هيفاء بيطار: طابور الموت موازياً لطابور الخبز في سوريا

0

ليس اتهاماً للسوريين بأنهم ما عادوا قادرين على الحزن على أحبتهم الذين ماتوا كشهداء أو من القصف الذي دمر مدناً بأكملها أو الموتى بسبب كورونا  أو من الموت في السجون تحت التعذيب أو الموت من قبل الفصائل والميليشيات المسلحة في سوريا – والله أعلم عددهم – فنشرات الأخبار السورية لا تقدم لنا إحصاء دقيقاً عن عدد الموتى بكورونا ، والحكومة لم تشر لا من قريب ولا من بعيد إلى لقاح كورونا ولم تعد الناس به ، لقاح كورونا الذي باشر فيه اللبنانيون رغم أزماتهم المروعة ، ولقاح كورونا الذي وصل غزة مُغيب تماماً في سوريا .

في الواقع ألاحظ منذ أكثر من سنتين ( وأتقصد أن ألاحظ ) أنه لم يعد الناس الذين فقدوا أحبتهم لأي سبب ذكرته سابقاً قادرين على الحزن ليس لأنهم – أعوذ بالله – قليلي الإحساس بل لأنهم صاروا مستودعات للحزن، ولم يعد بمقدورهم أن يحزنوا أكثر فقد طفح الكيل من الموت اليومي وثمة عبارات تتكرر كثيراً على وسائل التواصل الإجتماعي مثل :

  • نياله مات وارتاح – أو عايشين من قلة الموت – أو أن تكتب شابة في السابعة والثلاثين بيأس كامل: شو بقي من العمر أكثر مما مضى . عبارة نقبل أن تقولها امرأة في الثمانين وما فوق ليس أن تقولها شابة .

كل يوم موت جديد بالكاد يحزن الناس على الميت ، حتى يفاجؤهم موت جديد في اليوم التالي وموت جديد في اليوم الذي بعده ، وليس موت شخص واحد بل عدة أشخاص ، أصبح السوري الذي يعرف أن بداية يومه الوقوف في طابور رغيف الخبز يشعر أنه يقف في طابور الموت اللامرئي الموازي لطابور رغيف الخبز، لكأن ثمة صداقة نشأت بين الخبز والموت توحدهما كلمة ( طابور ) .

حين نحزن على الموتى ليس لأننا نفتقدهم فقط ويؤلمنا غيابهم بل لأننا نقدر نعمة وقيمة الحياة ، لكن حين تذبل الحياة في نفوس السوريين وتكاد تنطفئ وتنوس كما تنوس لدات الكهرباء في بيوتهم ويقضون ليلهم في الظلام ، حين لا يشعر السوري بقيمة الحياة وقدسيتها من كثر ما يعاني من قهر وفقر وذل يشعر أنه صار أقرب لعالم الأموات وأن طاقة حيوية في روحه سُحقت، لذا لم يعد الموت بالحدث الجلل ولا المؤلم جداً ، وصارت عبارة ( الله يرحمه) تُكتب بآليه كعبارة صباح الخير والفرح والمحبة.

وساهم الإعلام السوري إلى حد كبير في تقليص الأحاسيس الإنسانية للناس من خلال البرامج التلفزيونية التي تستضيف أمهات شهداء مات فلذات أكبادهم في الحرب وتحولوا إلى الشهيد البطل والأم الثكلى تزغرد بنشوة الإنتصار أن إبنها شهيد الوطن وبأنها تتمنى الشهادة لمن تبقى من أولادها ، فيما الكاميرا عاجزة عن إخفاء هول الألم والذهول والترويع في عينيها . طفح كيل الحزن بالسوريين وما عاد بإمكانهم أن يحزنوا أكثر ، أذكر محادثة بين صديقتين إحداهن تخبر الأخرى أن فلان مات و  … لم تتركها صديقتها تكمل كلامها قالت لها : آخر همي إن مات أو عاش لسة فلان مات وفلان مات شو بعمل يعني أموت نفسي ! لا أنسى الصفحة التي كانت تصيبيني بالذعر وأشعر أنني على شفير الإنهيار العصبي ، كانت صفحة أسبوعية في جريدة الثورة ( وربما في جرائد سورية أخرى ) تعرض صوراً لأكثر من أربعين شاباً ورجلاً استشهدوا وكان تراص الصور يُشعرني فعلاً بضيق في التنفس خاصة حين أتحدى نفسي وأتأمل نضارة الصبا في وجه كل شهيد واللافته العريضة بعنوان ( كوكبة من الشهداء ) وصدقاً أرغب أن أعرف من العبقري صاحب كلمة كوكبة ! وأصل لقمة الذهول حين أقرأ العبارات الموحدة تماماً لأهالي كل شهيد سبحان الله كلهم يكتبون نفس العبارة لا أحد يزيد عن الآخر حرف جر كلهم سعداء ويشعرون بالفخر بإستشهاد أبنائهم ، ورغم قسوة المشاعر والألم الذي لا يمكنني وصفه وأنا أتأمل صور أكثر من أربعين شهيداً منشورة في صفحة من جريدة الثورة فإنني كنت حريصة أن أتابعها كل يوم ثم أمشي كالمسرنمة إلى المشفى الوطني حيث أعمل لأجد ذات يوم لوحة جمدتني ممرضتين تتناولان طعام الفطور ( بطاطا مسلوقة وزيتون وشاي ) فوق صفحة الشهداء في جريدة الثورة ، وجدتني أقف مندهشة ومذهولة أمام هذه اللوحة السريالية ،فالممرضتين الفقيرتين المسكينتين تتناولان فطورهما على جريدة غافلتين أن أربعين شاباً ماتوا في صفحة الجريدة ، أعماهما الألم فكل منهما لديها في أسرتها وأقرباؤها أكثر من خمس أو عشر شهداء ، وقفت أتأمل المشهد وأشعر بأنين أرواح هؤلاء الشهداء ورغبتهم أن يكونوا أحياء وأن يشاركوا الممرضتين في الفطور وكأس شاي ، فكرت أيه سعادة يحس بها هؤلاء الشهداء الذين تحولوا إلى صورة لو يشاركن الممرضتين شرب الشاي ولو يتنشقن بعمق الهواء الرطب المنعش القادم من بحر اللاذقية ( لأن المشفى الوطني قرب البحر ) فكرت أنني لو أردت أن أجسد وطني سوريا بلوحة تعبر عن جوهره فلن أجد أدق وأصدق من منظر ممرضتين بائستين فقيرتين تتناولن فطوراً فقيراً فوق صفحة الجريدة النظامية السورية التي تضم أكثر من صورة لأربعين شهيد . وصدقاً خطر ببالي لو ألتقط صورة لكن تراجعت لأنه لا يمكنني نشرها لكنني الآن ( بعد سنوات ندمت ) لأن هذه الصورة تعني سوريا ، تعني أن يأكل فقير وراتبه راتب إحتقار طعاماً فقيراً فوق جريدة تضم صور شباب سوريا الذين ماتوا .

الأمهات السوريات الثكالى تحديداً عتبن مرحلة الألم إلى مرحلة الذهول ، أعرف امرأة فقيرة تعمل في تنظيف بيوت الأثرياء لديها إبن استشهد وإبن مخطوف من قبل جماعة إرهابية لا تعرف عنه شيئاً رغم أنها سألت مراراً الضابط المسؤول عنه ولديها إبنه ماتت بتشمع كبد وهي مستمرة في عملها في تنظيف البيوت وبهمة عالية وأحياناً تدندندن أو تبسمل أو تهذي أتساءل كيف لم تقتل نفسها ؟ لعلها تخشى من العقاب الإلهي فقتل النفس جريمة ، أتساءل كيف لا زالت قادرة أن تقف على رجليها وتشطف الدرج وتلمع الزجاج وتحمل السجاد الفخم الثقيل وتنهال عليه ضرباً ليطير الغبار وكأنها تنهال على جسدها ضرباً عسى غبار الحزن يخف في روحها التي ماتت . مرة تجرأت وسألتها بطريقة غير مباشرة أيه قوة إرادة وشجاعة تتمتع بهما وهي تعمل كل يوم في تنظيف البيوت نظرت إلي بشفقة وقالت : أنا في مكان آخر . فهمت أنها تعني أنها عبرت ضفة الفجيعة والمصائب إلى مكان آخر حيث يسكن ولديها الشهيد والمخطوف وإبنتها التي ماتت ، هي تسكن مع الموتى وتعمل لإجل إطعام أولاد الشهيد والمخطوف . حطام امرأة مثلها لم يعد بمقدورها أن تحزن أكثر كل موت جديد بالنسبة لها خبر لا معنى له لأنها تعيش الموت بروحها ، وخطر ببالي أن أزورها في بيتها ذات يوم ورأيتها تجلس على صوفا قديمة تدخن وتنفث الخان كأنها تطلق شحنات من روحها المحترقة بالألم رحبت بي وقدمت لها كيس قهوة وقلت لها أريدأن أشرب أطيب فنجان قهوة من يديك ، ضحكت وقالت : تريدين أن تكتبين عني أعرف أنك تكتبين وضحكت ثم مسحت دمعتين وأشارت إلى غرفة جانبية بابها موارب وقالت اكتبي عنه عن إبن الشهيد عمره 13 سنة تصيبه حالات عصبية ومنذ أيام كسر بعصا المسح كل الصور المعلقة على الجدران صور والده وعمه وصور الأنبياء والرسل وصور أخرى أيضاً ، قالت تركت كل شيئ محطماً لا أستطيع رمي صور الأحبة . وقفت عند باب الغرفة ورأيت حطام روح مراهق عمره 13 عاماً طاش صوابه من الألم وكسر كل الصور وكل المقدسات وكل ما يتوجب ألا نخدشه .

قدمت لي القهوة وهي تقول أهلا وسهلا بك .

رغبت أن أقبل يديها أصابني إختناق وطلبت كأس ماء . بلعته رشفة رشفة لأن حنجرتي تشنجت . قلت لها أحب أن نلتقي زورينني أرجوك قالت سأزورك لم لا . امرأة من نور امرأة مهما دمرها الألم تظل قادرة على العمل لتطعم أحفادها أولاد الشهيد وأولاد المخطوف منذ ثلاث سنوات ولا تعرف عنه شيئاً .