فوزية المرعي، شاعرة وروائية سورية، مؤسِّسة أول صالون أدبي في الرقة.
أوراق 19- 20
شعر
كأنك: قد جلست على وهـــدة البـــوح وحيـــــــــداً
تقشر جسد الخطيئة وتعّري الروح عن آثامها ..
والغيم الغسقي يتهاشل مطراً أحمــــــــــــر
فتذوي ورود آمالك، وتصّوحُ أغصان عهودك ..
عيناك تتواشلان هتلى بدموع النــــــــــــــــدم
تغزُل من وشائع الغـروب رداءً
لجسـد قصائدك المارقة عن نقاط حروفهــــا ..
وتهيم على شرفة الليل كفراشة، ضلّت ضياء فتيلها ..
وحدك كنت.. لا أحد يقبس من موقد بوحك جمرةً
لسعار الألم اللاهب في الأحشـــــــاء ..
قدماك تنتعلان الصمت في ترنحها، وأنت تسعـى
بين صفا التـوق، ومروى الوله الهائم بالحكايات
الوسـنى على زنـد الانتظـــــــار ..
والريـــــح غادرت المكــــــان ..
لا نسمـة من صبـا تداعب وجه مرآتك
لتزيل قذىً تراكم على عيون رؤاك ..
ولا دَبور تتلصص من شقوق عتمتك الثملى بالآلام ..
وحدها النجمة أماطت خمارها وتمطت، تُوارب سجوف الظلام
وتسدل خيوط ضيائها ليتسنـّى لها قراءة ما سطرته على
صفحات الليل من ترانيم وجـــدك ..
أصغى إليك الصدى جافـــلاً: ياليتنى .. ياليتهـا ..
وتراتلت عن شفاه جوفك حكاية يزمزمها الولــــه قائلا:
كنتُ وإياها نقطن في أرجاء حـيّ، تشابكت فيه أصابع الـعادات
والأعراف، جســـراً نعدو عليه بلا اكتراث، فلم تستوقفنا المسافات
يوماً لتسأل بأيّ منعطف سترسو خطانا..
وبتّ أرقبها كل يوم، وهي تترهدن في مشيتها كقطاة يجفلها
رفيف أجنحة الريح فتحثّ الخطو إلى مدرستها، ورحـــــت أتبعها بخطىً وئيدة،
فانبرى قلبي ريشة ًيرسم قسماتها بكل ألوان الطيف
ويؤطرها لوحة مرصعة بجمان اللهفة، فتصدرت شرفة روحــي
أيقونة من تبرٍ وطهرٍ لا تريم ..
مضت السنون وأنا أتعوسج على دربها نخلة، تهذي عذوقها للريح
قصائد حبّ وهيـــام ..
تجاهلتني كثيراً، لكنني لم أتوان عن ملاحقتها حتى أضحيـــــت كظلـّها
وبـتّ أقلِّم من أغصـــــان روحي رماحاً لأقذفها بهــــــــا
حتى وقعت بشباك صيدي كرئم عابث في فخ الحب ..
وبعد لأيّ تبسمت .. فرنقت حمائم روحي عن أغصانها وتوضأت
أوصالي بأمواه الأمل ..
التقيتها ثانية، ضَحكتْ.. فارتوت شرايينـــي الغرثى من نطف لماها اللاثغة بالفرح. وفي لقاء أخير بادرتها بطلب الزواج، وحين وافقت، ترامحت أفكاري كمهر جامح، وهاأنا ذا أذرع مسافات القـرار، تتصحر أمامي سهوبها تارة، وأخرى تزهر بالأمل..
ناجيت روحي الساهمة بألم: من أين لي لأتوج رأس مليكتي بتاج يلهث بالماس والذهب ومنجم حبي يعروه الخواء من ثروة تبددت بأصابع الإهمال، وعدم التأهب لمثـل هذه اللحظة والتحسّـب لمدّ وجزر الأيام؟
رهنتُ روحي مطية للصديق والقريب والغريب، حتى حصلت على مال يسـدّ رمق الحكايــة .. تزوجتها، وعشنا كنحلتين، نرتشف من تويجات السعادة رحــــيقها، ونذوب في شهد الليالي قصائد عـزّ، علــــى العاذل اقتحـام مفرداتهــــا، وفـكّ طلاسم رموزها ..
ناجيتها والقلب يأسره وجيبُ: أنا لك .. وأنت لي وما نحن سوى
طائرين ينصهران في بوتقة الحب، وعلى تسابيح التوحد يورق
جسدينا بأرياش الرغبة للانبعاث من جديد ..
حبيبتي .. لقد أثـقـلتني الديون وقد قطعت على نفسي وعداً أن أبني
لك قصراً بين صبوات النـدى .. قصراً يليق بحبك أبهى وأجمل من
عرش بلقيس ..
لا أريد أن أقول وداعاً، لأنني لن أغيب عنك .. عفواً بل لأقول
أنك لن تغيبي عني لحظة واحدة، وقد عقدت العزم على
السفر بعيداً، لا تيأسي إن طال الغياب .. فأنت لي وأنا لك،
مهما
نأت بنا المسافات.. أليس كذلك؟
كأني رأيتها ساهمة ترنو إلى المجهول بعينين تراهمت رموشـــها
بالدمع، وفمٌ سُدّتْ مساربه عن أي بوحٍ، صخرة ٌمن وجوم ..
فانبجست عن مسامات صمتها عبارة تسللت بإيقاع نئيــم: أمعقول ؟!
ضممتها إلى صدري طويلا .. وعلى إيقاع الوداع والنشيج، أسعفتني مجامر روحي الموهرة بجمر الوداع:
“قبلتها ودموعي مزج أدمعهـــا وقبلتني على خوف فماً لفــــــم”
قد ذقت ماء حياة من مقبلهــــــا لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم
ترنو إليّ بعين الظبي مجهشــة وتمسح الطل فوق الورد بالعنم”.