في رواية ( الخبز الحافي ) للروائي المغربي محمد شكري، والتي أثارت الكثير من النقد والهجوم عليها لأنه تحدث بصراحة وشجاعة عن قاع المدينة، أي عن تلك الطبقة من الفقراء فقراً مدقعاً أحب أن أستعيد حادثة بالغة الأهمية في الرواية، وهي حين عاد والد محمد شكري ( الذي كان طفلاً في التاسعة من عمره ) إلى البيت مساء وليس في جيبه قرشاً واحداً ولا يحمل أي طعام ليطعم أولاده ، وكان الأخ الأصغر لمحد شكري ( 6 سنوات ) لا يتوقف عن البكاء بسبب الجوع ، والأب عاجز والأم عاجزة ( كانت ترسل أولادها إلى المقابر ليجمعوا البقلة كي تطعمهم وتسد قليلاً عضات الجوع في معداتهم ) جن جنون الوالد من البكاء المستمر لإبنه الصغير الجائع فتقدم منه وأمسكه من رأسه بكل القهر والغضب وإنعدام الكرامة ، أمسك الأب رأس إبنه الصغير بقوة وفتله غير واع نتائج فعلته التي أدت إلى إنقطاع النخاع الشوكي وموته. محمد شكري حكى بشجاعة كيف قتل والده إبنه الصغير وكيف ( الأب ) لم يتوقف عن البكاء في اليوم التالي أثناء جنازة الطفل .
اليوم في نشرة أخبار الجديد اللبنانية عرضوا صورة مموهة الوجه لرضيع عمره سبعه أشهر تعرض لضرب وحشي من قبل أمه أدى إلى نزيف حاد في الدماغ وكسور في الجمجمة وأذيات خطيرة أخرى ، وتبين أن الأم تضرب بوحشية أيضاً إبنها البالغ من العمر سنتان وبرضا الأب.
يصعب تخيل وحشية أم حملت إبنها تسعة أشهر في أحشائها كيف تكون متوحشة لهذه الدرجة ، بالتأكيد هي مجرمة وتستحق العقاب، لكن السؤال الذي يجب طرحه : لماذا صارت هذه الأم مجرمة ؟
ثمة حالات كثيرة سمعنا بها وشاهدناها في برامج تلفزيونية عن ضرب وحشي مبرح للأطفال من قبل أهلهم ، تنوعات رهيبة في طرق التعذيب أولادهم. هذه الظاهرة تزداد عالمياً وليس في الدول الفقيرة فقط ، رغم ارتفاع نسبتها لدى الفقراء ، لكن للأسف في عالمنا العربي يتم التعتيم عن تلك الممارسات ونادراً ما يتقدم قريب أو جار بشكوى ضد أب أو أم تعنف أطفالها.
يتم الصمت على تعنيف الأطفال في عالمنا العربي كما يتم الصمت على جرائم الشرف حيث تتماهى المُغتصبة مع مغتصبها وتصير مصدراً للعار وغالباً يذبحها أهلها ( أحياناً الأم تذبح إبنتها ) . وخلال عملي لربع قرن في المشفى الوطني في اللاذقية ( يمكن إعتباره تماماً قاع المدينة إذ غالبية قاصديه من الفقراء ) كنت شاهدة على حالات مروعة من تعنيف الأطفال وإنتهاك طفولتهم ، عدا عن حرمانهم من أبسط مشاعر الحب والحنان والعطف ، وفي الطب تعبير درسناه اسمه ( جوع الجلد ) أي أن جلد الإنسان بحاجة للمس ، لمسات الحنان تعطي الحب والأمان للصغير والكبير أيضاً ، حين يبكي طفل صغير وتداعب خده بحنان يشعر بالحب فيسكت .
ولأن الجهل والفقر متلازمان فإن الفقير الأمي غالباً الذي رغم فقره وعجزه عن تأمين خبزه اليومي يتزوج ويبدأ بإنجاب طفلاً تلو الآخر، ولأنه مُهمل ومُهمش وعاطل عن العمل ولا تبالي به الدولة ، ولأنه يشهد الفساد ومظاهر التباهي بالثراء ويعرف أن هؤلاء يسرقونه ويسرقون البلد فإن غضباً عظيماً يتصاعد في روحه إضافة لإحساسه بإنعدام الكرامة وبأن لاقيمة له ، وغالباً ما يكون مذلولاً ذلاً فظيعاً لدى من يعمل عندهم ( وأحب أن أذكر تلك الحادثة فذات يوم احتجت لمساعدة ضابط عالي المرتبة من أجل مسألة ما ، وكان هذا الضابط فاحش الثراء ويدعي أنه كاتب ويحب الكتاب ، وقد صار فيما بعد رئيساً لإتحاد الكتاب العرب في اللاذقية لسنوات وخرج بفضيحة أخلاقية لا مجال لذكرها الآن ) اضطررت أن أقصد الضابط من أجل ورقة أحتاجها، وكان مكتبه يغص بالمراجعين والأصدقاء وكلهم يتبارون في تعظيمه ، واستقبلني بحفاوة وأجفلت لما صرخ حتى كادت حبال حنجرته تتقطع : وينك يا حمار ، وللتو حضر شاب مكسور الخاطر يكز على أسنانه من القهر والغيظ وقال له : حاضر سيدي تحت أمرك ، فقال الضابط : خذ الورقة من الدكتورة وسلمها لفلان . وصدقاً بصعوبة إبتلعت سؤالي : لماذا تقول له حمار ! لكنني آثرت الصمت لأنني كنت بحاجة لهذه الخدمة ، عرفت فيما بعد أن هذا الشاب ( الحمار ) حين يغضب من إبنه الصغير ( أربع سنوات ) يضربه ضرباً مبرحاً بحزام بنطاله وأحياناً بمنفضة السجاد ، هذا ما اعترفت لي زوجته حين راجعتني في المشفى الوطني بسبب نزيف صاعق مع جرح في صلبة العين لأن الطرف المعدني من الحزام أصاب بقوة عين الصغير ، وللأسف لم أتمكن من إنقاذ عين الصغير لأنه تبين وجود إنفصال كبير في الشبكية أيضاً، وكانت نتيجة العمل الجراحي سيئة ، هذا الطفل سيعود للعيش مع أبيه وأمه وسيتمر إنتهاك طفولته لأن والده يسمع مئة مرة في اليوم كلمة حمار من سيده ، الضابط يناديه يا حمار وهو يرد : حاضر سيدي . ولأن الأطفال ضعفاء ولا يملكون أية آلية للدفاع عن أنفسهم فإن الكبار الجهلة والمسحوقين والفاقدي الإحساس بكرامتهم كبشر يجدون في تلك المخلوقات الهشة الرقيقة شهوة الإنتقام وتفريغ الأحقاد .
أول قاعدة تعلمتها في الطب النفسي وتبدو للوهلة الأولى بديهية : لا يجوز أن نقول عن إنسان أنه بصحة نفسية جيدة وسليمة إن لم يخضع لإختبارات في الطب النفسي ، لذا فإن المختلين نفسياً وعقلياً نسبتهم كبيرة في مجتمعاتنا العربية التي يفتك بها الجهل والفقر ، حتى أن أحدى مريضاتي وكان إبنها مجنوناً ويعاني من إنفصام في الشخصية قالت لي : شو رأيك دكتورة أزوجه يمكن يعقل بعد الزواج !
انتهاك الطفولة مروع في عالمنا العربي ، هؤلاء المسحوقين الذين يبلعون الظلم والإهانات ويصمتون على التحقير والسخرية يصبحون قساة ، قسوة مخيفة تصل حد القتل والإجرام وبحق أولادهم المساكين الذين لا يجدون سواهم لتفريغ غضبهم ، وأظن أن الكثير منهم يصابون بحالة نفسية هي التماهي مع المعتدي التي استفاض في شرحها بطريقة رائعة الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ( سيكولوجية الإنسان المقهور ، كذلك في كتابه الثاني سيكولوجية الإنسان المهدور ) إذ يتماهى المظلوم مع الظالم ويقلده ويصبح ظالماً مثله ، ما شهدته خلال عملي في المشفى الوطني في اللاذقية من فظائع وإنتهاكات حقوق الطفل والتحرش الجنسي بهم ( وبرضا الأم غالباً ) مروع . وكل تلك الجرائم تُدفن في الصمت .
الإهمال جريمة لا تقل عن الضرب المبرح بحق الأطفال ، نادراً ما نجد في الطبقات الفقيرة من يفهم بالحد الأدنى من علم نفس الطفل ، يترك الأطفال في الشارع لساعات معرضين للخطر والإستغلال .
ذات يوم التقيت بطفل عمره ثلاث سنوات وكان الشتاء قارساً والساعة الثامنة مساء وإبن السنوات الثلاث يقطع أوتستراد خطير مقابل مشفى الأسد حيث لا توجد إشارات مرور ، اعتقدت أنه ضائع فسألته : ماذا تفعل في الشارع قال وهو يهز ورقة نقود من فئة 200 ليرة أرسلتني أمي إلى البياع لأشتري لبنة كي نتعشى ، أظن هذه الأم لا مانع لديها لو دهسته سيارة إبنها ومات .
إنتهاك الأطفال ليس بالضرب المبرح فقط بل بإحتقارهم والتقليل من قيمتهم ،والتنمر عليهم وأحياناً يكون التنمر على الفتيات أكبر خاصة في حالات زواج القاصرات وفي النظرة التحقيرية الدونية للطفلة.
لا أنسى الطفلة التي سقطت من الطابق الثالث وكنت مناوبة في المشفى الوطني وهرعت لإسعافها وتهللت روحي فرحاً لأن الطفلة لم تكن مصابة بأي أذى سوى بعض الكدمات ، وقلت لوالدها بسعادة الحمد لله إبنتك سليمة ( كان عمرها 7 سنوات ) قال لي وعلى مسمع الطفلة : لو أخوها سقط بدلاً منها كان مات البنات بسبع أرواح ، ياإلهي كيف انكمشت الطفلة من الألم ووالدها لم يقل لها الحمد لله على سلامتك .
نشهد عنفاً مروعاً ومتصاعداً لدى الأطفال في عالمنا العربي خاصة بعد وباء كورونا حيث زاد الفقراء فقراً وحُوصروا في البيت دون أيه مساعدة من الدولة ، فيما طبقة الحكام والمسؤولين والفاسدين يزدادون ثراء وتوحشاً واحتقاراً للفقراء الذين يحرقون أنفسهم أو ينتحرون أو يضربون فلذات أكبادهم لأن صوابهم طاش من القهر والظلم . لو أمكن لهؤلاء المسحوقين أن ينتقموا من (كلون يعني كلون ) لما وصلنا إلى تلك الجرائم المروعة بحق الأطفال .
القتلة الحقيقيون هم طبقة الفاسدين أصحاب المليارات ، وهم بفجورهم الأنيق يفجرون طاقات القهر والعنف والغضب لدى أم وأب لم يتمنيا يوماً أن يصبحا مجرمين .
وأحب أن أشير لنقطة هامة وهي أن تقارير السماح بالزواج في مجتمعاتنا العربية تكون شكلية ، وأي طبيب يكتب عبارة : لا مانع من زواج فلان من فلانة وهما بكامل صحتهما الجسدية والعقلية . وغالباً يحضر هوية العروسين أحد الأقارب وتُكتب تلك العبارة . يا لعار وزارة الصحة على كل من يرغب بالزواج أن يخضع لفحص عقلي قبل الفحص الجسدي .
*خاص بالموقع