هيفاء بيطار: انتحار الشباب في سوريا جريمة قتل

0

أصبحت ظاهرة إنتحار الشباب في سوريا واقعاً – على مأساويته – عادياً مثل إعتياد الناس على منظر طوابير الخبز أو طوابير إنتظار راتب الإحتقار من أمام الصرافات ، كل يوم تطالعنا صفحات التواصل الإجتماعي على صور شبان ( وشابات ) بعمر البراعم ينتحرون ، وللأسف ثمة فئة من الناس عديمة الضمير ولا تقف مع الحقيقة تبرر إنتحار الشباب في سوريا كالتالي : الإنتحار ظاهرة عالمية وأعلى نسبة إنتحارات هي في الدول المتقدمة جداً كالسويد مثلاً !

لا أعرف كيف يطاوعهم ضميرهم أن يقارنوا الإنتحارات التي تحصل في الدول المتطورة جداً والتي غالباً سبب الإنتحار فيها هو فقدان معنى لحياتهم وإفتقارهم للقيم الروحية والعلاقات الإنسانية ، هؤلاء ينتحرون من الفراغ والترف والملل والوحدة . لكن إنتحار شباب سوريا يختلف جذرياً عن إنتحار بعض الناس في الدول المتطورة ، وليسمح لي الجنرال ميشيل عون الإستشهاد بعبارته ( نحن ذاهبون إلى الجحيم أو نحن في الجحيم ) الأمر ينطبق تماماً على الوضع في سوريا فأصبحت الحياة فيها جحيماً لكنه جحيم صامت ، صمت القبور ، صمت الجثث ، في لبنان يصرخون ويشتمون ويتظاهرون ويطردون الفاسدين من المطاعم ويضربونهم ويشتمونهم ، في لبنان برامج تفضح فساد المسؤولين بالأسماء والوثاثق مثل ( محاكمة حكم الفاسد) و ( حكي صادق ) و( طابور الموت ) و( بإسم الشعب ) الخ وقد يقول البعض ما قيمة هكذا برامج وطبقة الفاسدين في السلطة . في الواقع هذه البرامج مهمة جداً وجريئة لدرجة الخوف من إغتيال من يقدمها ، لكنها تعبر عن ضمير الناس وإحساسهم بالقهر والظلم ، من أبسط حقوق الإنسان أن يتكلم فهو حيوان ناطق . ما عدا في سوريا الكلام ممنوع وإلا تلاحقك جريمة ( وهن عزيمة الأمة ) أيه مهزلة أكبر حين تنشر صورة شباب بعمر البراعم يجب أن يكونوا متفجرين بحب الحياة والأحلام والمشاريع العظيمة لبناء وطن الحرية والكرامة فيكون رد السلطة في سوريا بأن نشر صور المنتحرين يوهن عزيمة الأمة!

أتساءل مثلاً : ما الذي لا يُمكن أن يوهن عزيمة الشعب السوري ؟! أغاني علي الديك مثلاً ! أو أغنية ( سوريا يا حبيبتي أعدت لي كرامتي أعدت لي حريتي !) وكرامتة السوري معفرة في ذل قهر العيش والفقر والجوع والذعر ، وحريته مُصادرة في السجون . وصمت القبور هو العيش في سوريا الكل صامت فما شهدوه وعاينوه طوال عشر سنوات من موت وتهجير وفقر جعلهم أحياء أموات ويقولون ( نحسده مات وارتاح ) ! إرتاح من ماذا ؟ إرتاح من القهر والجوع والذل وسحق الكرامة ، أن يكتب لي صديق في السابعة والسبعين من عمره حالته المادية متوسطة يرجوني ( كغريق يتعلق بقشة ) إن كان بإستطاعتي أن أدله على طريقة ليعيش ما تبقى من عمره بكرامة ، طلب مؤلم للغاية يل على مدى قهره وذله .

أحد الشبان الذي أعرفه شخصياً وكان شعلة في الذكاء حاول الإنتحار لكن تم إنقاذه قال لي : خمسة من أعز أصدقائي استشهدوا أو ماتوا تحت التعذيب فلماذا أعيش.. أرغب أن ألحقهم .  

حين يعجز طلاب جامعيين عن تصوير محاضرات لأساتذة لأن الورق صار غالياً جداً كذلك الحبر ، وحين يعجز طالب عن تحقيق حلمه بأن يدخل كلية طب الأسنان مثلاً التي يتمناها رغم أنه حقق مجموعاً شبه تام في شهادة البكالوريا ( الشهادة الثانوية ) لأنه تنقصه ربع علامة ليدخل جامعة الدولة بل عليه لتحقيق حلمه أن يكون إبن مليونير يدفع له قسطاً سنوياً أربعة ملايين ليرة سورية القسط السنوي لجامعة خاصة لطب الأسنان ، موت الأحلام هو موت الشباب ، يشعرون بقهر يعجز عقلهم إستيعابه ، أحد الشباب المنتحرين مؤخراً في دمشق وهو بعمر 22 سنة كتب : أحببت دمشق لكنها لم تحبني سامحوني لم أعد قادر غلى تحمل القهر .

ليس الفقر وحده وإنعدام الأمل من يدفع شباب سوريا للإنتحار ففي أحسن الأحوال سيتخرجون من الجامعة ( شبه أميين ) تنتظرهم البطالة عادة ومن يكون له الحظ أن يتوظف سيقبض راتباً بالكاد يكفيه لشراء الخبز . أهالي هؤلاء الشبان يبيعون أثاث بيوتهم لتأمين المبلغ الضروري للمُهرب ( عادة عشرة آلاف يورو ) . أن ينتحر طالب طب أسنان في اللاذقية ( رغم أنه يُفترض أن يكون سعيداً أنه سيتخرج طبيب أسنان ) له دلالات كثيرة فهذا الطالب في كلية طب الأسنان يعاين الفساد ويعيش جوعاً حقيقياً وسط غلاء الأسعار الخيالي ويستفزه حتى الإنتحار السفلة تجار وأثرياء الحرب الذين يتباهون بملياراتهم أمام الناس بسياراتهم الفارهة والمطاعم الفاخرة التي يرتادونها وعلى حتفال بأعياد ميلاد زوجاتهن أو أولادهم وكل حفلة تكلف حوالي مئة مليون ليرة ! هذا هو القهر بأعلى مستوياته ، هذا هو الذل بأحقر أشكاله وهؤلاء من يجعلون شريحة من الشباب تقرف العيش ويتعذر عليها تحمل الذل والقهر فتنهي حياتها بالإنتحار ، هؤلاء الشبان الضحايا المنتحرون صحيح أنهم قتلوا أنفسهم لكن من لف حبل المشنقة على رقبتهم أو من قدم لهم جرعة الأدوية السامة التي توقف القلب والدماغ هم المجرمون المسؤولين عن إنتحارهم ، القاتل ليس من يضغط على الزناد بل من يأمر بالضغط على الزناد .

شبان سوريا فقدوا الأمل بعيش كريم وبالمستقبل ، لم يعد بمقدورهم تحمل كل هذا القهر والظلم والجوع والخوف ويا ويلهم لو عبروا عن وجعهم بكتابة على الفيس عندها سيجدون أنفسهم في زنزانة بتهمة ( وهن شعور الأمة ) .

شبان سوريا لم ينتحروا برغبتهم بل تم قتلهم بكل طرق الذل والقهر والفقر والفساد .

شبان سوريا المنتحرون شهداء .