نشرت صحيفة واشنطن بوست، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2016، وفي ذروة الانتخابات الرئاسية الأميركية، مقطعا صوتيا مسجّلا بصوت المرشّح الجمهوري آنذاك، دونالد ترامب، مع المضيف التلفزيوني، بيلي بوش، وهما يجريان “محادثة بذيئة للغاية حول النساء”، سُجِّلت في عام 2005. كان اثناهما في حافلة في طريقهما إلى تصوير حلقة من برنامج اسمه أكسس هوليوود “Access Hollywood”. في الشريط، وصف ترامب محاولته إغواء امرأة متزوجة، وقال إنه ربما يبدأ في تقبيل امرأة كان هو وبوش على وشك لقائها. وأضاف الرجل الذي سيصبح رئيسا لأعظم دولة: “عندما تكون نجمًا، فإنهن يتركْنك تفعل ذلك. يمكنك فعل أي شيء … يمكن أن تمسكهن من (…). يمكنك فعل أي شيء”.
في اليوم التالي، ظهرت زوجة دونالد ترامب، ميلانيا، وهي تبرّر لزوجها دناءته، وقالت، بصوت منكسر وابتسامة مزيّفة: “الكلمات التي استخدمها زوجي غير مقبولة ومسيئة لي. هذا لا يمثّل الرجل الذي أعرفه”، ولكنها أضافت أنها تأمل أن “يقبل الناس اعتذاره كما فعلت أنا”. .. لم يصدّق أحد ميلانيا أنها قبلت اعتذاره، وشعر قسم من الأميركيين بالتعاطف معها، سيّدة مهاجرة وحيدة في عائلة مهووسة بالمال والسلطة، يتحكّم بها رجلٌ مهووسٌ بالنساء والثروة، يتهرّب من الضرائب، أعلن إفلاسه أكثر من مرّة ليتهرّب من ديونه، وأقام علاقة، وهو متزوج، مع ممثلة البورنو الشهيرة ستورمي دانييلز، ودفع لها مائة وثلاثين ألف دولار ليشتري صمتها، ثم أقام علاقة مع عارضة أزياء وفتاة البلاي بوي، كارين ماكدوغال، وقال عن سيدة متحوّلة قاضته: “أعتقد أنها ستعجب بـ (…)”، قبل أن يقول عن ابنته الوحيدة: “لو لم تكن إيفانكا ابنتي، لربما واعدتها”.
ولدت ميلانيا كناوس في 26 إبريل/ نيسان 1970، في نوفو ميستو، سلوفينيا (كانت وقتها جزءا من يوغوسلافيا الشيوعية). كان والدها تاجر سيارات، ووالدتها مصممة لملابس الأطفال. نشأت في منزل متواضع مع أختها الصغرى، واكتشفت لاحقًا أن لديها أخًا غير شقيق أكبر من علاقة سابقة لوالدها. بدأت في عرض الأزياء في سن السادسة عشرة. وبعد عامين، وقعت عقدا مع وكالة في ميلانو. والتحقت بجامعة ليوبليانا، لكنها تركتها بعد عام، لمتابعة حياتها المهنية في عرض الأزياء. وفي 1996، انتقلت إلى نيويورك، تحمل على الأرجح حلم معظم من عاش في دولة شيوعية بالهجرة إلى أميركا. ولكنها لم تكن تعتقد أنها ستصبح السيدة الأميركية الأولى بعد عشرين عاما. التقت ميلانيا بزوجها المستقبلي، دونالد، في حفل أزياء في نيويورك عام 1998. حاول مواعدتها ولكنها رفضت في البداية، قبل أن تغيّر قرارها وتتخذ الخطوة التي ستجعلها أكثر النساء عزلة في أميركا. أعلن الاثنان خطوبتهما في عام 2004. في العام التالي، تزوجا في حفل فخم في بالم بيتش، فلوريدا، بحضور مشاهير، منهم شاكيل أونيل وباربرا والترز وكيلي ريبا ومات لوير وكاتي كوريك، ويا للمفارقة، الرئيس السابق بيل كلينتون وزوجته هيلاري. وفي عام 2006، أنجب ترامب بارون ويليام ترامب. ابنهما هو الطفل الخامس للزوج دونالد. وفي العام أصبحت أيضًا مواطنة أميركية.
تفصل بين ميلانيا وزوجها 26 سنة. وليس من الإجحاف الظنّ بأن زواجها منه كان بسبب ثرائه الواسع، ورغبتها في الحصول على الجنسية الأميركية. وقد سئلت بعد عام من زواجها ما إذا كانت ستتزوّج دونالد ترامب لو لم يكن غنيًا. أجابت: “لو لم أكن جميلة، هل تظنين أنه سيكون معي؟”. يبدو أن هذه الإجابة اللاذعة والساخرة تجسّد جوهر التبادل بينهما: المال مقابل الجمال، والجمال مقابل المال.
لا نعرف إنْ ندمت على قرارها الزواج من ترامب، ولكننا نعرف أنها لم تبدِ نحوه احتراما ولا شغفا، وخصوصا في سنواته الأخيرة. وقد شاهدناها أكثر من مرة وهي تنفض يدها من يده وهو يحاول إمساكها، ونحن نعرف الآن أنها لم تنتقل من نيويورك إلى البيت الأبيض في واشنطن بعد تسلّم ترامب مهام الرئاسة فورا، لأنها استغلّت هذه المناسبة لتضغط على الرئيس الجديد لتعيد اتفاقية ما قبل الزواج المالية، وحين نجحت في ذلك فقط، انتقلت إلى البيت الأبيض في يونيو/ حزيران 2017، أي بعد ستة أشهر من انتقال الرئيس.
يزيد من بؤس ميلانيا وجودها في عائلةٍ تكره وجودها بينهم. أولاد ترامب الثلاثة لا يحبونها، وبينهم رجلان (دونالد الصغير وإريك) متواضعا الإمكانات العقلية وذوبان في ظل شخصية الأب المستبدّة. أما البنت الذكية الوحيدة في العائلة فتكنّ لميلانيا كرها عجيبا. في كتابٍ سيصدر مطلع الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، تقول إحدى مستشارات ميلانيا ترامب المقرّبات منها إن إيفانكا، ابنة دونالد ترامب وكبيرة مستشاريه، كانت تسعى دوما إلى الإساءة إلى ميلانيا في حروب النفوذ في البيت الأبيض. وإذا صدّقنا الكاتبة، ستيفاني ونستون وولكوف، في كتاب “ميلانيا وأنا”، فإن ميلانيا، وقد فاض بها الأمر، وصفت ابنة زوجها وحلفاءها بأنهم “ثعابين”. .. مع ذلك، كان على ميلانيا أن تخرج علنا يوم الثلاثاء الماضي لتشيد بزوجها في مؤتمر الحزب الجمهوري، وتطالب الأميركيين بالتصويت من أجل إعادة انتخابه لأربع سنوات جديدة.
هل تستحق ميلانيا الشفقة فعلا؟ ربما لا. ففي كتاب للصحافية الأميركية المتميّزة في “واشنطن بوست”، ماري جوردان، بعنوان “فنّ الصفقة الخاصة بها”، لا تبدو السيدة الأولى كأنها امرأة مغلوب على أمرها، بقدر ما هي امرأة واثقة، وحقّقت ما تريد بطريقتها. في السنوات التي تلت ذلك، كان على ميلانيا أن تقدّم أكثر بكثير من مظهرها: لقد تحمّلت حملةً رئاسيةً صعبة، وإهانات ستورمي دانييلز، وشريط “أكسيس هوليوود” سيئ السمعة، والمتطلبات اليومية للحياة في البيت الأبيض. خلال هذه التجارب كلها، كانت ميلانيا عاملةً حاذقة، اعتقدت أنها ستكسب من وقوفها إلى جانب زوجها أكثر من انفصالهما. وكتبت جوردان إنه بعد اتهام ترامب بالخيانة الزوجية والاعتداء، استغلّت ميلانيا حقيقة أنه كان في حاجة إلى ولائها العام ووجودها في واشنطن، ففاوضته على اتفاقٍ أفضل لعلاقاتهما المالية. وأشارت ميلانيا إلى هذه العملية على أنها من أجل “رعاية بارون” الذي كانت قلقة من أنه لن يُعامل مثل أولاد ترامب الآخرين. وربما كانت محقّة، فقد كان ترامب يعامل بارون كأنه ابن ميلانيا لا ابنه.
وجعلت ميلانيا ترامب يطرد إحدى أقرب مساعداته: نائبة مستشار الأمن القومي، ميرا ريكارديل، عام 2018، بعد خلاف معها. وفي سابقةٍ نادرة، اتخذت السيدة الأميركية الأولى خطوة غير عادية، بالضغط علنا من أجل التحرّك ضدّ ريكارديل، حين أصدرت مديرة اتصالات السيدة الأولى، ستيفاني غريشام، بيانا يقول: “إن موقف مكتب السيدة الأولى أن [ريكارديل] لم تعد جديرة بشرف الخدمة في هذا البيت الأبيض”. وقد صعق الرئيس ترامب وقتها، ولكنه خضع أخيرا.
مهاجرة سلوفينية من بيئة متواضعة، كان طموحها أن تكون عارضة أزياء مشهورة، ولكنها صارت سيدة أميركا الأولى. تتحدّث السلوفينية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. ذكية، بدون ثقافة، قوية الشخصية من دون أن تظهر ذلك. تحصل غالبا على ما تريد. ولكنها ليست سعيدة، ففي كلّ ليلة تذهب إلى غرفتها (وحيدة) ترى زوجها في أحضان ممثلة أفلام إباحية أو تسمعه وهو يتباهى بذكوريته، أو تقرأ تصريحاته التي يهين فيها النساء والمهاجرين والملوّنين وكلّ من يخالفه الرأي. إنها سيدة أميركا الحزينة.
العربي الجديد