وارد بدر السالم:إقامة النص في نظريات النقد

0

لا يُشترط بالنص الأدبي أنْ يخضع لمشارط نقدية متعددة وجراحات متنوعة ومهيمنات نظرية خارجية ستبدو قسرية أحيانًا في إبهامها وغموضها وصعوبة استيعابها؛ كالأشكال الهندسية والحسابية والرسمات الشجرية والحروف المتطايرة في مربعات ومثلثات تذكّرنا بمثلث ابن عربي ذائع الصيت، إضافة إلى التنظيرات التي تتقصاها بحثًا وتنقيبًا وتأويلًا، وتفرض عليها إقامة جبرية داخل نظرياتها الكثيرة. وهذا ما يُربك طرفًا مهمًا مشتركًا بين المؤلف والناقد. وهو طرف لا يتوجب التعالي والتنمر عليه بدعوى تجديد الخطاب النقدي وإدخال ذائقته في مصطلحات متشابكة ومشتبكة واجتراحات لغوية غير مأهولة؛ زادتها الترجمات العربية تعقيدًا وصعوبة على نحوٍ يدعو إلى التبصر والمراجعة الجدية. ونعني به القارئ بمستوياته المعرفية والثقافية غير المتشابهة أكيد، والمتباعدة زمنيًا أيضًا في تاريخية وجغرافية النصوص الأدبية، والذي يجد نفسه بعيدًا عن جوهر النص ومعناه؛ متابعًا ملاحظات شكلية – رياضية وهندسية وحروفية ورقمية- في أغلبها. أو ملاحظات لو تركها، ستُبقي جوهر النص قائمًا في ذاته الشخصية من دون تأويل أو اجتراح نسق آخر يساعد على القراءة الموَجّهة.
إلغاء دور القارئ التفاعلي في إيجاد المعنى الذي يكتنز به النص؛ تشتيت للمعنى المتَضَمّن في غالب الأحيان وإيقاف مساهمته على نحوٍ ما في توثيق صلته الجمالية بالنص. وهو أمر يدعو إلى التحقق من خطابات النقد الكثيرة التي ساهمت بالفعل في وضع القارئ في زاوية حرجة من التأويل والمعنى وتشتيت صلته بالنص، كونه أحد أعمدة العمل الأدبي في تشكلاته المختلفة. ومثل هذا الإلغاء؛ حتى وإن لم يكن قصديًا؛ هو إخلاء ساحة النص من عنصر تفاعلي كثير الأهمية في عقد صلة شراكة متداخلة بينهما. فالقارئ الذي يستهويه نص ترفيهي مُتعوي بمعنى الرومانسية الأدبية في أشكالها المتعددة، أو يجذبه نص استباقي للتفسير السياسي والاجتماعي، قد لا يجد وثيقة ذات صلة بينه وبين الأثر الإبداعي الذي يقرأه. ومن هنا ربما نجد ضعف المشتركات بين القارئ والنص يتسبب بها التنظير النقدي المتعالي كثيرًا على واقعة القارئ العادي، من دون الإمعان في أن استراتيجيات النصوص هي في الأغلب الأعم لا تتطابق مع استراتيجيات القراءة. ومنها ينشأ مبدأ التعارض والاختلاف في كسب النص أو النفور منه، حتى لو كانت القراءة فعلًا تاليًا يعقب الكتابة؛ بعيدًا عن سلطة النقد وتنظيراته الكثيرة التي ملأت رفوف المكتبات النقدية. فالقراءة فعلٌ تطبيقي بوصف ميشال أوتن. والتطبيق هنا كما أعتقد هو الوصول إلى المعنى أو مشارفه الغامضة؛ طبقًا للقواعد المتعالقة بينهما والفهم المبدئي لواجبات كل منهما. ويأتي الفهم المشترك بين القارئ والمؤلف في سياق ثقافي ومعرفي مسبق، إذ ما من معرفة في هذا النص أو ذاك إلا وكانت ثمة معرفة مسبقة في مجموعة نصوص سابقة توازيه في القدرة على الفن والجمال والمتعة والفائدة، يسميها أوتن بـ”المفهومة“.
نكهة إبداعية جديدة
أريد أن أخلص إلى أنه عندما نلغي دور القارئ العام بقصدية أو من دونها ونتثاقف عليه بالمعرفة المتراكمة، ربما لا تبدو جمالية في كثير من الأحيان، أو كأنها مصممة لنظرية نقدية ليس شرطًا أن تكون مطابقة في توصيفاتها للنص الأدبي المُراد قراءته وبحثه، هو تسويف للدور القرائي المعتاد أمام شخصية مجهولة، تختلف معطياتها المعرفية والثقافية عن النص المتجول في القارات وباللغات كلها. وحتى نظريات القراءة التي نعتمدها دائمًا ونرى فيها جماليات مختلفة وهي تتعاضد مع القراءة الداخلية، تحتاج هي أيضًا إلى مراجعات مستمرة مع تطور ذائقة القراءة في العصر الإلكتروني الخارق للمألوف، بتوفير المعرفة وتفصيلاتها بسهولة كبيرة والوقوف أمام النصوص التي باتت اليوم غير محكومة بقوانين نقدية جاهزة وقارّة قديمة أو حديثة مسبقة. ولم يعد النقد سلاحًا فعالًا يُفرض على النص بتطبيقاته المحيرة في كثير من الأحيان. وهذا لا يعني إلغاؤه أو التطاول عليه. بل نرى أن المعرفة النصية الحالية تحتاج إلى أفكار نقدية تتماشى وطبيعة الكتابة في طبقاتها الجديدة، لا سيما في الشكل السردي الذي اجتاح الرواية وتوصل إلى يقينيات وإن غير نهائية، لكنها يقينيات بذائقة ونكهة جديدتين، فاندمجت الذات الفردية بالذات الجماعية وبالظواهر المشتركة التي هي في الواقع وتاليًا في النص. أي أن السرديات الروائية- مثلًا-  تعقّبت الحالة العالمية بشموليتها السياسية وحمولاتها المعرفية الكثيرة.

التاريخ المتعاقب
عندما نبحث عن المعاني المخفية في جوهر النص الأدبي، سنجدها في جماليات فنية متعددة، بدءًا من المتعة السردية، والأسلوب الحاذق، والشكل المستحدث كوعاء ثيمي متجانس مع الأفكار، وليس انتهاءً بالمفاجآت المتعددة التي يُغلفها الكاتب بتغليف درامي أو غيره وبشكل غير متوقع؛ تلك المفاجآت التي تنهي شراكة القارئ في تقصيه للأثر السردي على وجه الخصوص. وبالتالي فالقارئ أيضًا هو مجموعة قراءات أو أفكار ليست ناضجة كليًا، لأنها – مثل المؤلف- تحتاج إلى تجديد في الرؤية المباشرة العميقة إلى مستجدات الفن الأدبي وممخضته الدائبة في الوصول إلى عيّنات سردية وشعرية ناجحة في زمنها وإلى ما بعده. وحتى دعوة أمبرتو إيكو للقارئ ” التجريبي” بأن يكون “قارئًا نموذجيًا” بواجبات “فقهية لغوية” هي دعوة قد تكون متعالية في وجهٍ من وجوهها، لكنها دعوة أكيدة لفحص الأثر السردي في تضاعيفه الكثيرة عبر فقه اللغة العميق، وبالتالي وضع القارئ في سر من أسرار الكتابة وهو اللغة. فالعمق اللغوي هو واحد من موجبات الكتابة الباقية، لأنها قادرة على الإمساك بالخيال من جهة، ومن جهةٍ أخرى لها قابلية التأويل في أنساقها المختلفة لتحديد المعنى الذي يصفه ميشال أوتن بأنه “يسكن النص وكأنه مادة غامضة”.

ولعل هذا يقودنا إلى مقولة معروفة ترى بأن المعنى في قلب الشاعر. وفي الواقع؛ وبتأويلي لأوتن فإن المعنى أو المعاني يتقاسمها الشاعر والقارئ- المتلقي. فلا معنى أخير في قلب الشاعر، سوى المعنى في قلب القارئ المتلقي ومعاني التلقي في زمنيتها المتعاقبة متعددة. ومثل هذه الانزياحات الشعرية ستبدو حقيقية، باعتبار أن الشعر عابر للزمن. وقارئ الشعر يتجدد مع الزمن ثقافةً وفكرًا وسلوكًا أدبيًا بمواصفات عصره. لذا يكون الأثر القديم قابلًا للتأويل اللغوي، أي للمعنى المتعاقب، أي اكتسابه لمعلومات لغوية بتوصيف تودوروف، لكن قد يرى البعض أن هذا محفوف بالخطأ النسبي (المعنى ذاته يتغير مع الزمن الأدبي. واللغة متطورة في زمنيتها الحتمية) ونعتقد أن هذا قليل جدًا، لو استدركْنا أن الكتابة بمجموعها هي ردة فعل لواقع يشتمل على وقائع متعددة وثقافة جامعة وزوايا نظر ربما لا نراها اليوم، كما رآها قارئ الأمس القريب من زمن الكتابة. وما وَصَلنا من زمن الملاحم التراجيدية والأسطورية الكبرى هو إنتاج بيئة ثقافية خاصة ومعانٍ قد تكون قليلة بعصرها، لكنها مستشرِفة للمستقبل بدليل بقائها جماليًا وليس موضوعيًا. وعلى هذا الأساس لاحظ أرسطو أن فرادة هوميروس (هو تركيزه على ثيمة واحدة) مثلما لاحظ آرنولد أنه ذو (أفكار بسيطة)، ولو عدنا إلى عصر أرسطو الأدبي والثقافي وما قبله وحتى ما بعده، فقد نجد الموضوعات الملحمية والفلسفية متشابهة. لكن الوصول إلى المستقبل كان ممكنًا بتلك الأفكار البسيطة في طرحها، إنما العميقة في بقائها الأسطوري حتى اليوم. ونظن أن قارئ اليوم وهو يتماهى مع الملحمة التاريخية، لا يحتاج إلى تعقيدات وخطابات نقدية صعبة، سوى ما تركه الزمن على تلك الأسطوريات الثقافية الخالدة في عقل التاريخ المتعاقب.

(ضفة ثالثة)