مصعب قاسم عزاوي
طبيب استشاري في علم الأمراض. وكاتب في العديد من الدوريات. مؤلف ومحرر للعديد من الكتب والأبحاث والدراسات باللغتين العربية والإنجليزية.
مجلة أوراق- العدد16
أوراق النقد
في سيرورة نهوض البشر كجنس حيواني، والتي امتدت على سبعة ملايين من السنين، كان تناقل البشر للمعرفة التراكمية فيما بينهم محدوداً بشروط ومحددات عدم وجود أي إناء حاضن لتوثيق المعرفة يوسع من إمكانيات مرور المعرفة بين الأجيال ليتجاوز حاجز التناقل الشفهي، والذي كان في أحسن الأحوال ممكن التراكم على شكل نمط ما من «الثقافة الجمعية» لمجتمع ما كان محدوداً لناحية عدد أفراده خلال جل رحلة تطور بني البشر بيولوجياً واجتماعياً، في نسق كانت فيه المعرفة العابرة للمجتمعات قناة غير متاحة لحين اكتشاف البشر لعملية توثيق أفكارهم كتابياً، وهو ما كان في بادئ الأمر بشكل مصور في الحضارة الفرعونية في مصر منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد على الجدران و صحف البردي بشكل بيِّن وواضح، وفي بلاد الرافدين مع السومريين بشكل مقطعي تصويتي على طريقة الكتابة المسمارية على الرقم الطينية في نفس الحقبة الزمنية تقريباً، وهي الطريقة التي تم تطويرها لاحقاً من قبل الفينيقيين في شمال بلاد الشام في خواتيم الألف الثاني قبل الميلاد لتصبح أول أبجدية مكونة من حروف يمكن الكتابة بها بشكل لا يختلف كثيراً عن النهج الذي يكتب به كل أبناء البشرية راهناً.
وفي الحقيقة فإن الكتابة اتخذت أشكالاً متعددة منذ اكتشافها تنوع حسبما هو متاح في بيئة كل مجتمع قام بتبني الكتابة، فكانت على الرقع الطينية المصنوعة من الصلصال في وادي الرافدين وبلاد الشام، وكانت على الجدران وعلى صحائف البردي في وادي النيل، وهو ما تم تطويره لاحقاً في الصين حوالي القرن الثاني قبل الميلاد ليصبح كتابة على ما يشبه الورق الذي نعرفه راهناً، وهو الاكتشاف الذي استقاه منهم العرب ووسعوه ليصبح المادة الخام الأولى لصناعة «الوراقين والنساخين» الذين كان عملهم يتركز أساساً حول إنتاج نسخ متعددة مكتوبة بخط اليد عن كتاب أو مؤلف ما، وهو العمل الذي ظل مزدهراً حتى منتصف القرن الخامس عشر، إلى حين زلزلته باكتشاف الألماني يوهانس غوتنبرغ في العام 1440 لأول آلة طباعة ميكانيكية اختصرت الوقت المهول الذي كان يحتاجه النساخون لاستنساخ كتاب بخط اليد، مفضياً إلى إمكانية طباعة أعداد أكبر بكثير من أي كتاب وبوقت أقل، وهي التقنية التي تم تطويرها والبناء عليها وظلت مستخدمة على المستوى الكوني حتى خواتيم القرن العشرين حينما تم استبدالها بتقنيات الطباعة الرقمية المستندة إلى قدرات وإمكانيات البرامج الحاسوبية للقيام بما كان يفعله خبراء صف حروف الطباعة على ماكينات الطباعة التقليدية السالفة لها.
وعلى الرغم من ثورية وتأثير الكتاب المطبوع في حيوات بني البشر المعاصرة، والذي تمحور حول جعل المعرفة التراكمية لبني البشر موثقة وميسرة للحصول عليها واستبطانها، والبناء عليها، بما يوفر على المتعلم عناء تعلم تلك المعارف عن طريق التجربة والخطأ والصواب، أو التعلم الشفاهي، والذي قد لا تكفي حياة الإنسان كلها بتلك الطريقة لتعلم ما هو موثق في كتاب واحد في أي من فروع العلوم المعاصرة؛ فإن عمر علاقة بني البشر بالكتاب المطبوع والتي لما تتجاوز القرون الستة لا تمثل إلا رفة جفن في رحلة تطور بني البشر الطويلة، والتي امتدت على سبعة ملايين من السنين، وهو ما يعني بأنه لم ينقض وقت زمني كان لحدوث اصطفاء طبيعي يغربل بني البشر انتقائياً لصالح بقاء أفضل لأولئك الأكثر قدرة على التعامل الفاعل مع الكتاب المطبوع والاستفادة منه بشكل أكثر كفاءة من أقرانهم، وهو ما يعني من الناحية العصبية الدماغية، بأن أدمغة بني البشر لا تنطوي على جزء خاص فيها مخصص للقراءة والكتابة بشكل حصري، وأن تينك المهتمين يتم تجيرهما في الدماغ لمناطق دماغية متعددة يطلب من كل منها القيام بمهمات تكميلية إضافية تتضمن تعلم القراءة والكتابة بالشكل المعهود الذي يقوم به بنو البشر راهناً.
وبشكل أكثر تدقيقاً فإن دماغ بني البشر يتعامل تقريباً بنهجين مختلفين حينما يطلب من الدماغ البشري لإنسان معاصر القيام بقراءة نفس النص من كتاب ورقي، أو من كتاب إلكتروني على جهاز رقمي.
ففي حالة الكتاب الورقي يقوم الدماغ بالاتكاء على وظائف الإدراك الاستبطاني الاستيعابي في الفص الجداري، والذاكرة في منطقة الدماغ المتوسط وخاصة منطقة الحصين؛ بينما في حالة الكتاب الإلكتروني فإن التفعيل يكون لمناطق أخرى في الدماغ بشكل يتركز أساساً في منطقة الفص الجبهي المختص بالتحليل العقلي النقدي والغربلة، وهي المنطقة المسؤولة عن ترشيد سلوك بني البشر وتعقلهم وتفكرهم في أي سلوك يقومون به لكي لا يصبح سلوكهم ارتكاسياً مرتكزاً إلى التفاعلات العاطفية في منطقة ما تحت الوطاء، والتي تعمل عند بني البشر بشكل لا يختلف كثيراً من الناحية الفيزيولوجية عما تعمل به عند الحيوانات الأخرى في مملكة الحيوانات الفقارية.
وهناك منطقة تشريحية أخرى يتم تفعيلها أيضاً عند قراءة كتاب بشكل إلكتروني وهي منطقة اللوزة الدماغية المسؤولة عن مشاعر الخوف والوجل والقلق. وذلك التوصيف البيولوجي الأخير يعني بشكل مبسط بأن الاستبطان والتفهم والاستيعاب والاستذكار هي العمليات الأكثر حضوراً عند قراءة كتاب مطبوع ورقياً، بينما عمليات الغربلة وفرز الغث عن السمين، والتحليل النقدي، والتوجس من احتمال أن يكون ما يقرأه الشخص مخاتلاً وموارباً أو كاذباً بشكل كامل. وهو ما يعني بأن قراءة كتاب بشكل إلكتروني هي أكثر إرهاقاً واستنزافاً للموارد البيولوجية والطاقية المحدودة في الدماغ، وخاصة في منطقة القشرة الدماغية ما قبل الجبهية، والتي تمثل المركز الذي يميز بني البشر دماغياً عن باقي الحيوانات الأخرى، والذي لا بد لهم من استخدام قدراته في كل حركاتهم وسكناتهم لضمان اتساقهم مع مجتمعهم ومحيطهم البيئي والحيوي حديثاً وسلوكاً وعملاً، وهو ما يعني أن قراءة النص الإلكتروني لا بد أن تزيد من الطلب البيولوجي على تلك المنطقة الدماغية التي ليس هناك من مهرب من تشغيلها الدائم وبطاقتها القصوى عند أي إنسان طبيعي متكيف مع متطلبات الحياة المعاصرة، والذي يعني أيضاً زيادة في إرهاق وإنهاك تلك المنطقة الدماغية، والتي يبدو أن جميع البشر يعانون من ضعف قدرتها الأدائية في نهاية يوم العمل، والذي قد يومي إلى زيادة صعوبة استيعاب المتلقي لمحتوى أي ما يقرأه إلكترونياً في نهاية اليوم بعد أن استنزفت قدرات القشرة الدماغية ما قبل الجبهية في عقله. بالتوازي مع ذلك من الواضح بأن تفعيل اللوزة الدماغية عند قراءة أي نص بشكل إلكتروني لا بد أن يستدعي بشكل غير مقصود نهج التوجس والتخوف ومشاعر القلق المسؤولة عنها تلك المنطقة الدماغية، وهو ما يجعل من عملية الاستذكار والاستحفاظ عملية صعبة، إذ أن الدماغ يعمل وفق قاعدة أساسية تنطوي على أنه حينما تتصعد مشاعر القلق والتوجس والخوف سواء بشكل محسوس أو حتى بشكل غير واع لا يدركه صاحبه فإن الدماغ حينئذٍ لا بد أن يسخر قدراته لتكشف الخطر المحدق به، وعدم بذل موارده الطاقية المحدودة من الحريرات على الاستبطان الفكري للأفكار التجريدية والتخييل والإبداع.
وذلك التوصيف الأخير يعني بأن قدرة الدماغ البشري أكبر على تفهم ما يقرأه تجريدياً وإبداعياً وتخيلياً حينما يكون ما يقرأه بشكل مطبوع، وأقل من ذلك بكثير حينما يكون ذلك إلكترونياً على جهاز رقمي.
ويضاف إلى ذلك عنصر مهم يتمثل في القدرة الفائقة للدماغ على الاستذكار البصري، وهي القدرة التي تنقت وتشذبت عند بني البشر خلال ملايين من السنين، وتتمثل في قدرتهم في ميدان القراءة على استذكار هيكل وبنيان ومكان الجمل التي يقرؤونها، وكيفية ترتيبها في الصفحة التي يطالعونها في كتاب مطبوع، وهو ما يعزز إمكانيات ترسيخ المعلومات والأفكار التي يتم قراءتها بشكل أسرع وأكثر ثباتاً حين تعامل أولئك القراء مع نص مكتوب في كتاب مطبوع ورقياً ليس هناك من احتمال لتغيير هيكل ومكان الجمل والفقرات في صفحاته، وهي ميزة لا يمكن توفيرها عند القراءة من أي كتاب إلكتروني يتغير مكان الفقرات فيه مع كل عملية فتح للكتاب الإلكتروني خاصة إذا كان ذلك الكتاب معداً بصيغة النشر الإلكتروني العالمي المعروفة بـ EPub، وليس وفق النموذج الأقل ديناميكية في عملية النشر الإلكتروني والمعروف بـ PDF.
ولا يعرف علماء وظائف الدماغ البشري السبب الفعلي الذي يؤدي إلى التفارق السالف في طبيعة التفعيل الفيزيولوجي والتشريحي لمناطق الدماغ البشري حينما يقوم الإنسان بقراءة النص نفسه من كتاب ورقي مطبوع، أو بشكل إلكتروني من جهاز رقمي. ولكن هناك اعتقاد سائد لدى أولئك العلماء أنفسهم بأن السبب وراء ذلك يرجع إلى أن يكون مرتبطاً بأن الدماغ لا يمكن له أن يتعامل مع كل خبرة جديدة يتوجب عليه مقاربتها كما لو أنه يتعلمها للمرة الأولى كما تعلم المشي في طفولته الباكرة تعثراً وسقوطاً إلى حين تمكنه من المشي بكفاءة، وهو ما يعني بأن الدماغ لا بد له من أن يقوم بتصنيف أي مهمة يواجهها في الحيز الأقرب إدراكياً وعاطفياً وفيزيولوجياً لها. وهو ما يعني في حيز قراءة الكتاب المطبوع عند بني البشر المعاصرين ارتباطه بخبرات التعلم المدرسي السالفة، والثقة بصحة المعلومات التي ترد في الكتاب المطبوع، والتي طالما تم التوجيه إليها كمصدر موثوق للمعرفة والتعلم، وهي السمات التي لا تتوفر في قراءة النصوص الإلكترونية بشكلها المستحدث الذي لما يتسيد على المستوى الكوني إلا خلال العقدين الأخيرين، مع بزوغ الفضاء الإلكتروني المهول بمكوناته الفسيفسائية والغرائبية والتي يختلط في لجها الحابل بالنابل، ويصعب فيه فرز الصادق الصدوق عن الملفق الخبيث، وهو الواقع الذي استدعى من بني البشر الحذر والحيطة والتوجس واستدعاء طاقات الغربلة الدماغية وقدرات القشرة الدماغية ما قبل الجبهية في عقولهم لمساعدتهم على فرز الغث عن السمين عند مقاربة أي نص إلكتروني باتكاء على خبراتهم السابقة في طبيعة ومحتوى ونتائج التعامل مع منتجات طوفان المعلومات الإلكترونية التي تعاملوا معها سابقاً.
ومن ناحية أخرى لا بد من الالتفات إلى الحقيقة العلمية الراسخة والتي ترتبط بما يدعى «لدونة الدماغ»، والتي تعني بأن الدماغ جهاز عضوي فائق القدرات على تغيير وإعادة هيكلة ونظم الوظائف البيولوجية والكهربائية والارتباطات بين داراته الدماغية بشكل مستمر يهدف في المقام الأول لزيادة وتعزيز قدرات التكيف لدى بني البشر مع محيطهم الحيوي، وبأن تلك القدرة الفائقة تكون في أعلى مستوى من الكفاءة خلال السنين الأولى من عمر الإنسان، وتنخفض مع تقدمه في العمر بدرجات متفاوتة تتعلق بمستوى استثمار الفرد لطاقات دماغه وتعرضه لتجارب ومعارف وخبرات مستجدة في سياق حياته اليومية. وذلك التوصيف الأخير لا بد أن يعني من الناحية العملية عدم معرفة باحثي وعلماء وظائف الدماغ البشري بشكل دقيق كيف سوف يكون ارتكاس الأطفال في المستقبل إذا كانت وسيلتهم الوحيدة للتواصل مع أي نص مكتوب هو أن يكون بشكل إلكتروني، دون أن يكون لديهم إمكانية الوصول والتعامل مع النصوص المطبوعة ورقياً، إذا سلمنا بأن الحال سوف تكون كذلك في المستقبل وأن الكتاب المطبوع وما كان على شاكلته في طريق الامحاء والاندثار خلال المستقبل المنظور.
ومن مدخل واقعي أخلاقي فقد يمكن للعاقل ألا ينظر إلى رحيل الكتاب المطبوع إلا بأنه ارتحال غير مأسوف عليه، وأنه تغير كان لا بد من حدوثه بالنظر إلى أكداس الهواتف الجوالة الموجودة بين أيادي بني البشر المعاصرين، والتي لا تستخدم في غالب الأحايين إلا لغايات جلها مضيعة للوقت والجهد إن لم تكن مضرة ومشوهة وممرضة عقلياً ونفسياً في سياق كثير من الغثاء الذي تنطوي عليه في أخاديدها ومفاعيلها. وهو ما يعني أن احتمال قيام ذلك الطوفان من الهواتف الجوالة بأي عمل مفيد منها قد يتمثل في قراءة كتاب ما بشكل إلكتروني بدل قراءته بشكل مطبوع لا بد أن يكون تغيراً محموداً من الناحية العملياتية كحد أدنى لاستنباطه هدفاً مفيداً وإيجابياً من تقانات مكلفة عبر استخدامها بشكل إيجابي، قد يكون أقله التخفيف من هول قطع الأشجار الجائر في غير موضع من أرجاء المعمورة، والذي كثير منه يذهب من أجل تصنيع الورق اللازم لطباعة المطبوعات والكتب، بالإضافة لتوفيره نفقات وتكاليف شحن المطبوعات الثقيلة الوزن بطبيعة حالها، وتوفير الوقود الأحفوري اللازم حرقه لنقلها من مكان لآخر، خاصة وأن البشرية أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الولوج في مرحلة اللاعودة في سياق كارثة تسخن كوكب الأرض جراء زيادة تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، والناجم أساساً عن الإفراط المنفلت من كل عقال عقلاني أو أخلاقي في استخراج وحرق الوقود الأحفوري خلال بضعة العقود الأخيرة، بالتوازي مع السعار البربري لقطع الغابات والأشجار هنا وهناك، والتي تمثل المصدر شبه الأوحد لاستهلاك الفائض من غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عبر ما تقوم به من فعاليات كيميائية في سياق عملية التركيب الضوئي.
وقد يستقيم في هذا السياق أيضاً التطرق إلى بعض المزايا التطبيقية التي يوفرها الكتاب الإلكتروني التي تتجاوز سهولة حمله وتخزينه إلى حيز توفير العناء وجهد البحث المضني جسدياً وعقلياً على الباحث لإيجاد المعلومة التي يسعى لإيجادها في النص الذي يقرأه، خاصة وإن كانت معلومة أو أطروحة مغمورة وليست بارزة بشكل يستدعي وضعها في فهرس الكتاب المطبوع أو ذيل الكلمات المفتاحية فيه، وهو ما يعني بأن الكتاب الإلكتروني قد ينطوي على مجموعة من المزايا التفاضلية الإيجابية في ميزان الباحثين عن المعرفة بشكل بؤري وخاصة في سياق البحث العلمي والمعرفي التنقيبي والاستقصائي بأشكالها المختلفة.
وأغلب الظن بأنه سوف يكون هناك ازدياد مضطرد في عملية النشر الإلكتروني بأشكالها وتلاوينها المختلفة خلال العقود القادمة بشكل يزيد من نسبة ما هو منشور إلكترونياً على حساب ذلك المنشور ورقياً، دون أن يؤدي ذلك إلى غياب واندثار مطلق للكتاب المطبوع بشكل كلياني نظراً للمزايا التفاضلية التي قدمها، والتي استكنهها واستمرأها الكثير من أبناء أجيال الكهول والشيوخ المعاصرين، وهو ما قد يحتمل تغيره حينما تتقدم السنون، وينتقل أطفالنا ليحلوا محل أسلافهم من الكهول والشيوخ في قابل الأيام.