دعاني الشاعر والناقد الفلسطيني محمد الأسعد في مقالته: “قصيدة النثر العربية: جماعة “شعر” أم قرنان من التجربة؟” (العربي الجديد، 25 أيار/ مايو 2021) إلى مساجلة حول كتابي “قصيدة النثر العربية بين النظرية والتطبيق”. وأنا شاكرة له على ما قام به من جهد في قراءة الكتاب والتعليق عليه. وأرحّب بدعوته إلى الحوار، لا سيما أنّني أرى في مقالته سوءَ فهم أو تغاضياً عن بعض النقاط المهمّة التي حرصتُ على تناولها وشرحها في مقدّمة الكتاب وفي كلمته الأخيرة. في هذين الجزأين ردٌّ على كثير ممّا أثاره الأسعد في مراجعته الكتاب، ولكن لا بأس من إيضاحها هنا.
أوّلاً، أُكرّر هنا ما أشير إليه في مقدّمة الكتاب. دراسة قصيدة النثر أمر صعب ومليء بالمخاطر. لأنّ قصيدة النثر ليست شيئاً بحدّ ذاته، بقدر ما هي تحدٍّ لما هو موجود قبلها. أو كما يقول الأسعد، هي قرنان من التجارب في كلّ الاتجاهات. ليست مدرسة ولا تياراً، ليست مجموعة من الشعراء ولا حركة.
أوضحتُ في الكتاب أنّني مهتمة بهذا الطرح الشعري وتطوُّره بعد العام 1960 مع “مجموعة شعر”. ولكنّني أفردت فصلاً لدراسة إرهاصات سابقة في التراث العربي “قفزت فوق سياج الوزن” وحقّقت الشعرَ خارج الشكل الشعري المتّفَق عليه، دون أن تُسمّى قصائد. والهدف من هذا الفصل مساءلة طرح قصيدة النثر التي برزت العام 1960، والتي حاولت تقديم نفسها على أنها نوع جديد وطارئ ومستقلّ. هذا الطرح يهمّني، بمعزل عن صحّته أو عدمها. وما يهمّني أكثر هو أثره في ما كُتب من نصوص بعده. ما معنى أن يكتب شاعر نصّاً وهو مقتنع، خطأ أو صواباً، بأنه يبتدع شيئاً لا سوابق له؟
ولكن دراستي لا تتوقّف عند “جماعة شعر” بل تتتبّع أثرَ هذا الجهد الشعري والتنظيري في أجيال الشعراء الذين جاؤوا بعد شعر، وصولاً إلى يومنا هذا. ولذا قمت بالتركيز على ستّة شعراء (الحاج، أدونيس، الماغوط، درويش، بركات، سعادة)، لا لأنّني معجبة بأعمالهم أكثر من أعمال غيرهم، ولا لأني أرى تجاربهم أهمَّ من غيرها. هذا حكم أتركه لقرّاء الشعر أو من تبقّى منهم. اخترت من اخترتهم لأني وجدت فيهم تمثيلاً مناسباً لاتجاهات مختلفة في حقل التجارب هذا، أو في معمعة قصيدة النثر العربية هذه.
وكنتُ مهتمّةً، بشكل أساسي، بمساهماتهم في الجهد التنظيري الذي رافق قصيدة النثر كممارسة شعرية، ومن هنا جاء وصفي للماغوط بأنه “شاعر قصيدة نثر غير مكرّس” أو شاعر قصيدة نثر عن غير قصد. لأني أرى في لامبالاته بالتنظير واستخفافه به موقفاً نقدياً مهمّاً. وهذا ليس استخفافاً منّي بتجربة الماغوط بل تقدير لاستخفافه هو بجهود معاصريه التنظيرية وتهكّمه عليها، داخل قصيدته وخارجها. هو سعي منّي لفهم هذا الموقف الساخر فهما نقدياً. وقد أكّدتُ على أهمية تجربة الماغوط حين أشرت إلى أثره البعيد في أجيال من الشعراء جاءت بعده. وقد تكون تجربتُه الأكثر تأثيراً من هذه الناحية.
اهتمامي بالبُعد النظري لقصيدة النثر هو كذلك سبب دراستي لمساهمة محمود درويش في الجدل الذي كانت قصيدة النثر محوره. ليست أعجوبة ولا بدعة أن أشير إلى تجربة غازلت قصيدة النثر عن قصد. أليس مثيراً للاهتمام ذاك الحوار النظري بين شاعر من جهة وقصيدة تستهويه ولكنه مصرّ على ألّا يتورط فيها من جهة أُخرى؟ اهتمامي بأثر قصيدة النثر كفكرة أو كطرح نقدي في الشعر العربي هو ما يسوّغ تناولي لمحمود درويش في هذا الكتاب، فهو الشاعر العربي الحديث بامتياز، صاحب الجمهور العريض الذي كان من السهل عليه أن يستريح على عرش شهرته وفي دفء قصيدته نفسها، التي يحتشد الآلاف لسماعها أو غنائها، ولكنه أصر على تحدّي نفسه وعلى البحث عن الشعر في أماكن جديدة، وكانت فكرة قصيدة النثر ومراوغته لها محفّزاً له في هذه المغامرة. وقد ترك حوارُه النظري مع قصيدة النثر أثراً واضحاً في ما كتبه في آخر حياته، سواء ما سمّاه شعراً أو ما سمّاه نصوصاً أو يوميات.
الفكرة المتّفَق عليها لدى دارسي قصيدة النثر في كلّ اللغات هي أنها تتحدّى بطبيعتها التنظير والتوصيفات، ولكنّ دارسيها يتشبّثون بالنظرية والتوصيفات لأنها أقل عشوائية. وكذلك شعراؤها، غالبا ما يتورّطون عمداً أو عن غير عمد في التنظير لها. فتبقى المشكلة القائمة هى تلك الفجوة الهائلة بين المجهودات النظرية والمنجز الشعري.
في كثير من الأوقات، حين يلجأ دارس قصيدة النثر إلى استشهاد شعري بعد عرضه نقطة نظرية، يظهر التفاوت الكبير بين الفكرة والنص المستدعى للدلالة عليها. لو كان الأسعد أمعن القراءة في مقدّمة الكتاب وفي الكلمة الأخيرة، لكان انتبه إلى أنَّ اختياراتي في الكتاب ليست تكريماً لمن اخترتُهم ولا إقراراً بتفوُّقهم على غيرهم. ليس للكتاب حجر أساس. كان هدفي وضع هذه التجارب المختلفة في نفس المستوى والنظر إليها على أنها اتجاهات في معالجة المعضلة النظرية التي تطرحها قصيدة النثر بشكل عام وقصيدة النثر العربية بشكل خاص.
اهتمامي الأساسي هو ما يمكن أن نسمّيه “جدليات” قصيدة النثر، أي الفضاء النظري الذي فتحته هذه القصيدة لتحدّي المفهوم السائد للشعر العربي، ومساءلة النصوص بموضوعية ودون تعسُّف أو انبهار بأسماء شعرائها.
أخيراً، في موضوع اختياراتي للشعراء في الكتاب، كنتُ حريصة جدّاً على التأكيد في المقدّمة وفي الكلمة الأخيرة على أنّني لست مهتمة بتقديم مسح لشعراء قصيدة النثر العربية. بل على العكس، أجد في هذا ما هو مسيء وغير مجدٍ. كتابي هذا ليس الكلمة الفصل، بل هو إحدى الخطوات الأولى في دراسة قضية قصيدة النثر العربية، ولا سيما في الكتابات النقدية عن الشعر العربي في اللغات الأجنبية. لا يهمّني أن أقدم تقريراً أو فهرساً بالشعراء والشاعرات يراعي المناطق والجنس والتوازنات والاعتبارات الأُخرى التي ليس هناك مسوّغ فنياً أو نقدياً لها. وقد ذكرت في كلمة الكتاب الأخيرة، التي أتمنّى أن يعود إليها محمد الأسعد، ردّاً مسبقاً على قضية الاختيارات هذه، وأشرت إلى تجارب شعرية كثيرة تستحقُّ الدراسة لم أتناولها في الكتاب. أضاف إليها الأسعد اسمين وهو يعرف أنّ اللائحة تطول وتطول.
أما رأي الأسعد في بعض الشعراء الذين يرى تجاربهم متواضعة أو يجد كتاباتهم كفقاعات صابون، فهذا رأيه الشخصي الذي لن أجادله فيه، ولا أرى له صلة بكتابي أو بتناولي لهؤلاء الشعراء. هذه التجارُب التي يراها الأسعد متواضعة أو مزعجة، يراها البعض عميقة الأثر في المشهد الشعري وفي شعراء العربية الشباب. وهذا داعٍ إلى دراستها ووضعها في سياق ما. لست في صدد الدفاع عن أحد، أكتفي بمقاربتي الموضوعية والنقدية لأعمالهم.
في مسألة أنسي الحاج وأدونيس وسوزان برنارد، هذه مسألة كُتب وقيل فيها الكثير. وقد حرصت في بداية الكتاب أن أوضّح أنّ اهتمامي ليس بمدى تأثُّر شعراء قصيدة النثر العربية بالنظرية الغربية وبطبيعة هذا التأثُّر، بل بأثره في ما كتبوه. وأوافق محمد الأسعد هنا، كما أقول في الكتاب، على أنّ تعاطي هؤلاء الشعراء مع النظرية الغربية قد يكون قاصراً أو خاطئاً أو حتى قائماً على التقليد والسرقة. ومع ذلك، أظلّ مهتمة بأثر هذا التعاطي في نصوصهم وكتاباتهم النقدية التنظيرية، حتى لو كانت مرتبكة وقاصرة. وغياب الدقّة الذي يشير إليه الأسعد في ما كُتب من نقد عن قصيدة النثر أمر جلي لا جدال فيه. وإن كان شاعر قد نجح أكثر من غيره في التعبير عن بعض الأفكار هنا أو هناك.
أبدأ الكتاب بالتركيز على أنسي الحاج وأدونيس وبيانيهما، ليس تجاهلاً لما جاء قبلهما أو مبالغة في تقدير دورهما، ولكن لأنّي مهتمّة بهذه المشكلة التي افتعلاها حين جعلا من موقفهما في العام 1960 بداية منفصلة عما سبقها. وقد تعمّدا بذلك فصل مشروعيهما عما جاء قبله، ولا سيما ما كُتب تحت شعار “الشعر النثري” الذي يشير إليه الباحث س. موريه. وألتفتُ في الكتاب بعد ذلك إلى مراجعتهما هذا الموقف المتطرّف، أي إعادتهما النظر فيه. يظهر هذا بشكل أوضح عند أدونيس.
على الرغم من اختلافنا في الرأي، أرحّب بهذه الفرصة لتبادل الأفكار وأعود وأشكر الشاعر محمد الأسعد على قراءته واهتمامه.
(العربي الجديد)