلفين، مؤتلفين إنسانيا
الغالبية من المختصين والمهتمين اطلعوا على جهوده النقدية الجامعية واختصاصه في الأدب المقارن وعلى فكره السياسي ومنجزه الثقافي السجالي، الذي جعله يتبوأ منصبا ثقافيا كبيرا جعله من خيرة مفكري العالم العربي الفعالين دوليا. كما اقتربوا نقديا من مقارباته الحادة من القضية الفلسطينية بكل منجزاتها ومآسيها التاريخية المتلاحقة إذا كانت ميدانا خصبا لكتابات ودفاعه عن الحق الفلسطيني الذي أحرج الحركة الصهيونية والعالم «الحر» الذي لم يجد من مخرج سوى اتهامه بمعاداة السامية، بالاعتماد على مواقفه تجاه شعبه، واعتبار الصورة التي يظهر فبها ابنه وهو يرمي الإسرائيليين بالحجارة في بيروت، إبان أيام الاجتياح، شكلا من أشكال معاداة السامية، وقد دافعت عنه جامعته باستماته بعدما طالب بعض المتطرفين بطرده. وعلى الرغم من ذلك كله، فقد اخترق عالما أمريكيا مغلقا منتصرا لإسرائيل في عمومه وناقش الصهاينة في أطروحاتها بعقلية المفكر الذي لم ينس أبدا أنه ولد بالقدس، وأنه يعيش بعيدا عن ارضه الأولى التي سرقت منه ومن شعبه، ودفعت به نحو مغاور المنافي الذي عاشه كلحظة حارقة سيدها الفقدان، وأيضا كلحظة إنسانية جعلته يكتشف عالما ظل مغلقا لولا تلك الأراضي. يلوم أهله أنهم لم يفتحوا عينيه على أرضه وشعبه منذ البدايات الأولى. وقد ذكر ذلك في سيرته، «خارج المكان» فقد عتب عليهم «لأنهم لم يسمحوا له بالانخراط في مجتمعه الذي نشأ فيه، وبالتالي لم يتسنّ له معرفته معرفةً وثيقة، وقد سمّى غربته بالمنفي.» واعتبره قسوة قاتلة للإنسان من الداخل، فهو فقد «هوّةٌ قسريةٌ لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع، وأيّاً كانت إنجازات المنفي فإنها خاضعةٌ على الدوام لإحساس الفقد.»
لقد كان إدوارد سعيد موسيقيا مرهفا استطاع أن ينتقل من مجرد المتذوق، إلى كتابتها والتأليف التخصصي فيها. لم يكن هاويا موسيميا ولكن كاتبا مرتبطا عضويا بهذا الفن الذي لا يمكن فصله عن المجتمع بما في ذلك نشاطه السياسي. وكتبه التي ألفها تبين قدراته على الفهم العميق للموسيقى. كتبه الثلاثة كشفت عن هذه القدرات الاستثنائية: «متتاليات موسيقية (1991)» كتاب «المتشابهات والمتناقضات: استكشافات في الموسيقا والمجتمع (2002)» بالاشتراك مع دانييل بارينبويم، والثالث بعنوان عن «النموذج الأخير: الموسيقا والأدب ضد التيار (2006)». إضافة إلى كتاب رابع، هو مجموعة من المقالات كان قد كتبها عن الموسيقى ونشرها في العديد من المجلات منها المجلة المتخصصة «ذا نيشن»، الذي نشرته جامعة كولمبيا التي شكلت مساحته الثقافية والمعرفية، تحت عنوان: حدود الموسيقى (2007). جهد روحي يتجلى بعمق في أعماله التي لا يفصل فيها بين الفني والفكري والسياسي. فهي عبارة عن كل متكامل ومتناغم. لا يمكن للإنسان الطبيعي إلا أن يعيش تحت سقف الموسيقى. فهي من أرقى الأشكال الفنية التي تمس الإنسان في داخله وتمنحه انسجاما روحيا تعمل الحياة اليومية القاسية على تفكيك عراه، تـأتي الموسيقى فتلحمه بقوة.
أهم ما قام به في هذا السياق، ونظرا لرغبته الحميمية الكبيرة لجعل لغة الموسيقى، لغة للسلام وليس للحروب، أنشأ في سنة 1999، برفقة صديقه دانييل بارينبويم، أوركسترا متكاملة أطلق عليها تسمية: «الديوان الغربي الشرقي»، تدمج الأصول الفنية الشرقية والغربية في الآن نفسه. وتتكون من شبان من فلسطين ومن بعض البلدان العربية ومن إسرائيل. ولم يكن الأمر سهلا إذ كان عليه إقناع الآخرين بأن ذلك ليس «تطبيعا» لأن القضية الفلسطينية تظل كبيرة وتظل قضية احتلال يجب أن يتوقف، ولكن خلق مساحة إنسانية حياتية لا يمكن الاستهانة بجدواها، لأنها نشاط إنساني قريب إلى القلب. ممارسة فنية عالية تستهدف فك عقدة الموت والحروب، ومنح الأجيال الجديدة من مختلف الشعوب فرصا أخرى للحياة خارج منطق الموت والبحث عن سلام الروح. وحتى يكون للأوركسترا وضعا اعتباريا، فقد حولاها إلى مؤسسة تخضع للقانون الأمريكي أطلقا عليها اسم: «مؤسسة بارينبويم – سعيد ومقرها إشبيلية». وقد ارتحلت الفرقة عبر الكثير من العواصم العالمية بما فيها فلسطين وإسرائيل، وقدمت رؤية أخرى للموسيقى في خدمة سلام كان صعبا، بل ومستحيلا.
إن خوض التجربة عن طريق الموسيقى كان مسألة حيوية بالنسبة لإدوارد سعيد، التي تمددت حتى في جانبها التعليمي، أي دعوة الناس إلى الموسيقى، الهدف الأسمى، وضرورة تعلمها. وكتب مقالات عديدة تلح على ذلك: «التعليم من خلال الموسيقى» وكانت المؤسسة من وراء منجزات موسيقية مهمة منها تدعيم مشروع «أكاديمية دراسات الأوركسترا»، ومشروع «التربية الموسيقية في فلسطين» للمحرومين من كل إمكانية تفتحهم على العالم، إضافة إلى مشروع إنساني مهم «التعليم الموسيقي المبكر للأطفال في إشبيلية» ولم يكن اختيار هذه المدينة اعتباطا ولكن جزءا من الاستراتيجية العامة للمصالحة مع الفن وإشبيلية في زمانها، شكلت نموذجا للتآخي الإنساني على الرغم من الاختلافات الدينية وكانت مساحة للموسيقى والحياة الفنية الراقية التي ما تزال تجلياتها إلى اليوم واضحة في البلدان المغاربية من خلال المالوف والموسيقى الأندلسية بمختلف مدراسها وطبوعها.
لم يمنح الزمن لإدوارد السعيد زمنا طويلا ولكنه عاش عصره بامتلاء كبير. توفي في 25 سبتمبر 2003 عن عمرٍ سبعةً وستين عاماً بعد أن انهكه مرض اللوكيميا الذي لم يسعفه طويلا على الرغم من كل المحاولات الطبية. وكانت وصيته أن حرق جثته وينثر رماده في الأرض العربية، وهو ما قامت به عائلته المكونة من شقيقته روزماري وزوجته مريم وابنيه نجلاء الممثلة المسرحية ومؤسسة المسرح العربي الأمريكي «نبراس»، ووديع، إذ نقل رماده في 30 أكتوبر 2003 إلى مقبرة برمّانا الإنجيلية، ببيروت.
أمران جعلا من وجوده داعما موسيقيا حتى في غيابه مما يؤكد التأثير الذي مارسه على المجتمعات العربية وغير العربية. فقد تحولت سيرته «خارج المكان» إلى سيمفونية قام بها الموسيقي محمد فيروز، كما سمَّت جامعة بيرزيت سنة 2004، سنة بعد وفاته، مدرستها الموسيقية باسم «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقا تكريما له»واعترافا بجهوده الموسيقية والإنسانية.
*القدس العربي