لابد من الاعتراف بأن الكتابة عن “المئذنة البيضاء” لم يكن بالأمر السهل، ليس بسبب تعقيدها أو بلاغتها الأدبية بل بسبب بساطتها وهشاشتها، كالسمكة لا تعرف من أين تمسك بها. فبالرغم من أن سلاسة السرد وتتابع الأحداث المتواصل على مدى أكثر من 400 صفحة والذي يحسب لها، فإنه بالمقابل يجعل من الصعب التوقف للتفكير أو التأمل في مضمونها.
بالإضافة إلى ذلك تجدر الإشارة إلى أن عامل التشويق (الفخ) الذي لجأ اليه الكاتب والذي تمكن بنجاح أن يكوّن قوة الدفع الرئيسية والمحرّكة لإنجاز هذا العمل. وللإنصاف، كان من الواضح الجهد الدؤوب والمثابرة المبذولة عبر الزمان والمكان لتشكيل هذه الحكاية التي ربما هي أقرب “لتحقيق صحفي مطوّل” عن الفساد أو “بحث استقصائي” عن رجال المال والمافيا، أو في أحسن الأحوال مشروع سيناريو “دراما فنتازيا” تصلح لتكون مسلسلاً تلفزيونياً رغم إصرار كاتبها على أنها “رواية”.
تُعرّف الرواية بأنّها فن من الفنون الأدبية حديثة العهد وسردها أطول من القصة إذ يحكي فيها الكاتب مجموعة كبيرة من الأحداث بأسلوب نثري، يقومُ على طرح قضايا أخلاقية واجتماعية مختلفة؛ بهدف معالجتها أو محاولة البحث فيها، وبعضها قد تحثُّ على الإصلاح والتغيير. ومن أهم عناصر الرواية الشخصيات، والحبكة، والزمان والمكان، والحوار، كما تختلف أنواع الروايات فهناك الرواية العاطفية، والبوليسية، والواقعية، والتاريخية، والفانتازيا، والتأملية، والرومانسية… ومنها ما يقدم معلومة مختلفة فيها بعض الغرابة، وتتميز عن غيرها بالخيال المكتوب.
تطور هذا المفهوم لينتج تعريف الرواية “الحديثة” التي على ما يبدو جعلت الكثير من الكتّّاب العرب والسوريين على وجه الخصوص، ميّالين للإعجاب بها ومن ثم تتبع قواعدها الخاصة، والتي تعتمد إلى حد كبير على التحرّر من معظم قواعد الكتابة الروائية.
الفيلسوف الفرنسي لوسيان جولدمان، يعتبر الرواية “قصة بحث عن قيم أصيلة في عالم منحط يقوم به فرد منحط”.
وهذا بالضبط ما كان في قصة وأحداث “المئذنة البيضاء”. هذا المفهوم المعاصر للرواية يكاد يكون البوصلة الرئيسية للمؤلف في تجميع وتركيب الدور الذي لعبه بطل العمل “غريب الحُصو” الذي يتحول إلى “مايك الشرقي”.
(غريب) الذي عاش ومارس أعمالاً منحطة في عالم المال والنفاق والبغايا… هذا هو الشخص الذي فعل كل شيء للوصول إلى ذروة الثروة والنفوذ، لكننا لسنا متأكدين حقاً أنه كان يبحث عن أي قيم. إنه مجرد شخص “منحط” مثل غيره من المسؤولين وأصحاب النفوذ الموجودين في فضاء الدولة السورية. وإن رحلة بحثه عن “القيم الأصيلة” ليست سوى وهم في ذهن الكاتب، ابتكرها كمبرر لبناء وتشكيل إطار هذا العمل.
وإذا أردت التعرّف إلى شخصية بطل العمل “غريب الحصو” وصعوده إلى أعلى درجات سلم الثراء المالي، فما عليك سوى مشاهدة شخصية “سالم القابض” في مسلسل “القربان” (إنتاج 2014) وعلى وجه التحديد في الحلقة الـ15 عندما يشرح القابض بإيجاز مشروع حياته وأهداف أعماله. سالم هذا نسخة توءم لغريب.
يبدو أن شخصيات كهذه لها شعبيتها وموجودة بكثرة في نتاجات الفن الدرامي السوري. الأسطوانة الممّلة والمشروخة دوماً عن “الشريحة الفاسدة” و”القيادة النظيفة” التي ما زال تكرارها في كل جوانب نتاجات ثقافة الداخل السوري، ولا أحد يقترب أو يشير إلى أن سبب هذا الخراب والدمار هو بالضبط نتاج محور القيادة المغرقة في الفساد بل هي نفسها راعية الفساد والخراب في كافة جوانب المجتمع السوري.
الرواية الجيدة لها عدة مستويات، بينما الرواية الهشّة لها مستوى واحد فقط.
في “المئذنة البيضاء”، يتلخص العمل كله في نص سردي ممتع يواكب في مستوى واحد حياة شاب سوري فقير اسمه “غريب الحصو” في رحلته من عالم الواقع البائس في دمشق إلى مدينة بيروت، مدينة الأضواء والأحلام. هناك تتوالى الأحداث صعوداً وهبوطاً لتتلاطم أمواج المصادفات فتدفعه إلى قلب الحياة المضطربة للمجتمع البيروتي الصاخب والقائمة -بحسب “الكاتب”- على النصب والاحتيال واستغلال مواقع النفوذ لدى بعض رموز الطوائف والميليشيات ونساء الليل وتجارة الويسكي ونذالة العسكر السوري خلال وجودهم في لبنان، ما بين عوالم الابتزاز والسلاح وعصابات التهريب وتواطؤ السياسيين.
كل ذلك و(غريب) كالسمكة ينزلق بنجاح في هذه البحار ويفلت كل مرة بالمصادفة أو بدهائه من كل الفخاخ الرهيبة ليصبح رجل ثروة ونفوذ فاحش، قبل أن تمر السنين ويقرر العودة إلى دمشق بحلم غريب.
باب شرقي.. بوابة دمشق الأمنية
إن المجال الحيوي لأي رواية هو العنصر الفني الجمالي، الذي يدفعك دفعاً إلى التحليل والغوص عميقاً فيما بين السطور والتنقيب عن الرمزيات والمعاني المختلفة التي يرمي إليها الكاتب. في “المئذنة البيضاء”، لا داعي للقيام بهذا لأنه ببساطة غير موجود. وعوضاً عن ذلك نجد أنفسنا ننغمس بشكل كلي في أحداث الرواية.
وكما ذكرنا، فإن الأحداث وحدها لا تصنع عملاً روائياً راقياً. فبعد عودة “غريب الحصو” إلى دمشق ليصبح اسمه “مايك الشرقي”، كان لا بد للكاتب من إضفاء بعض الأمور المتخيلة لتضفي على القصة بعض الدراما حتى ولو كان مبالغاً بها. بل حتى لو أصبحنا غير قادرين على فصل الواقع عن المتخيّل في تلك الأحداث؛ هل هي عوالم الكاتب أم عوالم مايك… عندها تأتي لحظة الكشف الرهيب في دمشق ولحظة التجّلي في باب شرقي عند “المئذنة البيضاء” ما بين ظهور “الدجّال” ونزول السيد المسيح المفترض. ليجد نفسه محاطاً بمشروع روحاني مذهل مرفوع على دعائم دينية أشبه ما يكون بمشروع إعادة إعمار إيرانية تتزاوج فيه كربلاء مع الفاتيكان. بمباركة الشيخ رسلان، لتردد جموع الحجيج الهائمة بصوت واحد:
“شيخ رسلان يا شيخ رسلان… يا حامي البر والشام”.
صوت يذكرك بشعار “سوريا الله حاميها”. ولا تدري إن كان هذا شعارا ينسبه الكاتب لـ “الدجّال” أم لـ “الروح القدس”.
مضى زمن طويل على اعتقاد غالبية المسلمين بأن نزول السيد المسيح سيكون على منارة الجامع الأموي الشرقية، وليس على “المئذنة البيضاء” بحسب قناعة الكاتب ومعتقدات (الفرس) في دمشق. وجاء وقت أصبح فيه باب شرقي ثكنة عسكرية برعاية مايك الشرقي ومغلق في وجه المدنيين القادمين من بساتين الغوطة المحاصرة التي لا ينبس الكاتب بكلمة واحدة حولها.
اقتباس أم استعارة أم انتحال؟
الفهلوة طبع إنساني، وأحياناً حالة بشرية تتلبس بعضنا حين نظن أننا أذكى ممن حولنا، والفهلوي شخص يعتمد على بعض المعلومات كي يظهر أنه يعرف الكثير؛ يعتمد على ذكائه وقدرته على اقتباس جمل وأفكار الآخرين التي تساعده على الإيحاء للآخرين بأنه خبير، خاصة إذا وجد فراغاً فكرياً يحتاج أن يملأ بطريقة أو بأخرى.
“المئذنة البيضاء” مليئة بفهلوات مبالغ فيها سواءً في بناء البيئة والشخصية والأحداث. وكثرة تفاصيل مدينة دمشق توحي أنها لكاتب قرأ جيداً عن المدينة لكنه في الحقيقة لم يعرفها. بعد ذلك يأتي استعراض ساذج لأنواع السيجار والويسكي الجيد والكافيار… وبأن أفضل أنواع الجبن هو المصنوع من حليب الحمير؛ ولا أدري ما الذي يدفع كاتبا بذل كل هذا الجهد إلى “اقتباس” جمل وعناوين لبعض فصول كتابه دون الإشارة إلى مصدرها، بحيث تبدو لنا جملاً بليغة أصيلة تعود للكاتب، لكنها ليست كذلك.
ففي الفصل الـ47 من “المئذنة البيضاء” مثلاً، جاءت الافتتاحية مع هذه الجملة: “لكل قدّيسٍ ماض، ولكل آثمٍ مستقبل”. هذه الجملة “ملطوشة” كما هي من افتتاحية فيلم شهير عن الحرب الأهلية الإسبانية، موجود على منصة نتفليكس من إنتاج عام 2011، وعنوانه “يكون هناك تنانين” (There Be Dragon).
ليس الغرض الأساسي هنا التعامل مع “المئذنة البيضاء” لاستكمال النقد التحليلي، فذلك يتطلب مساحة أكبر. والغرض حقيقةً كان لإلقاء الضوء، ولو قليلاً، على عمل مختلف ومشوّق ودؤوب، لكن “النزعة الطائفية” -إن صح التعبير- بقيت واضحة ومسيطرة على تفاصيله. عملٌ انتهى، للأسف، ليقول لا شيء.
*تلفزيون سوريا