هيفاء بيطار: أن تطرد من وطنك

0

في كل مرة أزور باريس ( لأن أسرتي تسكن فيها ) وحتى قبل 2011 كانت تنتابني حالة من هياج القلق قبل عودتي إلى سوريا بأيام، ويمكن إستعارة تعبير طبي هو ( تناذر ) أي مرض يصيب عدة أجهزة في الجسم، وغالباً غير معروف السبب.. لذا كانت تنتابني حالة تناذر قبل العودة إلى سوريا، فيضطرب نومي وأصبح عصبية ويتشوش تفكيري وأبدأ بالإتصال بالعديد من الأصدقاء في الداخل السوري وأرجوهم أن يسألوا عن اسمي على الحدود السورية، وفي قسم الجوازات حتى أطمئن أنني لستُ متهمة بأية تهمة.. وما أدراك ما التُهم التي تُفبرك ضدك !

ويحضرني مقال كتبته ذات يوم بعنوان ( مُتهم حتى يثبت العكس ) وكان مقالاً ساخراً أحكي فيه أن كل سوري يشعر أنه مُتهم، وبأن عليه أن يقدم براءة ذمة للحكومة العتيدة بأنه مواطن صالح لا ينتقد الدولة بأية كلمة . نشرت المقال في جريدة الحياة ، بعد يومين استدعاني جهاز أمن الدولة، وكان المحقق شديد الغضب من هذا المقال، وإعتبر ما كتبته إهانة وسخرية وتقليل من هيبة الأجهزة الأمنية، فالموطن السوري ليس خائفاً ..!

يومها امتلكت الجرأة وقلت له : المواطن السوري خائف، وأنا خائفة وكل مقال أكتبه أبقى أيام بحالة مزرية من القلق وأنتم تعرفون ذلك ، وتتعمدون إهانه المواطن خاصة المثقفين حين تستدعونهم للتحقيق، وتجعلونهم ينتظرون ساعات طويلة في غرفة مغلقة لا أحد فيها ننتظر ساعات طويلة حتى نصل لحالة الإنهيار العصبي، عندها يتم إستدعاؤنا للتحقيق .

لم يرد على كلامي المحقق بل رشقني بنظرة سخرية كمن يقول لي : لا يحق لك أن تسألي . ولم أستطع أن أفهم أي مقال يُغضب أجهزة الأمن في سوريا وأي مقال يمر بسلام ( أزعم أنهم لم ينتبهوا له ) .

لماذا مقالي عن الخوذ البيض أطاش صوابهم بعد أربع سنوات من كتابته لأن سافل وشبيح كتب تقريراً كيدياً بي وطبع العديد من مقالاتي، وتكلف مبلغاً كبيراً كي يُقدم مقالاتي لجهاز الأمن العسكري، والسافل مسيحي ولو كنت من طائفة أخرى لما تجرأ أن يكتب كلمة بحقي، ولكن جهاز الأمن العسكري قبل تقريره الكيدي ومنعني من السفر . احتجت لوساطات كثيرة من قبل محامين أصدقاء كي يتدخلوا لإلغاء منع السفر حتى وصلت الواسطة إلى أحد أهم الألوية في المخابرات الجوية ، وطلب منه المحامي الوسيط ألا يذلونني بالإنتظار خمس ساعات في غرفة مغلقة حتى يستدعيني فخامة العقيد أو العميد ، وطلب اللواء أن أتصل به شخصياً لأطلب منه بترجي ألا أنتظر، وضحك قائلاً بسخرية ونوع من الشماته : عجيب دكتورة لماذا يزعجك الإنتظار إلى هذا الحد فها هي إبنتي إنتظرت أربع ساعات البارحة في عيادة طبيب.!

طبعاً لم أستطع أن أرد. وجدتني أضع يدي على فمي وأضغط كي لا تنفلت مني كلمات : وهل الإنتظار في الأمن العسكري مثل الإنتظار في عيادة طبيب ، ثم بدأت بذرة تمرد تتنطط بخبث في روحي وأردت أن أساله : سيادة اللواء أين هو الدكتور عبد العزيز الخير ؟ ألا تعرف وأنت لواء في المخابرات الجوية . وشعرت أنني إن سألت هذا السؤال فستهبط علي طاقية الإخفاء وأختفي .

لماذا مقال أشيح بوصف صادق بدون تزويق عن يوم في اللاذقية يتسبب بمنعي من السفر، ويجن جنون عدة أجهزة أمنية وتستدعيني للتحقيق، وأنا لم أكتب شيئاً سوى أنني وصفت حياة الناس في اللاذقية.. حكيت عن الأطفال المتسولين والإزدحام على الأفران والإزدحام الفظيع في البالات بسبب الفقر وكانت كتابتي أقرب للنثر الشعري وطافحة بالشجن . هذا المقال أثار غضب الأجهزة الأمنية بينما مقالي ( الشاحنة ) المقال المُروع والأقسى الذي كتبته مر دون أي استدعاء، وفيه أحكي عن شاحنة عملاقة عبرت شوارع اللاذقية طافحة ببقايا جثث أو جثث لمن يسمونهم إرهابيين .. كانت الجثث وبقايا الجثث مكشوفة وغير مُغطاة بغطاء، ورأيت أطفالاً مُروعين وهم يرون هذه الشاحنة تتجول في طرقات اللاذقية .. أي درس سيتعلمه هؤلاء الأطفال أيه ندبة وتشويه ستترك في أرواحهم . ولم يتم استدعائي لأي جهاز أمني بسبب هذا المقال .

عشقي لبحر اللاذقية لا يمكنني وصفه أحسه شريكي في الحلم والسر.. كتبت معظم قصصي القصيرة ومقالاتي في مقاهيه البحرية المتواضعة .. ألم الإنسلاخ الذي أعيشه في باريس يشبه الحرق.. باريس على عظمتها لا تخصني ، روحي في وطني مع الناس الطيبين الخائفين الذين كانوا يوقفونني في الطريق، ويقولون أنت تكتبين وجعنا لكن نخاف أن نضع لكتاباتك لايك . أقول والله أعذركم بل أنصحهم ألا يضعوا لايك .

الأمكنة أرواح وأنا روحي في بحر اللاذقية وأزقتها حتى أنني أشتاق لمتسولي الشوارع وللأصدقاء . باريس لا تخصني ، أشبهها كالزواج من غير حب، لكن السؤال الأهم، هل أستطيع العودة الآن إلى سوريا والنظام يدعي أنه فاتح ذراعيه لإستقبال العائدين.؟ هل أستطيع العودة دون أن يستقبلني أحد الشرطة على الحدود بقصاصة ورق أن أراجع فرع الأمن الفلاني ، وكل من أثق بهم نصحوني إياك والعودة الآن ؟.

كنت قد قبلت أن أعيش وحيدة في اللاذقية مخيبة أمل أهلي وإبنتي بأنه أكثر أماناً لي أن أعيش في باريس . كنت أقول لنفسي أي ثمن تافه أدفعه مقارنة بأصدقائي الذي قضى كل منهم زهرة شبابه في سجون سوريا ( صيدنايا وعدرة وتدمر ) بين عشرة سنوات وخمسة عشرة سنة سجن أصدقائي ، فأين معاناتي من معاناتهم لقد سحقوا مستقبلهم ما الضير أن أتحمل منع السفر من حين لآخر؟ ما الضير أن يتم إستدعائي إلى أجهزة أمن الدولة بسبب مقالاتي؟ أي ثمن تافه أدفعه مقابل السنوات الطويلة التي قضوها في السجن أغلى الأصدقاء وأحب أن أذكر أسماء بعضهم الدكتور راتب شعبو والصديق الغالي بدر زكريا ومحمد حبيب ( الذي سجن تسع سنوات لأنه يدافع عن حقوق المعتقلين ) وسجن أخاه ثلاث سنوات لأنه لم يُبلغ عن أخيه، أي لم يكن واشياً ويعترف للأمن بأن أخاه كان يعمل مع المنظمة التي تدافع عن حقوق الإنسان .. مئات الأسماء لأصدقاء سًجنوا ومات بعضهم تحت التعذيب ، فأين معاناتي من الثمن الباهظ الذي دفعوه؟ أين معاناتي من الظلم المخزي المجلل بالعار في طرد الدكتور المثقف الوطني أستاذ التشريح الذي يحبه كل تلامذته من جامعة تشرين في اللاذقية بسبب مواقفه الشجاعة . يعني قطع الأرزاق عقوبة قاسية كالسجن وحين تمكن الدكتور منير شحود من تأمين عمل خاص في إحدى الجامعات الخاصة لم تتركه أجهزة الأمن ظلت تزور مدير الجامعه وتهدده حتى اضطر رغماً عنه أن يعتذر للدكتور منير عن التدريس لديه . وطبعاً الدكتور الوطني منير شحود كتب روايتين عظيمتين هما ( جبال الأغاني والأنين من جزأين ) و( الإنفجار السوري الكبير ) والروايتين عظيمتين بكل المقاييس من الناحية الجمالية والتوثيقية وهو يكتب مقالات مهمة في مواقع عديدة .

أين النوايا الطيبة للحكومة العتيدة التي تدعو كل السوريين حتى المعارضين للعودة ، والعديد من االمعارضين في الداخل لاممنوعين من السفر ، وشعب الطابور العالق على الحدود عليه أن يدفع 100 دولار ليعود إلى أنقاض بيته وغالباً تنتظره تقارير أمنية كيدية . وثمة كتاب يندى لهم الجبين خجلاً من مواقفهم الضبابية المائعة هم لا يريدون أن يخسروا شيئاً وأن لا يكون ليهم أي موقف مما يجري في سوريا ، والعديد منهم يُكرم من قبل مؤسسات النظام الثقافية ، ويصدرون روايات لا تقول شيئاً أشبه بمواضيع تعبير في إستحضار الذكريات والتحدث عن العائلة والعادات يعني مجرد كلام وأحياناً يعتقدون أنهم في قلب الحدث فيصفون طائرات تقصف وقذائف تتطاير في كل مكان لكن لا يذكرون لمن تعود تلك الطائرات ، ومطر القذائف في أيه مناطق يتساقط . والأهم أنهم يقاطعون كل من يملك شجاعة الجهر بالحقيقة .

إحدى الكاتبات وكانت تقول أمام الجميع أنا الأغلى والأحب إلى قلبها نبذتني . صارت تريد أن تنحي نفسها من شهادة حق أقولها في مقالاتي . نسفت حتى الأساس الإنساني لصداقتنا . لن أقول يا للعار بل أقول ثمة من إختار الصمت والصمت خيانة .

الآن السؤال الذي يبدو ساذجاً كيف سأعود إلى سوريا ! كيف سيعود ملايين السوريين الذين يكويهم الحنين ، وكل منهم مُتهم حتى يثبت العكس، ولن يثبتوا العكس لأنهم لا يريدون .

*خاص بالموقع