وائل السواح: السقوط المدوّي للرئيس ترامب

0

بدأت الانتخابات الرئاسية الأميركية في عدد من الولايات بالبريد، أو بوضع أوراق التصويت في صناديق محدّدة. وقد صوّت أكثر من عشرة ملايين أميركي بالفعل إلى لحظة كتابة هذه المقالة، بينهم كاتبها. وبعد ثلاثة أسابيع، سيذوب الثلج وتظهر النتائج. تعطي معظم استطلاعات الرأي نائب الرئيس، جو بايدن، أغلبية مريحة، وكذلك تحليلات الأكاديميين والمحللين الاستراتيجيين والسياسيين. يعتقد معظم هؤلاء أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، قد انتهى بالفعل، وأنه قد سقط سقوطاً مريعاً.

تعاون الانهيار الاقتصادي، وانتشار البطالة، والدمار الذي أحاق بالأعمال الصغيرة بشكل غير مسبوق (8% في شهر سبتمبر/ أيلول)، والوباء الذي ضرب الولايات المتحدة بفجور واستهزاء، بسبب تستّر الرئيس وإدارته على خطورة الوضع (لحظة كتابة هذا المقال تجاوز عدد المصابين 7,800,000 أميركي، وتجاوز عدد الوفيات 214000). ويعرف الأميركيون اليوم من كتاب بوب وودوورد “الغضب” أن ترامب كان يعلم بخطورة الوباء منذ شهر يناير/ كانون الثاني، ولكنه لم يتّخذ أي خطوة جدية حتى شهر مارس/ آذار. وساهم في سقوط ترامب أيضاً عجزه عن تنفيذ شعاراته ووعوده، فبدلاً من جعل أميركا “عظيمة من جديد”، جعلها مثار سخرية معظم قادة العالم الحرّ، وفشل في بناء الجدار بين المكسيك والولايات المتحدة (باستثناء عدة أميال لا قيمة لها)، وعجز عن تحديث البنية التحتية الأميركية ومحاسبة هيلاري كلينتون والانسحاب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وترحيل المهاجرين غير الشرعيين. ولم ينجح ترامب فعلاً سوى في منطقتنا العربية، حيث استطاع أن يجمع بين حكام الإمارات والبحرين وحزب الله اللبناني مع أسوأ حكومة في تاريخ إسرائيل لعقد اتفاقيات لن تكون مطلقاً في مصلحة الشعوب، وإنما في مصلحة الحكام.

مع ذلك، جاءت القشّة الأخيرة من حيث لم يكن يحتسب. جاءت إصابته بفيروس كورونا لتصيبه في كبريائه، فقد أمضى أشهراً وأسابيع وهو يقلّل من شأن الوباء، ويعد بأن يذهب من تلقاء نفسه كالمعجزة، ويشجّع أنصاره على رفض الكمّامات ورفض التباعد الاجتماعي، فجاءت إصابته لتهزّ صورة السوبرمان التي كان يحبّ أن يرسمها لنفسه، وكان موقفه، وهو يتنفس بصعوبة، حين عودته من المشفى إلى البيت الأبيض مثيراً للسخرية والأسى. ولكن إصابة الرئيس لم تجعل الجانب الخيّر فيه يستيقظ، فعلى الرغم من إصابته لم يتردّد في ركوب سيارة مع مرافقين اثنين كان يمكن إصابتهما بالعدوى بسهولة فائقة. كما أصرّ على العودة إلى البيت الأبيض، واستئناف نشاطاته الانتخابية في تجمّعات جماهيرية، يمكن أن تكون أفضل مكان لانتقال العدوى.

يمثّل صعود الرئيس ترامب حالة استثنائية في التاريخ الأميركي، إذ إن الرؤساء الأميركيين، على اختلاف أيديولوجياتهم وسياساتهم وخططهم الاقتصادية ومستويات ثقافتهم وذكائهم، كانوا يضعون الولايات المتحدة ومصالحها أولاً، وكانوا يؤكّدون أنهم رؤساء للشعب الأميركي بأكمله، وليس لفئة منه. لقد شهد تاريخ الرؤساء في الولايات المتحدة رجالاً أقوياء كدوايت أيزنهاور، وضعفاء كأندرو جاكسون، أذكياء كجون كينيدي، ومحدودي الذكاء كجورج دبليو بوش، مثقفين كباراك أوباما، ومحدودي الثقافة كرونالد ريغان. ولكن لم يكن من بينهم قبل دونالد ترامب أي رئيس وضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة البلاد، وعرّض الأمن القومي، بإرادته، للخطر، وقدّم ادعاءات رئيس دولة خصم كفلاديمير بوتين، على رأي قادة أجهزته الأمنية والسياسية والبيروقراطية.

جاء ترامب إلى السلطة على أكتاف شريحة من الأميركيين البيض الأقلّ ثقافة والأكثر تعصبّاً، وساعده أيضاً أن كثرة من الأميركيين لا يحبّذون بقاء حزب واحد في السلطة أكثر من ثماني سنوات (دورتين انتخابيتين). وبالفعل منذ 1992، لم يبق أي حزبٍ في الحكم أطول من دورتين انتخابيتين. كذلك ساعدته أيضاً رغبة بعض الأميركيين في تجريب شخص جديد من خارج “الإستابلشمنت” السياسية الأميركية، وزاد فوق ذلك أن خصمه كان امرأة، ولعلّ الأميركيين لا يزالون غير مهيئين لتقبّل امرأة رئيسة عليهم، خصوصاً أن هيلاري كلينتون لم تكن محبوبة جداً بين الأميركيين.

ولكن العامل الأكبر كان بلا شكّ النظام الانتخابي الأميركي، فالولايات المتحدّة هي البلد الوحيد في العالم الذي يمكن لمرشّح للرئاسة أن يفوز بعدد أكبر من الأصوات ويخسر مع ذلك الانتخابات التي يفوز بها من حصل على أصوات أقل. حدث هذا مرتين على الأقل. في عام 2000، فاز نائب الرئيس آل غور بنحو خمسمائة ألف صوت زيادة على الأصوات التي حاز عليها الرئيس جورج بوش في التصويت الشعبي، ولكن بوش هو من جلس في البيت الأبيض. وفي 2016، حصلت هيلاري كلينتون على مليونين ومئتي ألف صوت أكثر من دونالد ترامب، ولكن ترامب هو من يقود البلاد إلى الهاوية اليوم. 

يقارن بعض المثقفين الأميركيين بين الرئيس دونالد ترامب والملك ريتشارد الثالث في مسرحية شكسبير الرائعة المعروفة بالاسم نفسه. سرق ريتشارد الثالث الملك من ابن أخيه إدوارد، وغدا سفاحاً حقيقياً وواحداً من أسوأ ملوك إنكلترا. في الليلة التي سبقت المعركة، تطارده أشباح ضحاياه التي تلعن ريتشارد، وتبارك خصمه. يقتل ريتشارد في الحرب على يد ريتشموند (هنري السابع)، ويتحوّل إلى ذكرى سيئة في التاريخ الإنكليزي. ولكن ترامب ليس ريتشارد الثالث، ولم يكن كذلك أبداً. بل إنه لا يشبه أياً من أشرار شكسبير العظماء، مثل ياغو أو ماكبث. ليس له ذكاؤهم ولا سعة بصيرتهم، ولا بالتأكيد لغتهم العالية التي جرت على قلم شكسبير. لديه وعي ذاتي محدود، ولا يستطيع المناجاة المؤثّرة (كما في مونولوجات شكسبير) التي تتركنا في حالٍ من التعاطف مع ريتشارد الثالث، على وجه الخصوص. وإنْ كان لا بدّ من تشبيهٍ مع شخصية شكسبيرية فلعها شخصية كلاوديوس، عم هاملت، الرجل الرخيص الذي قتل أخاه وتزوّج امرأته، من دون أن يحقّق أي مجد. 

على مدى السنوات الأربع الماضية، أظهرت إدارة ترامب، بالفعل، رغبة أكيدة في سلوك مسلك استبدادي، فقرّب ترامب المتملّقين، وأبعد الرجال والنساء المستقلّين. ولكن من المهم أيضاً أن نعرف أن الرجل يفتقر إلى العناصر التي تجعل الدكتاتور دكتاتوراً، فعلى عكس معظم رجال العالم الأقوياء الذين يُفترض أن يكونوا أقرانه، يفتقر ترامب إلى القوة في وسائل الإعلام: فخارج ساعات الذروة بالنسبة لفوكس، يواجه الرئيس صحافةً معادية بلا كلل، وازدهرت منافذها الرئيسية طوال فترة رئاسته. ومن الواضح أن قيادته العسكرية لا تكنّ له كبير احترام. وعلى الرغم من مغازلة مارك زوكربيرغ، فمن المرجّح أن يقوم وادي السيليكون بمراقبته، بدلاً من دعمه في أزمة دستورية.

ومع ذلك، بعد ثلاثة أسابيع ستظهر نتائج الانتخابات، وسنصل إلى نهاية التكهنات حول ما سيفعله دونالد ترامب إذا واجه هزيمة سياسية، فهل سيترك السلطة مثل أي رئيسٍ عاديٍّ محترم، أم سيحاول وضع العصي في الدواليب. أغلب الظن أنه سيفتعل بعض المشكلات، ولكنه في النهاية سيجمع أشياءه، هو وميلانيا وبارون الصغير، ويغادرون جميعاً البيت الأبيض، مفسحِين في المجال لسكانه الجديد، بينما يبدأ ترامب بالإعداد لخطة للدفاع عن نفسه في المحاكم.

*العربي الجديد

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here