هيفاء أبو النادي: خمس قصص

0

قهـوة

قهوته تدوم. لذا يبدأ بها صباحَهُ باكراً، ويُكملُ نصفَها في منتصف النَّهار. تُلازمه. ربما تكونُ رائحةُ طزاجتِها الأولى هي ما يجعلُهُ يستمرُّ في ارتشافِها رغم بُرودتِها، وربَّما هنالك أشياءُ أخرى لا يُفصحُ عنها. ربَّما يشعرُ بالواجبِ والمسؤوليَّةِ تجاهها. قهوته مسكوبة في كوبٍ من ورق؛ يتغيَّرُ لونُهُ وشكلُهُ وحجمُهُ كلَّ يوم بحسب اختلافِ «كشك» الشِّراء. يقضيان معاً نهاراً كاملاً! إلّا أنَّهُ يترُكُها على سطح طاولةٍ، أو عند أوَّلِ حافة متى انتهى النَّهار. يتركها دون رشفةٍ أخيرة أو حتى كلمة وداع. يتركها ليعودَ إلى عالمِهِ؛ واثقاً أنَّ كوباً ورقيّاً آخرَ من القهوة ينتظره في أحد الأكشاك، غداً وبعدَ غدٍ آخر وآخر!

تَعـارُف

لطالما كان لبابِ مكتبها يدٌ تقبض عليها كلما أرادت الدخول أو الخروج. يدٌ كغيرها من أيدي أبوابٍ بالمئات. المفتاحُ أيضاً، لا علامةَ فارقةَ فيه تجعلُ ذاكرتَها تحتفظ بتفاصيله! كان مجرَّدَ مفتاح! اليوم، كلُّ شيءٍ تبدَّل! اعتادت أن تكونَ وحيدة، والآن أصبح لها رفيق. أصبحَتْ يدُ البابِ سحريَّة، وازدادت تفاصيل المفتاح وُضوحاً. يَدُها التي تمسك بالمفتاح، ويَدُهُ التي تشدُّ يد الباب، تآلفتا أخيراً. تآلفتا عند حافة الإغلاقِ والخُروج مرة بعد مرة. هو يُعينُها بيدٍ تُصافحُ يَدَ الباب. ويَدُها تُديرُ المفتاحَ باتجاهِ حركةِ عقاربِ السّاعة. يَدُهُ تجذب البابَ لإحكامِ إغلاقِهِ، ويدُها تتعرَّفُ على المفتاحِ مُتلمِّسَةً خطوطَهُ وتفاصيلَهُ مع كلِّ دورانٍ ودقَّة قلب.

شوق

حين يضعُ نظارتَهُ الطبية، كعادته أثناء القراءة، يُدركُ أنه يرى الحقيقةَ عن كثب، لكنه لا يُلقي لها بالاً. لنظارته عدسات مستطيلة الشكل، وخيطٌ سميكٌ يلتفُّ حول عنقه. خيطٌ يشدُّ نظارَتَهُ من ذراعيها ليُدلِّيها باستنادٍ بسيطٍ على أحدِ أزرارِ قميصهِ الغامق في زرقتِهِ. عندما يتململُ مُستدركاً وضعاً يريحه في المقعد، تتأرجحُ النظارةُ على وقع الحَرَكة، ويحتكُّ إطارُها بزرِّ القميصِ مُصدِراً «تكّاتٍ» تُشبهُ دقّاتِ قلبٍ غير منتظمة. ما يراهُ الآن لا يشبه الحقيقة التي رآها عبر نظارته: انعكاسُ صورتِهِ على شاشة الحاسوب يُنبئ بشوقٍ لا يكادُ ينجلي حتى يبدأ بالتلاشي. يتذكَّرُ محبوبَتَهُ الغائبة لأسبابٍ يعرفُها الكونُ كلُّهُ ويجهلُها هو فقط. يتخلى عن النظارةِ بخيطِها السَّميك، ويضمُّ أجزاءها ليدسَّها في الحافظة الجلدية بنية اللون. يسترجع أناملَ محبوبَتِهِ الرَّفيعة بينما تستجيبُ لإثارة عنقه أثناء جلوسه إلى حاسوبه، فتأتيهِ خلسَةً من وراء ظهره، وتنفخُ في أذنهِ شهوةً طافحة بالدَّلال.

يستذكرُ هذا كلَّه، يُفعِّل حاسوبه، ثم يشرع بالكتابة، مُستهِلّاً إيّاها بـ:

«هل الشوقُ تُهمة؟ أتعرفين؟»

وتتوالى الكلمات…

غيـاب

كانا واقفَيْن لحظة انسكبَتْ القهوةُ على معطفِه الأسود، بينما تعاين خطوطاً عند زاويتي عينيه. فهو عندما يبتسم تبتسم معه تفاصيلُ جسدِهِ كلِّها وتتفتَّح: تزدادُ خطوطُ عينيه اللامعتين وضوحاً، تهتزُّ كتفاهُ، ويرتسمُ على قسماتِهِ ما يشي بحنيـنٍ إلى ضحكةٍ اعتادَ أَنْ تغمُرَهُ منذُ وقتٍ قريب. انسكبَتْ قهوتُهُ مُتَّـخذةً خطّاً مُتذبذباً من قطراتٍ سيتركُ أثرُها رائحةً وبُقَعاً داكنة على معطفِهِ ما لَـمْ يُسارع إلى تنظيفه. بدا منزعجاً، ربما لأن معطفه ما يزال جديداً. راجعت معه تفاصيلَ انسكابِ القهوة. تحدَّثا عن أمرٍ ما لا تذكر منه سوى أنه يتعلق باللون الأزرق. أكانا يتحدثان عن البحر، السماء، أم ملاءات السرير التي ما جرؤت على الحديث عنها!

اهتزَّ ساعِدُهُ فجأة فانسكَبَتْ القهوة.

ربما حدث هذا إثر لمسةٍ طائشة من يدها ليده، حين ناولتْهُ كوب قهوته الكرتوني صباحاً. شردت، لكنه استدرك شُرودَها بتنبيهها إلى التماع عينيها. عندها أحسَّت: «شيءٌ ما يُكتَبُ في داخلي الآن»، ثم وجدَتْهُ يخبرها بثقة أنها ستكتبُ عن قهوته. كيف عرف؟ دسَّت يدها في حقيبتها لتُناوِلَهُ منديلاً ورقيّاً اعتذر عن أخذه. التمسَتْ له عذراً: «لا بُدَّ أنه يحتفظ بمنديلٍ ما في جيبه».

هكذا تسلسلت تفاصيلُ لقائهما المقتضب إلى جانب الطريق. حدَّثَتْ نَفْسها بثقة عالية، رغم عدم اكتراثها بصوتها الذي عجز عن الكلام إلا سرّاً. لحظتئذ، جاءها صوته المـُبتسر والعجول: «أراكِ غداً».

سكنَتْ مُحاوِلَةً التشبثَ بالغد القادم.

كان صادقاً بالفعل،

لكنه من فرط صدقه غاب!

هَـوَس

(1)

لكأنَّ شيئاً تغيَّر!

لكأنَّهُ تحوَّلَ إلى آخَرَ لم تَعُدْ تدرك كنهه وماهيَّته. الألقُ في عينيه غاب. وفُسحةُ الوهج فيهما أصبحَتْ أضيق. البؤبؤانِ يصطادانِ ما لا يجدُهُ في عينيها. لكأنَّ حماسَتَهُ للقائها فَتَرَتْ. والخُطوطُ في زاويتَيْ عينيهِ استطالَتْ وصارَتْ أكثر حِدَّة. لكأنَّهُ عَزَلَ نَفْسَهُ بكامل إرادته عنها، وبنى حائطَ صدٍّ أقوى من أن تخترقَهُ سِهامُها النَّفّاذة. أيكونُ السَّببُ في ذلك مواعيدُ عملِهِ الكثيرة؟ أم الطقسُ المتقلب؟ أم محبَّةٌ قديمة تسكُنُ قلبَهُ ولا تُغادره؟ تتساءلُ حائرةً: «لماذا إذاً..؟» ولا تُكمل! ثمَّ تردُّ تفاصيلُ الحِكاياتِ العالقةِ على ربطةِ عنقهِ الخضراء بلون الفستق: «اسألي مقتنياتِكِ منه لتعرفي!»..

(2)

مقتنياتي منه:

قنينةُ ماءٍ بحجمِ 330 مل تُدعى «سَما»، أكوابُ قهوةٍ ورقيَّة، فطيرةُ جبنةٍ مطويَّة، شوكولا «سنيكرز» الَّتي أكرهُها وبتُّ الآن أحبها، سلامان باليد: الأول خاطف.. والثاني متأنٍّ وجارف، لمسةُ ما بعد السَّلامِ الثاني، نظراتٌ مُتبادلة تشقُّ كفَّ القمر! نعم، فللقمر كفٌّ تُشَقُّ عندما يَنْظُرُ إليّ. شَعْرُهُ حين يطول ولا أقولُ له بعد يومين ـ حين نلتقي ـ ويُتِمُّ حلاقته: «نعيماً»..! الخيطُ العالقُ في طرفِ كمِّهِ لا يُغادرهُ إلّا إذا قَصَّهُ، لكنه لن يفعل، هكذا قال لي! رُسْغُ يدِهِ اليُمنى يُمسكني من يدي وقتَ تعثَّرَتْ قدمي على الدَّرجة الثانية. والخطوطُ الصَّغيرةُ الرقيقة في زاويتي عينيه عندما يبتسم. نظارته التي أشتهي ضمَّها، وخيطُها السَّميكُ السَّميك..!

بردي ودفؤُه: متناقضانِ ينجذبان في حالة هَوَسٍ كاذبةٍ واحدة!

  • هيفاء أبو النادي قاصة أردنية

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here