لا أعرف لمّ ألح علي هذا السؤال بإلحاح عجيب ، لدرجة كلما حاولت طرده من عقلي والإستخفاف به ألح علي أكثر . السؤال اللجوج الذي التصق بتلافيف دماغي هو : ترى ما شعور أجهزة الأمن السورية أمام الجنازة المهيبة للمخرج المبدع حاتم علي التي شارك فيها كل أطياف الشعب السوري عدا نقابة الفنانين طبعاً والتي طردته من عضويتها !أعرف سلفاً سخف هذا السؤال، فأنا واثقة أن أجهزة الأمن لن تغير من تعاملها مع الشعب السوري أي سيبقى مُروعاً منها .. لكن حدس قوي في داخلي جعلني أؤمن أنها في مأزق وأن وفاة قامة إبداعية مثل حاتم علي خارج وطنه ووصيته أن يُدفن في دمشق التي يعشقها ، هذا الحدث يفتق جروحاً كثيرة وحوادث اعتقدت أجهزة الأمن أنها دفنتها وارتاحت منها . رغم أن بعض التافهين والشبيحة قالوا وكتبوا على صفحاتهم : لم يجبر أحد حاتم علي على الخروج من دمشق هو خرج بإرادته ؟
حاتم علي التزم الصمت ، لكنه صمت الإحتجاج وعدم الرضى وقد تعرضت زوجته الكاتبة المبدعة ( دلع الرحبي ) للإستجواب والمضايقات من قبل أجهزة أمنية عديدة حتى هجت وأسرتها إلى كندا، وحين مات حاتم علي كانت زوجته دلع الرحبي في كندا وأصيبت بإنهيار عصبي . موت حاتم علي يفتق جروحاً وحوادث مُخزية اعتقد النظام أنها ذابت في النسيان .
سوريا خسرت مبدعين كثر منذ بداية الثورة السورية عام 2011 . سواء من بقي داخل سوريا أو خارجها . أتمنى لو يحضر الجميع المقابلة مع الممثل عالي الإبداع وكاتب القصة بسام كوسا الذي لم يُغادر سوريا أبداً لكنه هُمش على نحو مخزي ، قال بالحرف الواحد : لم تعد شركات الإنتاج خارج سوريا تطلبني للعمل معها إعتقاداً منها أنني موالي للنظام ، ولم تعد شركات الإنتاج داخل سوريا تطلبني للعمل معها لأنني لم أطبل وأهلل وأرقص وأغني وأدبك للنظام بل التزمت الصمت وأنا مع شعبي السوري الحبيب . وأنهى مقابلته بالعبارة البليغة التالية : والله لا أعرف بعد هذا الكلام الذي قلته إن كنت سأصل سالماً إلى بيتي .
فنان بقامة بسام كوسا لم يغادر سوريا عُوقب بالتهميش فما عاد أحد يطلب منه أن يمثل وهو عبقري في التمثيل ويستحق البطولة المطلقة . يحضر بسام كوسا بقوة في وفاة حاتم علي ، يحضر كذلك الممثل المبدع جمال سليمان الذي ترك سوريا وهو في قمة نجوميته لكنه كان مُعارضاً لسلوك النظام ، واستمر في نجوميته وعطائه الفني المبدع في مصر وغيرها ، لكن الحاسديين في الداخل أخذوا يُروجون إشاعات عنه بأنه بخروجه من سوريا وإنتسابه للمعارضة فقد ضمن أن يحصل على أدوار البطولة كل حياته ! يا للعار والقرف والتزوير على هذا الكلام لأن جمال سليمان عالي الموهبة سواء كان داخل سوريا أو خارجها لكن ثمة من يريد تحطيم المبدعين الذين يتجرؤون ويعترضوا على ممارسات النظام وخاصة الإعتقالات والتعذيب في المعتقلات لكنهم أيضاً ينتقدون الحركات المتطرفة بإسم الإسلام ويصفونها بالمجرمة وبأنها لا تمثل الشعب السوري وهي مرتبطة بأجندات خارجية لدول تمدها بالمال والسلاح .
ممثل عظيم آخر أعتبره أيقونه في التمثيل خالد تاجا ، خالد تاجا الذي قدم أدواراً عظيمة وكان صاحب موهبة عبقرية مات مقهوراً وذليلاً في وطنه . يتفتق موت حاتم علي على قصص الكثير من المبدعين الذين عُوقبوا لأنهم إنتقدوا النظام ( وأؤكد أنهم إنتقدوا الجماعات المتطرفة المسلحة واتي اتخذت من الدين تمويهاً لإجرامها ) .
منذ مدة حضرت مقابلة مع المطرب العظيم نور مهنا وكان صوته يرشح ألماً لما حصل في مدينته حلب وكيف إضطر لتركها بعد رؤيته للبراميل المتفجرة تنهال عليها ، يارا صيري ممثلة عظيمة اضطرت لترك سوريا أيضاً لأنها إنتقدت النظام ، نقابة الفنانين السوريين برئاسة الزعيم إلى الأبد زهير رمضان ( الذي لم ينجح في إنتخابات النقابة ، ونجح فادي صبيح بإنتخابات حرة وصار رئيساً لنقابة الفنانين ) لكن هبط القرار من فوق بأن يعود زهير رمضان رئيساً مؤبداً لنقابة الفنانين التي طردت حوالي 200 مبدع بين ممثل ومخرج من نقابتها !!! وبعض المخرجين والفنانين تمت معاقيتهم بالحجز على أملاكهم وبيوتهم وصُنفوا إرهابييين !
لا أعرف كيف لمثقف ومبدع أ،ن يُصنف إرهابي !!! صارت الساحة الفنية السورية مقتصرة على مُخرجين أو على الأكثر ثلاثة !!! يخرجون أفلاماً خاصة عن فلسطين التي صارت شماعة كل القضايا العربية ، أي أن مخرجاً سورياً لا يهتم بالظلم والفقر والذعر الذي يعيش فيه مواطنه السوري بل يموت قهراً على ظلم الشعب الفلسطيني !!! طبعاً الإنسان الخلوق سواء كان مبدعاً أم غير مبدع عليه أن يقف بجانب الحق ، وغصت الكثير من شوارع اللاذقية ( ولا أعرف وضع المدن الأخرى في سوريا ) بصورة الممثل دريد لحام ! وأتعجب ما الغاية من نشر صوره !وهل يعتقد أن الشعب السوري يعتقد أنه يمثله ؟
الكل يعلم العلاقة الوثيقة بين دريد لحام وأجهزة الأمن والصداقة التاريخية التي تربط بينهما ، ترى لماذا لم يدافع دريد لحام عن ماكسيم خليل المثل المبدع الذي لم يقبض لأي أجر حين أخرجت المخرجة واحة الراهب فيلمها الرائع الوثاثقي عن زواج القاصرات في مخيمات النزوح السورية ، كان مكسيم خليل هو بطل الفيلم ولم يقبل أن يقبض أجراً فيلم مهم جداً للمبدعة واحدة حصد جوائز كثيرة فيما هي وزوجها مطرودان خارج سوريا مع حجز على أملاكهما . أي رعب لا يمكن وصفه يعيشه المواطن السوري ! مواطن لم يعد يهمه سوى أن يبقى على قيد الحياة أي أن يدق قلبه كرقاص الساعة أما الحياة الحقيقية التي أساسها الحرية فهي معدومة أصبح السوري يحسد الأموات يقولون : نياله مات وارتاح ، أيه حياة هذه أن نحسد الموتى على مغادرتهم لحياة الذعر والخوف .
حين إستدعاني الأمن العسكري أخر مرة قال لي صديق مقرب جداً وذو نفوذ : أمامك إحتمالين لا ثالث لهما : إما أن تخرسي تماماً ولا تتكلمين أية كلمة تنتقد النظام أم تغادري سوريا ! قلت له بقلب موجوع : لكنها وطني وهي سوريا المجد وسوريا لكل السوريين . قال لي : لقد نصحتك . ولأنني فعلاً وصلت إلى مرحلة القرف من الخوف قررت أنني لن أموت ذليلة وصامتة وأنني سأفقأ عين الخوف وسأحكي . الكلمة شرف .
أتأمل صور الكثير من السوريين في الداخل خاصة المرتاحين مادياً يا سلام أيه سعادة تشع من صورهم بملابسهم الفاخرة ، وموائدهم الدسمة حيث تزدحم أطباق اللحوم مع الأسماك مع الحلويات مع الفاكهة ، وحيث تلعلع الكهرباء لتشهد وتكشف عفن نفوسهم وتجاهلهم المقرف لمعاناة شعب الطابور ولسجناء الرأي وللفقر المدقع الذي طال رغيف الخبز . يا لسعادتهم في صورهم في الفنادق الباذخة والسهرات التي ( تطير العقل من السعادة ) كما يقولون . ويتغنون بنعمة وبركة لمة الأسرة والأصدقاء ، ويدعون بطول العمر لأهلهم الذين تجاوزوا التسعين فيما الموت يحصد المئات من أطفال وشباب سوريا كل يوم بسبب الجوع والبرد والخوف والفقر وكورونا . أمهات كثيرات عرضن إبتساماتهن الفاتنة ( الإبتسامة الهوليودية ) وأنا قتهن أمام كومة هدايا قدمها لهن بابا نويل ، يا لإنعدام الوجدان الذي يفوق إنعدام الحس بمراحل .
تمثال الشوكولا الذي يزيد وزنه عن 350 كيلو غرام شوكولا والذي زين فندق فور سيزن في دمشق كان يجب أن يدفع أطفال سوريا لإقتحام الفندق وإلتهامه . لكن حتى الأطفال تغيرت جيناتهم الوراثية وتعلموا الصمت وإلا سيُقادون إلى مركز الأحداث أو السجن ويشبعونهم ضرباً مبرحاً . . يمكنني أن أذكر مئات القصص عن خسارة سوريا لمبدعيها الوطنيين الشرفاء والذين أبدعوا في الخارج لأنهم أساساً موهوبيين وشجعان وأي عارأن يُصنف بعضهم إرهابيين!
لكن حدسي لا ينفك يهمس لي بأن جنازة العظيم الوطني المبدع حاتم علي تلك الجنازة المهيبة لمبدع أحب وطنه حتى الموت عشقاً ( ادفنونني في دمشق ) عبر عن حبه بأعمل إبداعية عظيمة .
موت حاتم علي فتق كل جروح المواطنين السوريين فعاد اسم بسام كوسا يلعلع أين هو ؟ واسم جمال سليمان الذي يتمنى الجميع لو يعود لسوريا ، كذلك نور مهنا وغيرهم . جنازة حاتم علي المهيبة التي شارك فيها كل السوريين ستهز ضمير السوريين وسيصلون إلى حافة الإنفجار أو ستكون مثل الشعرة التي قصمت بعير الخوف . عسى الأجهزة الأمنية السورية التي أساساً وظيفتها إشاعة الأمان في نفوس المواطنين وليس الذعر ولبس العقوبات مثل المنع من السفر أو الإعتقال . عسى تلك الأجهزة الأمنية تتعلم الحب الأصيل من مبدع عظيم صمته من ذهب وأعماله سيخلدها التاريخ ، كل إبداعه كان مُبطناً بحب سوريا . الحب وحده يبني , حبذا لم أن الأجهزة الأمنية تحب الشعب السوري كما أحبه حاتم علي . وأن يعود مبدعيها إلى حضن سوريا أحياء وليسوا في نعش كما عاد العظيم حاتم علي .
*خاص بالموقع