تصاحب الصبي مع الخوف ردحاً طويلاً، وكان الخوف رفيقاً رائعاً أحياناً. لا يذكر الصغير متى بدأ يشعر بالخوف، ولكنه يذكر أنه رأى وراء زجاج الباب في غرفة النوم خيالاً لوجه شديد القبح، يشبه وجه الغوريلا، على رغم أنه لا يذكر أنه سبق أن رأى غوريلا، فقد كان أصغر من أن يذهب إلى السينما، ولم يكن عصر التلفزيون قد بدأ بعد. كان شعر المسخ أسود غامقاً ومنفوشاً، كأن مفرقعة قد انفجرت فيه، وكانت عيناه واسعتين، تحملقان بالصبي من خلف الزجاج المعشّق من دون أن ترمشا. ولا بدّ أن المسخ شديد القصر، لأنه بالكاد استطاع أن يرفع رأسه فوق الحاجز الخشبي، ليبرز فوق الزجاج الذي ينتصف الباب الخشبي، على عادة أبواب الغرف الحمصية العتيقة.
انتفض الصغير بهلع عاصف، ورمى نفسه في حضن أمه التي كانت تنام بجانبه. وحاول أن يشرح لها ما رأى، فهدّأت الأم من روعه، وأضافت إلى قاموسه الصغير كلمة جديدة: “كابوس”.
“ما رأيت كان كابوساً، حلماً مزعجاً”، قالت له، “انظر: باب الغرفة ليس مغلقاً حتى”.
واستبد به حلم ظلّ يتكرر حتى بلغ طور الشباب. في الحلم، كانت أمه تحمله أو تجرّه من يديه، وتعطيه لعابرات سبيل، يشبهن النورية التي طرقت عليهم الباب ذات نهار تريد أن تقرأ الطالع، فطردتها الأم، بتطيّر. وإلى جانب الخوف، كان يشعر بالألم والحزن من سلوك أمه غير المفهوم.
وارتبط الخوف بالقلق أيضاً. كان لديه قلق شديد من أن يموت أبوه، ويتركهم وحيدين. وحين كان شديد التديّن، يذهب إلى الجامع في كلّ يوم، كان في صلاته يدعو الله ألا يقبض أباه. وحين ينتبه أن جسامة ذلك الطلب، كان يستدرك فيدعو أن يمهل الله أباه حتى يأخذ البكالوريا، على الأقلّ.
وكان الخوف أكثر ما ينتابه ليلاً، وبخاصّة في ليالي الشتاء. وحين كانت الأم تطلب منه أن ينزل كيس القمامة ليرميه في الحارة، كان قلبه يدقّ بعنف يكاد يسمعه، ثمّ يحمل الكيس، وينحدر به بسطات السلم الأربع: خمس درجات، فسبع، فخمس أخريات، فست في البسطة الأخيرة، ثمّ يجد نفسه في بهو البناية الذي ينفتح بابه على الحارة التي كانت قبل ساعة أو اثنتين تضج بالحياة والسابلة والأطفال يلعبون فيها ويثرثرون ويصرخون. ورشة أبو كرمو أغلقت، وكذلك مكتب الآلة الكاتبة وورشة النجارة المحاذية ودكان أبو أشرف الحلاق. ولم يبق سوى دكانة البقال أبو بدر ودكانة أبو صفوان، الذي يلتم عنده الأولاد الأكبر سناً من الصبي للعب الفيشة. يمدّ الصغير رأسه خارج الباب. الطريق خال، وأصوات لاعبي الفيشة تأتيه من على بعد كحداء ناءٍ، مشحونة ومتقطعة. يجري بكلّ طاقته إلى الزاوية التي يرمي فيها أهالي الحارة نفاياتهم، فيرمي الكيس كيفما اتفق، ثم يعود إلى البناية بسرعة غريبة، متخيّلاً أن ثمّة من يطارده، فيقفز درجات السلم اثنتين، اثنتين: الست الأولى ثم الخمس فالسبع فالخمس الأخيرة، ثم يسارع إلى باب البيت الذي تركه مفتوحاً، فيندفع داخلاً، ويصفقه وراءه، وعندها فقط يشعر بالأمان، وهو يتخيل من كان يلاحقه وقد ارتطم بالباب وأنه نجا في آخر لحظة. ومع ذلك كان في تلك المغامرة بعض المتعة، فالمطاردة الشرسة بينه وبين الأشرار أو الوحوش، غالباً ما كانت تنتهي بانتصاره عليهم. وحينها يدخل إلى الدفء الذي تشعّه المدفأة الحنون في غرفة الجلوس، حيث تشوي الأم عادة البصل، بينما يرشف الأب العرق الأغبش، ويلحق كلّ رشفة بنصف ملعقة صغيرة من اللبن العربي، وكانت مازته الوحيدة أيام القلّة، بعيد انقلاب البعث.
سأله الصبي مرّة، عن شيء بين الخبث والسذاجة: “عم تشرب لبن عيران؟”.
كان يعرف أن ما يشربه الأب كان عرقاً، وقد تذوّق في إحدى المرّات قطرة أو اثنتين بقيتا في الكأس قبل أن تغسله أمه، وأعجب بنكهة اليانسون ولكنه لم يحب الطعم اللاذع فيها.
“لا. هذا حليب” قال الأب، ولم تكن كذبته ذكية، فاللبن العيران أقرب في كثافته إلى العرق من الحليب قشدي اللون الذي كان الصغير يشتريه في كل مساء ويعرف جيداً طعمه ولونه وكثافته.
وفي الغرفة الداخلية، كان أخواه سحبان وبشار يدرسان أو يقرآن القصص البوليسية. لم يكن في البيت سوى جهاز راديو واحد، ينتقل من يد إلى أخرى. كان بشّار مفتوناً بأم كلثوم، يضع الراديو قرب أذنه ويسمعها كل ليلة إن استطاع، متنقلاً من إذاعة دمشق إلى إذاعة القاهرة إلى صوت العرب إلى إذاعة الشرق الأوسط. وقال مرة للصبي: “على رغم مساوئ عبد الناصر، فإن له ميزة واحدة: لديه ثلاث إذاعات، ولا بد أن تعثر في إحداها على أغنية لأم كلثوم”. كان عبد الوهاب قد أحدث ثورة في ريبرتوار أمّ كلثوم، بأغنية “أنت عمري”، التي سيلحقها بـ”إنت الحب” و”أمل حياتي”، بينما سيبدع بليغ حمدي “سيرة الحب”. وسيسمع الصغير الكثير من النقاشات الحامية حول ثورة عبد الوهاب بين مؤيد للتجديد ومحافظٍ استنكر على الملحن إدخال “الغيتار” في مقدمة الأغنية. سحبان، في المقلب الآخر، كان يكره أمّ كلثوم، وعلى رغم اعترافه بعظمة صوتها، كان يعتبر أنها تخدّر الجمهور العربي بألحانها وإعادتها ومطّها الأغنية. وسمعه الصغير يقول مرّة: “مصر تصدّر لنا الحشيش والمخابرات وأم كلثوم.” ولكنه كان يحب أغنية “رقّ الحبيب” لمحمد القصبجي. وكان يقول: “القصبجي الوحيد الذي عرف أن يشكم أمّ كلثوم”.
على أن الخوف لم يكن في الحلم فقط، ولم يأتِ ليلاً وحسب، بل كان يجيئه في النهارات أيضاً. ولكن خوفه النهاري مختلف. كان يخاف أن يذهب إلى المدرسة من دون أن يكتب وظيفته، ويخاف أن يدخل في شجار مع أصدقائه في المدرسة، ويخاف الموت والمقابر. وكان يخاف ألا يحبه أصدقاؤه أو أن يفقد حظته بين المعلّمين. افتقدت الأم يوماً شيئاً في البيت فسألت الأولاد عنه، وأنكر الجميع. قالت الأم إنها ستعرّضهم جميعا لـ”لقمة الزقّوم”. وكانت تلك قطعة خبز يقسم الولد أنه لم يأخذ الغرض، ثم يضعها في فمه، فإن كان كاذباً، غصّ وعجز عن بلعها. ظهر الخوف على الصغير، فسأله سحبان:
“-أأنت أخذتها؟
-لا والله.
-إذاً لماذا تخاف؟”.
فقال الصبي بإشفاق: “أخاف أن أكون قد أخذتها خطأ، ودون علم مني، فأغصّ بالخبز”.
ابتسم سحبان الذي كان وقتها يقرأ سارتر وكولن ويلسون، وقال له: “لا تخف. هل تعتقد حقاً أن أمك ستصدق في تهديدها؟”.
وقالت له الأم مرّة إن عواء الكلب بالمقلوب علامة شؤم. وحين سمع في إحدى الليالي كلباً يعوي عواء مريراً، ركض إلى أمه، وسألها: “أهذا عواء بالمقلوب؟”.
ومع ذلك، كانت تنتابه أحياناً مظاهر شجاعة، فدافع عن صديق له في المدرسة حين تعرّض له أحد المتنمرّين. رآه الصبي وهو يحشر صديقه في زاوية الشارع بعد الانصراف من المدرسة، وقد أخذ بجماع قميصه في قبضته، وهو يتفوه بكلمات نابية. لم يعرف الصغير كيف جاءته الشجاعة فاقترب منهما، وقال للمتنمّر: “اتركه؟ شو بدّك منه؟”.
نظر المتنمّر إلى الصبي بدهشة. كان يعرفه، ويعرف فيه ولداً هادئاً مسالماً، يتجنب المشكلات ما استطاع.
ووجد الصبي نفسه يتابع: “قدك هو؟”.
وتراخت قبضة المتنمّر، فأفلتت قبّة الولد، والتفت نحو الصبي: وسأله بهدوء منذر:
“وأنت؟ أنت قدّي؟”.
لم يجد الصبي جواباً، فصمت، ووقف منتظراً كيف سيكون ردّ فعل المتنمّر. رفع الأخير يده في الهواء بسرعة، كأنه يريد أن يضربه، ولكنه وجّهها وجهة أخرى وكأنه يرفع خصلة من خصلات شعره عن عينيه، وابتسم، بنوع من الحيرة ثمّ مضى مبتعداً من الاثنين، بتمهّل مقصود. وقال الولد الصغير للصبي: “شكراً!” ثمّ مضى لا يلوي على شيء. أما الصبي فمضى يتفكّر في الشجاعة الغريبة التي جاءته فجأة، ومن دون حساب.
وفي مرّة أخرى، وبعد سقوط الوحدة بين سوريا ومصر في أيلول/ سبتمبر 1961، كان الصغير في المدرسة، في الصفّ الثاني، حين وقف مع رفاق له وقال لهم: “أسمعتم؟” وانتظر ليحصل على انتباههم، وأردف: “راح عبد الناصر؟”، وكان بين الأولاد من سمع بالانفصال، ولكن معظمهم لم يسمع به. فقال الصبي متباهياً: “يعني هلق فيني وقف بنص المدرسة وصيّح: يسقط عبد الناصر”.
نظر إليه ولد نحيل طويل، يبدو أكبر من رفاقه بسنة أو اثنتين، وقال له بتحدٍّ: “ما بتسترجي”. ومرّة أخرى جاءته، لا يدري من أين، شجاعة لم يعهدها، فصاح بصوت حسبه صراخاً: “يسقط جمال عبد الناصر!”، ثم غارت أخادعه ورق قذاله، ووجد نفسه يضع رقبته بين كتفيه كأنه يتحسب أن يضربه أحد على رقبته، وانتظر وقتاً، ولم يحدث شيء، فاسترد نفسه ورفع رأسه، ونظر إلى الصبي الطويل بنوع من التحدي والشماتة.
ومع ذلك، لم يمنعه الخوف من المجازفة، وحين كبر، لم يمنعه خوفه من السلطة ومخابراتها وسجونها وما تناهى إليه من قصص التعذيب السادي في السجون أن ينتسب إلى حركة سياسية ثورية محظورة، وحين اعتقل لاحقاً، وأطبق وراءه باب الزنزانة الحديدي البارد والمصمت، لم يشعر بالخوف، بقدر ما شعر بالوحدة والوحشة والضيق والحنين.
(درج)