هو حجر الأساس للعيش في سوريا – التعهد – أي أن تكتب تعهداً للأجهزة الأمنية بما يملونه عليك ، لأن الشرط الأساسي للتعهد ليس ما تكتبه أنت بل ما يُملى عليك ، وممنوع الإعتراض أو حتى الإستفسار. ستكتب ما يُملى عليك في فروع الأمن ( كنت ُ أتمنى إضافة لمادة القومية التي يدرسها طلاب سوريا في المدارس والجامعات أن تكون هناك مادة لفهم تنوعات فروع الأمن ووظيفة كل منها ) . في الواقع لم أكن أرغب أن يكون عنوان مقالي ( التعهد بل قضية رأي عام ) لكن الحذر والخوف المتجذران في أعماقي رجحا عنوان تعهد . وسأشهد على بعض الحوادث معي ومع غيري التي يجمعها التعهد .
- في إحدى المرات التي استدعيت إلى أحد فروع الأمن بسبب مقالات كتبتها ، وبعد الحديث بين العميد أو العقيد في فرع الأمن بأنني أنشر الغسيل الوسخ في مقالاتي وهذا عيب وإهانة بحق وطن عظيم كسوريا ( عبارة نشر الغسيل الوسخ هي القاسم المشترك الأعظم في كل فروع الأمن ) وكان ردي واحداً في كل مرة أستدعى لفرع أمني وأكون أيضاً ممنوعة من السفر ( أحب أذكركم أن من أقوال الرئيس الخالد حافظ الأسد : السكوت عن الخطاً مشاركة فيه ) يعني عيب وقلة ضمير أسكت عن الخطأ. كانت تلك العبارة تنقذني وتنهي الحوار رغم الإمتعاض الشديد الذي تعكسه وجوه المحققين . في إحدى المرات كان المحقق غاضباً جداً من مقال كتبته ( لا أذكر بالضبط أي مقال ) وقرع الجرس فحضر موظف وقال له خذها ( أي أنا !! افتكرت للوهلة الأولى أنه يقصد شيئاً طاولة مثلاً ويقول له خذها لكن الخذها كانت لي !!! يا للإحترام ) ونظر إلي الموظف ببرود وكره وقال تعالي معي وسرت معه كأنني عمياء أنزل درجاً وأصعد درجاً أتأمل أبواباً حديدية أحاول تخيل من يوجد داخل تلك الغرف ثم وصلنا إلى غرفة بائسة فيها مكتب صغير عتيق وصوفا مضحكة مخلعة والألوان الفاقعة تغطي مفرشها ، وأعطاني الموظف ورقة وقلماً وقال : اكتبي . وهدأت نفسي وقلت : لا بأس سيكون هذا مشهداً في رواية سأكتبها ، وبدأ يُملي علي بأنني أتعهد بألا أكتب في جرائد ومواقع الكترونية أخذ يحصيها وكان تركيزه الأكبر على جريدة الحياة ، وكان يُملي علي الكلام ببطىء شديد وصوت رخو ليوصل لي إحتقاره ، وكنت أكتب لأن لا كرامة لسوري في سوريا ولأنني لا أعرف إن رفضت ماذا يمكن أن يكون موقفه ، ثم صرت أصحح له الأخطاء النحوية وهو يُملي علي ما أكتبه ولوهلة أحسست أننا نلعب ، فهو يقول وأنا أكتب ما يأمرني به لكنني صرت شريكته أصحح له قواعد اللغة . كتبت صفحة كاملة لا أذكر تفاصيلها سوى أنني أحسستها صورة طبق الأصل من صفحة كتاب القومية . وخرجت من المبنى أتأمل أرملة الساحل اللاذقية كم تشوهت منذ جريمة تبليط بحرها وسحق أجمل مقاهي بحرية ، ومشيت وعبارة واحدة تطن في أذني ولا يكف عقلي عن تردادها ( خذها ) وتساءلت بغباء وسذاجة : لماذا لا أشعر بكرامتي في وطني ! ووقفت لأشتري فريز من عربة بائع كان يتمتم غاضباً فسألته : خير يا أخي ..لم يتركني أكمل قال : الله يلعن هالعمر أحسد اللي ماتوا ، يلعن أبو هالعيشة بالعين السكين وساكتين . وعرفت أنني كل عمري لن أنسى تلك العبارة : بالعين السكين وساكتين .
- تعهد آخر : شاب من اللاذقية في الأربعينات من عمره من أسرة عريقة جداً ( والده كان عالماً في الموسيقى والآثار ) والشاب مثقف جداً في الموسيقى والفلسفة والرياضيات وهو إنساني جداً مؤمن إيمان يحوله لأفعال ، إذ آمن بأنه يمكن أن يكون منقذاً ومُخلصاً للعديد من أطفال الشوارع خاصة الأطفال الذين يشمون ( مادة الشعلة وهي لاصق يخرب خلايا الدماغ ) ويعطيها الشياطين الذين يشغلون الأطفال للأطفال المتسولين كي يتمكنوا أن يبقوا حوالي ثماني ساعات يتسولون من مقهى لمقهى وكل فترة يبلعون سائل مادة الشعله فيتخدر دماغهم ويتشوش تفكيرهم ، الشاب آمن أنه بالإمكان بناء مدينة فاضلة في قلب أرملة الساحل السوري التي ينغل فيها الفساد كما ينغل في سوريا كلها ، فصرف الملايين على حفنة من أطفال الشوارع ( ومعظمهم كان يمارس السرقة ) وأرسلهم إلى المدارس وأمن لهم الطعام الصحي من لحوم وخضار وفاكهة ، وبعض أهالي هؤلاء المتسولين اعترضوا على إرسال أولادهم إلى المدرسة بحجة أن التسول مُربح فكان الشاب الخلوق يعطي كل يوم أهالي المتسولين مبلغاً من المال من أجل السماح لأولادهم بالذهاب إلى المدرسة . نعمة الإيمان العميق في روح هذا الشاب وإيمانه العميق وحبه للمسيح وإنسانيته العالية كل تلك الأمور جعلته يؤمن أنه سعيد أن ينجي ما استطاع من أطفال الشوارع من البؤس والإنحراف والإدمان على مادة الشعلة وكانت النتيجة أن بعض الأشرار أساؤوا إلى سمعته وكتبوا تقاريراً به بأنه يُشغل هؤلاء الأطفال لحسابه وإشاعات أخرى حقيرة ، وذات يوم في أوائل عام 2020 داهمت بيته عناصر من الأمن الجنائي ولم يسمحوا له حتى الإتصال بأهله أو محاميه وإقتادوه إلى فرع الأمن وللحال أنزلوه القبو وإنهالوا عليه ضرباً وحشياً ، وبقي فاعل الخير الذي صرف ثروة على أطفال الشوارع في السجن لعشرين يوماً ويومها تعاطف معه معظم سكان اللاذقية وغيرها فصفحته وآرائه النيرة مُتابعة على الفيس بوك ،رغم أن الكثيرين قالوا ( شو كانت لازمة له هالقصة !!!) عبارة تدل مدى ترسخ الذعر وإنعدام الكرامة لدى بعض الناس لدرجة يجدون الأمان الزائف في راحة الموتى أي ألا يفعلوا أي شيء لأن عمل الخير قد يُعاقب عليه الإنسان ، وخرج الشاب من السجن وشكر كل من تعاطف معه وقال أنه غير نادم إطلاقاً على ما قام به وبأنه لن يغير قناعاته وأفكاره وأن إيمانه بالمسيح ورب العالمين كبير . ونشر الشاب على صفحته على الفيس في شهر شباط 2020 ما يلي : بعدما أجبرني المحقق في الأمن الجنائي على البصم على ضبط أعترف به بما لم أفعله وبعد أن حاول إبتزازي ورفضت … الخ .
- بعد حوالي سنة من كتابة هذا المنشور وبأن أحد الضباط في الأمن الجناائي حاول إبتزازه قامت الدنيا، وإختفى الشاب في فرع الأمن الجنائي بحجة الإساءة لهيبة أجهزة الأمن ووزارة الداخلية ، ولا أعرف ما الجريمة التي اقترفها حين كتب ( دون أن يذكر اسم الضابط في الأمن الجنائي أن هذا الضابط حاول إبتزازه !!) والكل في سوريا يعرف عن الفساد والرشاوي والتعفيش والإبتزاز ، الكل يعرف أن الفساد في كل المجالات ، فكم من محامين وقضاة فاسدين كانوا يبتذون أهالي الشبان الموقوفين ويأخذوا منهم مئات الألوف وأحياناً الملايين فقط ليعرفوا أين إبنهم ؟ وهل هو حي أم ميت ؟ ومنذ سنوات ضجت سوريا بخبر تسريح وطرد أكثر من ثمانين قاضياً لأنهم مرتشين وأساؤوا لشرف المهنة ، وتم إقصاء وتهميشومعاقبة أحد أكبر الرؤوس في سوريا رامي مخلوف وغيره فأين الخلل حين يكتب مواطن أن ثمة ضابط في الأمن الجنائي حاول إبتزازه ، وكما أن الإرهاب لا دين له كذلك الفساد لا طبقة إجتماعية معينة محصور بها ، أي أنه من الطبيعي أن يوجد بعض الضباط الفاسدين كما يوجد قضاة وأطباء ومحامين ومدرسين فاسدين ، الشاب لا يزال موقوفاً في الأمن الجنائي لأنه ارتكب جريمة يستحق عليها قطع الرأس حين كتب حاول ضابط الأمن الجنائي إبتزازي ) .
- بالمقلب الآخر، وكي تكون الصورة بانورامية أي توضح المشهد كاملاً في سوريا، فقد ضجت سوريا منذ أيام ( 27 كانون الثاني 2021 ) بخبر مروع إذ أن السيدة اللبنانية الأصل ألين اسكاف زوجه إبن القذافي الذي يعيش في لبنان لكن زوجته حصلت على اللجوء في سوريا وتعيش في قصر بأرقى شوارع دمشق ( حي المالكي ) قد دهست بسيارتها الرانج روفر، وهي تقودها في شوارع دمشق شرطيين وعدد من المارة ، وكتب كثيرون أن إحدى الشابات ماتت بعد أن دهستها بسيارتها. الين اسكاف المطلوبة للأنتربول الدولي لأن تاريخها حافل بالإجرام فقد ضربت وعذبت عدة خادمات مما أدى لموت بعضهن، وأحرقت إحدى الخادمات بالماء المغلي ، السيدة السفاحة المجرمة الممنوعة من دخول لبنان حاصلة على اللجوء في سوريا ، وحين حصلت الجريمة الهوليودية بدهس الشرطيين والعديد من المارة وموت شابة لم تُحاسب بل حضر ضابط من العيار الثقيل وقال : هذه عندي وعادت إلى بيتها آمنه سالمة ولم يطلب منها أحد أن تكتب تعهداً . من يجرؤ أن يسأل : كيف تُعطى هذه السفاحة لجوءاً في سوريا ؟ وكيف لم تتم مساءلتها على جريمتها، ولماذا هي معفية من ( التعهد ) !!!
- لا أستبعد أن يأتي يوم قريب يتوجب على السوري أن يكتب تعهداً لدى أحد فروع الأمن بأن لا يقول كلمة مرحبا مثلاً . شهادة عصر . انتهى الكلام .
*خاص بالموقع