هيرمان هيسة: الإنسان ليس شيئًا ثابتًا.. هو تكوّن مستمر

0

كما لدى كثيرين من الكتّاب والشعراء الألمان، وخصوصًا الذين عاشوا وكتبوا في النصف الأول من القرن العشرين وما قبله، نجد في كتابات هيرمان هيسه (1877-1962) تلك الروح الباحثة في الفلسفة والطبيعة والأخلاقيات والميتافيزيقا واللاهوت والتصوّف والوجود. هيسه معروف على نطاق واسع في اللغة العربية، فقد تُرجمت أعمال عديدة له لعلّ أشهرها روايته “ذئب البوادي” أو “ذئب السهوب” بحسب الترجمة الأدق للعنوان الألماني. وكذلك رواياته “دميان” و”سد هارتا” و”رحلة إلى الشرق”.. وغيرها.

يركز هيرمان هيسه في كتاباته على الفردية، وعلى التكوّن الذاتي، وعلى النظر إلى العالم والأشياء من خلال هذه الفردية التي تتحول أحيانًا إلى فلسفة خاصة تجمع أفضل ما يراه هو في الفلسفة والوجود الإنساني والمواقف الحياتية والمصير البشري.

ما كتبه الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1946، في رواياته ونصوصه وأشعاره، وجد طريقه بالطبع إلى رسائله وخطاباته وحواراته أيضًا. رسائله نفسها جُمعت وصدرت في أكثر من مجلد. ومنها مجلد خُصّص للرسائل المتبادلة بينه وبين توماس مان، الكاتب الألماني الآخر الحائز على نوبل الآداب أيضًا.

من رسائله وكتبه كانت دار “زوركامب” الألمانية الشهيرة قد جمعت بعض المقاطع والاقتباسات والشذرات، التي تمثل، بطريقة ما، فلسفة ومزاج وانطباعات هيسه في موضوعات حياتية وأدبية وفلسفية وأخلاقية مختلفة، ونشرتها في كتاب صغير بعنوان Lektüre für Minuten، أو “قراءة لدقائق”، والقصد أنها ومضات وشذرات يمكن أن تُقرأ بسرعة، ولكنها محمّلة طبعًا بفلسفة هيسه ونظرته الخاصة والعميقة والمكثفة إلى العالم والوجود. هنا ترجمة أخرى لعدد من هذه الشذرات: [ترجمها عن الألمانية: حسين بن حمزة]


أعيش في أحلامي. يعيش الآخرون أيضًا في الأحلام، ولكن ليس في أحلامهم. هذا هو الفرق!

**

هناك مليون وجه للحقيقة، ولكن هناك حقيقة واحدة فقط.

**

فقط في سن الشيخوخة يرى المرء ندرة الجمال، ويا لها من معجزة حقًا عندما، بين المصانع والمدافع، تتفتح الأزهار، وعندما بين أوراق الصحف وقوائم البورصة، تحيا الأشعار.

**

حاجة الشباب هي: أن يأخذوا أنفسهم على محمل الجد. حاجة الكهول هي قدرتهم على التضحية بالنفس، لأن هناك فوقهم يوجد، ما أُخذَ بجديّة. الحياة الروحية ينبغي أن تجري وتُلعب بين هذين القطبين. لأن مهمة وتوق وواجب الشباب تكمن في أن يصيروا ويكتملوا. مهمة الشخص الناضج، بالمقابل، هي العيش بعيدًا. أو حسب ما سمّاه المتصوفة الألمان بـ “الاختفاء”. على المرء أن يكون أولًا شخصًا كاملًا وشخصية حقيقية وأن يُعاني آلام هذا التفرّد، قبل أن يتمكن من التضحية بتلك الشخصية.

**

لا أحد يستطيع أن يرى أو يفهم في الآخر ما لم يختبره بنفسه.

**

الحب والمعرفة يُظهران نفسيهما وكأنهما الشيء نفسه تقريبًا. الشخص الذي تُحبّه أكثر هو من تعرفه أكثر.

**

الحقيقة تُعاش ولا تُعلّم.

**

لم آخذ التعليم (التربية/ التنشئة) يومًا على محمل الأهمية الشديدة، وهذا يعني أنه دائمًا كانت لدي شكوك قوية حول ما إذا كان يمكن تغيير شخص أو تحسينه بأي شكل من الأشكال من خلال التعليم. بدلًا من ذلك، كانت لدي ثقة في قوة الإقناع اللطيفة للجمال والفن والشعر؛ في شبابي علّمتني هذه الأشياء أكثر، وأثارت فضولي حول العالم الروحي أكثر من أي تعليم رسمي أو خاص.


**

طالبَنَا معلّمونا بفضائل لم يكونوا هم أنفسهم يملكونها، وهكذا كان أيضًا تاريخ العالم الذي قدّموه لنا، خدعة من الكبار للتقليل من شأننا وجَعْلنا صغارًا.

**

أُشْعُر بالمعاناة في العالم مع الجميع، ولكن لا تُوجّه قدراتِكَ إلى حيثُ تكون عاجزًا، بل إلى ما يليه، إلى من يمكنك أن تساعده، إلى ما تُحبّه وترغبُ به.

**

لم يكنْ هناك شيء، لن يكون هناك شيء، كلّ شيء موجود، كل شيء له جوهر وحضور.

**

العاقل يقع بسهولة في حبّ الأنظمة (القواعد)، إنه يميل باستمرار إلى إساءة الثقة بغرائزه.

**

المُتجوّل لديه الفرصة الأفضل والأكثر حساسية في التلذّذ بكل متعة ممكنة، لأنه بالإضافة إلى ذائقته، لديه معرفة بزوال كل الملذّات. إنه لا يكترث كثيرًا بما يفقده ولا يرغب في ترسيخ جذوره على الفور في كلّ مكان كان فيه مرتاحًا في يوم من الأيام.

هناك مسافرون يذهبون إلى نفس المكان عامًا بعد عام، وهناك الكثير ممن لا يستطيعون أن يودّعوا مشهدًا جميلًا دون أن يقرروا العودة إليه قريبًا. قد يكونون أشخاصًا جيّدين، لكنهم ليسوا متجوّلين جيّدين. هؤلاء لديهم شيءٌ من النشوة البليدة للناس الذين يحبون، وشيءٌ من الحسّ الدقيق لجامعي أزهار الزيزفون. لكنهم لا يملكون حسّ السفر، السَّكينة، الفرح الجاد، القول باستمرار: وداعًا.

**

الطبيعة فيها عشرة آلاف لون، ونحنُ جعلنا هدفنا أن نُخفض الرقم إلى عشرين!

**

الانسان يموت بالتدريج، قطعةً قطعةً. كلّ سنّ، كلّ عضلة، كلّ عظمة، تقول له وداعًا، هو الذي كان على ما يُرام معها!

**

الألم هو أيضًا حادثة حياتية، ليست أقل من الولادة، وكثيرًا ما يمكنُ للمرء أن يخلط بينهما.

**

التقدّم في السن في حد ذاته هو عملية طبيعية، والشخص الذي يبلغ من العمر 65 أو 75 عامًا (إذا كان لا يريد أن يكون أصغر سنًا) يتمتع بصحة جيدة، وهو طبيعي مثل الشخص الذي يبلغ من العمر 30 و50 عامًا. ولكن لسوء الحظ لا يكون المرء على نفس المستوى دائمًا مع عمره. في داخله غالبًا ما يسبقُ المرء عمره، وفي كثير من الأحيان يتخلّف وراءه، بحيثُ يكون الوعي والإحساس الحياتي أقل تقدّمًا في السن من الجسد الذي يُدافع عن نفسه ضد التغيرات الطبيعية فيه، ويطلب من نفسه ما يعجز عن تحقيقه.

**

لكي نعيش تجربة السعادة نحتاج قبل كل شيء إلى الاستقلال عن الزمن، وبالتالي عن الخوف وكذلك عن الأمل. معظم الناس يفقدون هذه المقدرة على مر السنين.

**

يبدأ الفردوس في الظهور على أنه فردوس فقط عندما يتم طردُنا منه.

**

الأجمل دائمًا هو أن يختلط فرح الإنسان بالخوف أو الحزن.

**

الفعلْ: هو أمرٌ لم يسبق أن قام به شخصٌ سأل قبل أن يفعل: “ماذا ينبغي أن أفعل”؟

**

عن كل ما يرغب فيه، كان الإنسان منفصلًا بمرور الزمن. الزمن هذا الاختراع العظيم. كان أحد الدّعامات، أحد العُكازات التي كان على الانسان التخلّي عنها إذا أراد أن يكون حرًا.

** 

الإنسان ليس شيئًا ثابتًا، ليس شيئًا صار وانتهى، ليس شيئًا حدث لمرة واحدة، وليس شيئًا لا لبْس فيه، هو تكوّنٌ مستمر، محاولة، هاجس، مستقبل، إنه نتاج للطبيعة وتوقٌ مستمر لأشكال وإمكانيات جديدة.

**

السعادة ليست في أن تكون محبوبًا، كل إنسان محبوبٌ (أصلًا) من نفسه، ولكن أن نُحبّ هذه هي السعادة!

**

“الشخصية”: هي تسمية تُطلق على شخص يمتلك آراءً وأفكارًا تخصُّه، ولكنه لا يتعيّش منها. فقط بعناية وحذر شديد يسمح أن تُرى، من خلالها، حقيقةُ أنه يمتلك آراءً، وأنه يفكر بطريقة مختلفة.!

(ضفة ثالثة)