الأمكنة أرواح هذا ما أؤمن به رغم أنني أعيش منذ أشهر في باريس ، لكن روحي هناك في أزقة اللاذقية وبحرها وناسها المساكين ( شعب الطابور ) الذين ألصق صمغ الخوف شفاههم فلايجرؤون على أي إحتجاج أو إنتقاد .
ولأن المشاهد المأساوية مزدحمة في سوريا كازدحام شعب الطابور لذا قررت أن أكتب عن موضوعين لا يجمعهما سوى الوجع السوري .
الموضوع الأول : وصلتني معلومات موثقة بالصور لطلاب وطالبات جامعيين يقصدون المقاهي في الليل ويبقون حتى ساعة متأخرة كي يدرسوا ، لأن صاحب المقهى لديه مولدة تُضيئ اللدات ( وهي أشرطة كهربائية مؤلفة من مصابيح صغير جداً ) تنير المكان لكن إنارتها مؤذية للعيون إذ تُسبب ما يُسمى البهر الضيائي ( كما يحدث للعامل الذي يلحم الحديد بآلة تصدر وهجاً حارقاً للشبكية ) طلاب سوريا في عز البرد يقصدون المقاهي ليدرسوا متحملين جعير المولدة الخاصة بالمقهى والتي على مدى ساعات من جعيرها يمكن أن تدفع الطالب للهستيريا ، إضافة للسخام الأسود السام المُسرطن المُنبعث دوماً من المولدة . هؤلاء الطلاب يدرسون في المقاهي لإنعدام الكهرباء في بيوتهم ، وهم مضطرون أن يدفعوا مالاً لصاحب المقهى لأنه يتأخر بالإقفال ويتحمل نفقات المولدة الكهربائية كي يدرس الطلاب حتى ساعة متأخرة من الليل منكمشين من البرد القارس ، ومضطرين أيضاً أن يدفعوا ثمن المشروبات أو السندويش لأن صاحب المقهى لن يرضى أن يدرسوا مجاناً وسأنقل الرسالة المؤثرة التي كتبتها لي طالبة جامعية من جبلة : أرجوك أن تكتبي أن القهر فاق الوصف ، وما يجري أكثر من عهر .
“ذهبت اليوم خصيصاً إلى اللاذقية – وأنا أسكن في جبلة لأنني علمت من فترة قريبة عن إفتتاح مركز للدراسة تتوافر فيه كهرباء وأنترنيت ودخول شبه مجاني ، استيقظت باكراً وأخذب اللاب توب ولكنني لم أستطع الصمود أكثر من نصف ساعة إذ يوجد أكثر من ستين طالبة وطالب في المركز ، المنظر مُرعب وعلى كل طاولة ما لا يقل عن خمس طلاب متقاربين جداً في زمن كورونا . والله لو كانت دراستي في البيت بكتب فقط لما تركت بيتي حتى لو درست على ضوء شمعة لكن المشكلة أنني أحتاج لأنترنيت وكهرباء وكل عملي ( وعمل الطلاب ) على اللاب توب وفي ظل الغلاء الفاحش خاصة حين نضطر ( نحن الطلبة ) أن نقضي ساعات طويلة في مقاهي جعير المولدات واللدات المخرشة للعيون ، صرت وزملائي مضطرون أن نطلب مشروبات أو سندويشة وصدقيني أقل مبلغ ندفعه هو خمسة آلاف ليرة سورية وإلا صاحب المقهى يصرخ بنا : لست مضطراً لأبقى حتى 12 ليلاً لتدرسوا وأنتم تعلمون كم تكلفني المولدة . لم نعد ننتظر أي فرج ولا أي أمل ويبدو أن عمرنا سينقضي بالإنتظار وسنفشل في الدراسة وفي كل شيء .”
حرصت أن أنقل حرفياً رسالة الطالبة الغالية من جبلة لأنها تعبر عن الوضع المأساوي للطلبة وخاصة الطالب الفقير الذي لا يستطيع ارتياد مقهى للدراسة لأنه لا يستطيع طلب حتى كأس ماء ، في 24 ساعة في اللاذقية وكل المدن السورية تأتي الكهرباء كحد أقصى ثلاث ساعات وأظن أن هذه الساعات لن تقدم أيه خدمة للمواطن بالكاد يتمكن من شحن موبايله ( إن كان أصلاً يملك موبايل ) ولا يستطيع تسخين الماء ليغتسل ، بعض العائلات أصبحت تخصص يوماً واحداً ليستحم أما الأدوات الكهربائية فأصابها العطب .
هل تتعمد الدولة سياسة وفلسفة عيش المواطن في الظلام ! هل إستشارت خبراء نفسانيين ليطلعوها على الآثار الكارثية لحياة المواطن في الظلام حيث لا تدفئة ولا إنارة ولا تسلية بمتابعة التلفزيون أو تشغيل الأنترنيت ( منذ سنة كتبت الصحف السورية أن قرشاً ضخماً قضم خط الأنترنيت لذا تعطل الأنترنيت في سوريا ) هل يُعقل أن تعيش دولة في ظلام دائم ! هل حقاً هي بحالة عجز عن تأمين الكهرباء وتوليد محطات لتوليد الكهرباء !
الدولة السورية التي استوردت موبايلات من أفخم الأنواع ( سعر الموبايل أكثر من خمسة ملايين ) وقد بيعت الدفعة الأولى كلها وينتظر أثرياء الحرب الدفعة الثانية ، كيف سنصدق أنها عاجزة عن حل مشكلة الكهرباء وأين أصدقاؤها ( روسيا والصين ) لماذا لا يدعمونها بالكهرباء وبالقمح أيضاً ، شيء يشبة مسرح اللامعقول أن تجد وطناً يعيش مواطنيه في ظلام دائم ليتحولوا إلى خفافيش ، ربما الدولة العتيدة لها غاية نبيلة من تحويل المواطن السوري إلى خفاش الذي أتهم ( أو ثبت أنه مصدر كرورنا ) ربما بتحوبل المواطن السوري إلى خفاش يجعله لا يصاب بكورونا .
إحدى الأمهات حكت لي أن إبنها لديه فوبيا من الظلام ويضرب رأسه وصدره طوال الوقت مطالباً أهله أن يشعلوا الكهرباء – كم من أطفال مثله مرمرهم وأذاهم العيش في الظلام ) حتى أن البعض نشر صوراً على الأتنترنيت لصفوف مدرسة عبارة عن لوحة سوداء بدون بصيص نور ! كيف سينزل هؤلاء الطلاب الدرج ويسيرون في شوارع معتمه تحضر لهم مفاجآت من أنواع الحفريات . ولماذا حين يكون هناك خطاب لزعيم سياسي موالي للنظام يلعلع الضوء في سوريا كلها ! إحدى الفتيات سألتني ببراءة وسذاجة : لماذل كل هذا التقنين وإلى متى أتعرفين ؟ قلت : لا أعرف ومن أين لي أن أعرف ؟ قالت : يقولون أنهم يعاقبوننا ويذلوننا لأجل ذلك يعاقبوننا بالظلام ؟ لم أرد لأن الألم صار كحد الشفرة تحز قلبي ، تابعت بلهجتها البريئة الساذجة : طيب نحن شو ارتكبنا ذنوب حتى يعاقبوننا !!! والله ما نجرؤ نحكي كلمة فلماذا يعاقبوننا !!أتعرفين صرت أحس بالقرف حين تأتي الكهربا أقل من ساعة بعد قطع للكهرباء ست ساعات .
الموضوع الثاني الذي أود أن أتحدث عنه ويبدو أن لا علاقة له بموضوع الكهرباء لكنها قصة تلح علي أن أرويها لأنني كلما افتكرتها أحسست بالترويع .
القصة بإختصار أن رجلاً في الخمسينيات من عمره وهو جار لي لكنه كان يسكن دولة أوروبية ، أصيب بسرطان خبيث وأخفى عن أمه المسكينة العجوز مرضه لأنه خشي عليها من الإنهيار وهي في الخامسة والثمانين من عمرها ، وظل يصارع السرطان لسنتين حتى توفي ( رحمه الله ) وطبعاً قمت بواجب العزاء الذي كان في ساحة أحد الجوامع ولم أجد الأم ، وسألت عنها فقالوا لي بأنها بحالة إنهيار وغيرقادرة على الحركة ، حزنت على الأم الثكلى وقررت زيارتها في بيتها لتعزيتها.
أذكر أن البرد كان قارساً في اللاذقية وفي طريقي إلى بيتها لمحت أشطر بائع ماء الزهر في اللاذقية، وكنت من زبائنه، ولأنني أحب ماء الزهر خطر ببالي أن أشتري زجاجة ماء زهر للأم الثكلى لأنني توقعت أن يُغمى عليها وهي تتحدث عن إبنها البكر الذي توفي منذ أربعة أيام .
استقبلتني بأحضانها وهي تبرطم بكلمات لم أفهم منها شيئاً، وكان جهاز التلفزيون في بيتها ينقل أخبار قناة الميادين وأزعجني الصوت المرتفع ، ووجدتني أبحث عن كلمات وعبارات لمؤاساة أم ثكلى ، لكنها فاجأتني بصوتها الجهوري وهي تتفجع وتبكي وتترحم على قاسم سليماني ( الذي نقلت الأخبار خبر وفاته ) واعتقدت أنها ستنتقل للتفجع والبكاء على إبنها خاصة حين قدمت لها زجاجة ماء الزهر ، لكنها استمرت في التحدث بقهر لا يمكنني وصفه ، قهر من تلقى طعنة الغدر وأقسى ألم ، وندمت لماذا قدمت لها زجاجة ماء الزهر ، وبدأت تشرح لي ( كأن بيننا خريطة ) كيف تمت عملية إغتيال العظيم قاسم سليماني ، ولطمت صدرها قهراً لأن خسارته فاجعة ، وجدتني أقاطعها وأقول لها : خالتو خبريني عن إبنك رحمه الله صدقاً افتقدتك وقلقت عليك في العزاء ؟ فردت : آه يا خالتو ماذا أقول خلص عمره الله عز وجل يعرف نهاية عمر كل إنسان . ولا أعرف لماذا أحسست بدوار لثواني كما لو أن الدنيا تمشي على رأسها .
بدا لي الموقف على مأساويته مُضحكاً وبدأت أردد بيني وبين نفسي يا سلام أي مقال مهم سيكون عن قاسم سليماني وماء الزهر . انتهت القصة . ( هذه سوريا الصمود والتصدي والظلام ) .
*خاص بالموقع