الفيلم الذي فاز بجائزة أفضل وثائقي هذا العام في مهرجان برلين السينمائي (10 – 20 شباط) يأتي في عنوان “يوميات ميانمار”، وهو توثيق للحظة مهمة في تاريخ البلاد التي تقع في جنوب شرقِ آسيا: غداة الانقلاب العسكري في ميانمار الواقع في تاريخ 1 فبراير (شباط) 2021 الذي أغرق البلاد في كابوسه. الشيء اللافت في العمل هو أنه من إخراج عشرة سينمائيين من ميانمار (تعاونية الفيلم الميانماري) الذين لم يرغبوا في الكشف عن هويتهم، بل فضّلوا البقاء في الظل كي لا يدفعوا ثمن إنجازهم هذا دماءً. حتى أسماؤهم لا تظهر في جنريك النهاية، تحسّباً لأي ملاحقة، ولأن أي ظهور لهم يضع حيواتهم في دائرة الخطر الشديد. بعيداً من الإعلام الذي يزجّهم باستمرار في دور الضحية، أرادوا هذا الفيلم فعل استنكار يؤمن بسلطة الصورة.
شعب ميانمار يرزح تحت نظام عسكري ديكتاتوري منذ فترة، ولكون الإعلام ما عاد يهتم بالموضوع كثيراً بعدما استهلكه، قرر الثنائي الهولندي بتر لوم وكورين فان إيغرت اللذان أقاما سابقاً في ميانمار، إنتاج هذا العمل الذي يقدّم لنا الأحداث من وجهة نظر داخلية بلا أي إثارة.
انقلاب واحتجاجات
“يوميات ميانمار” الذي يقع في سبعين دقيقة وشهد عرضه العالمي الأول في قسم “بانوراما”، عبارة عن كولاج من مشاهد فيديو تم التقاطها بالهواتف المحمولة خلال الانقلاب والاحتجاجات التي رافقته، وهي مشاهد تنتصر لمقاومة ذلك الانقلاب العسكري بحيث كلّ مواطن بات فجأة “صحافياً” بحكم الظروف والتطورات. المَشاهد تحمل شيئاً من الأهمية لبُعدها التوثيقي لا لجماليتها، تروي اللحظة وتعلّق على النحو الذي ردت فيه السلطة على المحتجين، كإطلاق الرصاص بدافع القتل المتعمد على شابة محتجّة ترتدي اللون الأحمر، وهو اللون الذي يرمز إلى التحرك.
تُضاف إلى هذه المَشاهد العفوية، مشاهد أخرى مشغولة بوعي ودراية وذات طابع أكثر سينمائي، ترينا أفراداً من المعارضة في بيوتهم. لا نحتاج إلى رؤية وجوههم لنحس بغضبهم وخوفهم ولندرك الفراغ الذي تركه في داخلهم رحيل أصدقائهم. هذا كله يأتي في سياق سرد يعتمد اليوميات كمدخل لفهم الموضوع والشعور به. بالتأكيد، هذا النوع من السينما ليس جديداً، فهو انتشر مع بداية الثورة السورية، من خلال وثائقيات عديدة أشهرها “ماء الفضّة” للسوري أسامة محمّد. وتماماً مثلما كانت حال الفيلم المذكور يوم صدر، يتركنا “يوميات ميانمار” في حيرة: أي شق منه يعود الفضل فيه إلى المخرجين العشرة، وأي شق هو مجرد لقطات مستعارة من هنا وهناك؟ لغز لن نعرفه، ذلك ان الحدود بين الاشتغالين، لا تزال غير واضحة، مع أن التداخل بين مصادر الصور كافة، يمنح الاحساس بشيء من الوحدة ويلفت انتباه المشاهد بديناميكيتها.
فيلم المقموعين
يصعب التأكد اذا كان “يوميات ميانمار” هو فعلاً أفضل وثائقي عُرض في برلين هذا العام، فتقييم كهذا يحتاج أولاً إلى مشاهدة كلّ الأفلام الوثائقية المعروضة، لكن هناك في المهرجانات، وبرلين خصوصاً، ميل إلى اعطاء المضطهدين والمقموعين والمتروكين لمصائرهم نافذة على الكلام، بصرف النظر عن الكيفية التي يروون فيها قصصهم ومآسيهم. وهذا ما كان دائماً محل نقد في الـ”برليناله”. فهناك العديد من النقّاد اعتبروا “يوميات ميانمار” عملاً ضعيفاً على المستوى الفني، لا سيما ان الجانب الذي من المفترض انه روائي يحاول ان يمد الجانب الوثائقي بطاقة احساسية مفتعلة بعض الشيء.
بيد أن المحكمين على ما يبدو، لا يقيمون وزناً لكل هذا. فما يثير انتباههم في هذا النوع من الأفلام هو ما تنقله من ظرف سياسي وأوضاع صعبة يعيشها المعارضون. فالقضية الإنسانية تتقدم على سائر الاعتبارات. ويبدو أن اللغة الفيلمية المستخدمة لا تعود لها أهمية تذكر عندما يصبح الموضوع إدانة العنف والبطش والانتصار لحقوق الإنسان. المشكلة أن الشاشة سبق أن أعطتنا نماذج كثيرة لأفلام تتحدّث عن أقصى أنواع الظلم من دون أن تتحوّل إلى دعاية مفرغة تماماً من بُعدها السينمائي. ولنا في هذا المجال أمثلة كثيرة، أبرزها في السنوات الأخيرة “فعل القتل” للمخرج الأميركي جوشوا أوبنهايمر.
يفتتح الفيلم بمَشاهد فتاة تمارس رياضة الأيروبيكس في الشارع فيما الانقلاب العسكري يشق طريقه إلى البلاد في خلفية الصورة. مشهد سوريالي لمواطنة تضع الكمامة على وجهها في زمن الوباء، لكن الكمامة تأخذ فجأةً معنى آخر. الفيديو المنتشر على موقع “اليو تيوب” شاهده الملايين، إلا أن وقعه مختلف على فيلم يعرض مجموعة من اللقطات يظهر القمع الذي لا يوفّر لا كبيراً ولا صغيراً، إذ نرى مثلاً بكاء أحد الأطفال خلال انشغال العسكر باعتقال أمه. النقد الضمني الذي في الفيلم يتعرّض أيضاً إلى منظمي الاحتجاجات. فهناك مثلاً أب لا يزال يتوجّه إلى عمله رغم الاضراب خوفاً على مستقبل ابنه، لكن أصدقاء ابنه يتنمّرون عليه لأن والده “خائن” في نظر “حركة العصيان المدني” التي تقود الاحتجاجات في الشارع. قصص كثيرة تحضر في الفيلم بصيغة اختزالية ويمكن أن تشغل مخيلة المُشاهد ليتصوّر السياق الذي تجري فيه: رجل ينتحر بعد الصلاة، فتاة لا تعرف إذا كان عليها إخبار حبيبها بأنها حامل منه أو لا، وغيرها وغيرها.
لا نكشف شيئاً إذا قلنا ان الفيلم ينتهي في الأدغال. ففكرة التواجد في مكان مخيف يعبر كل الفيلم. لكن صرخة النهاية التي تأتي على شكل “هل تسمعوننا؟”، قد يتردد صداها في وجدان المشاهد. انها صرخة أمل أكثر منها صرخة استنجاد. أمل بأن السينما قادرة على إيصال صوت المظلومين أكثر من أي وسيلة أخرى.
*اندبندنت