نحو 12 عاماً لم يهنأ خالد سعيد في قبره يوماً، حتى مع صدور الحكم المتأخّر للغاية بتعويض أسرته بمليون جنيه مصري (أقل من 65 ألف دولار أميركي)، فما قيمة أن يحصل الأهل على مبلغ مالي بينما لا يدفع الجناة ثمن جنايتهم بحق شاب مصري واعد كان ينتظره العمرُ الطويل والحياة بمساراتها التي انتهت في لحظة، وبقرار طائش من “مُخبر أمن”.
أكثر ما يلفت النظر في الحكم، هو محو الذاكرة الجمعية المصرية، وإزالة شيء بارز في التاريخ المصري الحديث، فسعيد كان سبباً مباشراً في اندلاع ثورة 25 يناير، التي لا يحبّها النظام المصري، بل ويجعل ذكراها جحيماً على الجميع، فكل شخص ينزل إلى الشارع قبلها بأيام هو مشتبه به.
تعليقات شباب الأجيال الجديدة، الذين كانوا صبياناً صغاراً حين كان اسم خالد سعيد يهزّ أرجاء مصر، تشير إلى أنهم لا يعرفونه، يسألون: من هذا الشاب الذي تتحدثون عنه؟ من هذا الذي قامت الدنيا لأجله؟ وبلغت التعليقات إلى قول “بالتأكيد خالد كان ضابط شرطة ضحى بحياته في سيناء”.
لا تعرف الأجيال الجديدة في مصر أبطالاً سوى أحمد منسي، ضابط الصاعقة الذي مات مقتولاً في سيناء خلال إحدى الهجمات، مع زملائه من الشرطة والجيش والمخابرات والأمن الوطني. حرف الذاكرة المؤدلج، حصل خلال السنوات الماضية، فلم يعد الشباب يشاهدون أفلاماً ومسلسلات بـ”كثافة شديدة” سوى عن بطولات الأجهزة الأمنية وأفرادها، فقد شكَّلت الرسائل الإعلامية التي تُبثُّ تلفزيونياً وصحافياً وفي الشوارع، وفي جميع المنصات المصرية “غير المحجوبة”، العقول الجديدة التي لم ترَ شيئاً رؤى العين، باعتبار البطل هو من يرتدي الزي العسكري ويحمل سلاحاً ويصفّي “أعداء الوطن” ثم يموت شهيداً في النهاية، وكل من هم غير ذلك، الأبطال الذين يُعتقون، والشباب الذين يجدون أنفسهم مسجونين لقولهم الحق في وجه سلطان غاشم، وقادة الرأي الذين يختلفون مع النظام السياسي، لا أحد يذكرهم، ويتم محوهم جميعاً من أي رسالة.
وفي كتاب التاريخ المدرسي، يتم المرور على 25 يناير مروراً عابراً من دون ذكر لخالد سعيد، أو الأحداث، أو الأسباب “الحقيقية” التي أدَّت إلى اندلاع ثورة على منظومة مستبدة، ولا تفسير لذلك سوى أن تلك المنظومة أعادت تشكيل أوضاعها وعادت لاحقاً بوجوه جديدة.
التاريخ يكتبه المنتصر، وهو ما يحدث الآن. لذلك لا تعرف الأجيال الصاعدة شيئاً عن ثورة 25 يناير، تجهلها تماماً، وكأنها لا تعرف أسبابها، التي تتبدى الآن أيضاً إنما بصور مختلفة في أقسام الشرطة والشوارع في ظل المبادرات الرئاسية لتدجين الشباب والأطفال من الصغر داخل نظام يقضي على مستقبلهم حتى يصبحوا مستفيدين وقريبين ويلوذوا بالصمت المميت. وقد نجحت سياسة فرض الأمر الواقع تلك، إلى جانب محو الثورة، في تقديم نفسها تدريجياً.
“خالد” الذي يشبهنا: مجند مسجون ثم حالم بالهجرة وأخيراً “قتيل على يد مخبر”
تلك الظواهر تجعل التذكير الدائم بخالد سعيد، واسمه وسيرته وهويته، ضرورة، لا فقط من باب رد الجميل لشخص قدم حياته لإنعاش شعب ومنحه سبباً مباشراً للثورة على نظام جثم على صدره طوال 30 عاماً، إنما حفاظاً على التاريخ، فمن قتل خالد هو من اعتقل علاء عبد الفتاح، وهو أيضاً من يحكم القبضة الأمنية ويعتقل كل من لا يرى مظهره ملائماً في ميدان التحرير في وسط القاهرة.
ولد خالد سعيد عام 1982 في مدينة الإسكندرية، حيث عاش ومات. قُتل بالضرب على يد أفراد من مخبري الشرطة المصرية، وبشكلٍ ما كان خالد ضحية لحالة الطوارئ، فالمخبران أرادا تفتشيه معتقدين أنه يحمل مخدرات، وذلك داخل مقهى إنترنت، وربما كان بينهما خلاف قديم، فاستغلا سلطتهما “الوهمية” لتفتيشه وإهانته وإرهابه واقتياده إلى القسم، هاجمه أحدهما وقيد حركته من الخلف وحين حاول تخليص نفسه منه، ضربه أكثر وصدم رأسه برف رخامي في مقهى الإنترنت الذي كان فيه، ثم خرجا وأخذا خالد معهما إلى مدخل عقار مجاور، وضرباه ضرباً مبرحاً، كما روى شهود في ذلك الوقت. وحاول خالد أن يفلت منهما بقوله “أنا هاموت”، فقال له أحدهما: “مش هسيبك غير لما تموت”. بدا وجه خالد في حالة بشعة، حين وصلت سيارة الإسعاف لنجدته، وظهر وجهه لاحقاً مشوّهاً وقد تم “تقطيعه تماماً”.
كان خالد، بحسب شهادات أيضاً، حصل على مقطع فيديو للمخبرين، وهما يقتسمان “ضبطية حشيش” في قسم الشرطة ونشره على الإنترنت، فبالنسبة إليهما، لم يكن محو الفيديو من هاتفه كافياً، فقررا محوه هو شخصياً من الوجود، حتى لا ينسخ نسخاً أخرى، ويصبح خطراً في يوم من الأيام. وتقسيم الحشيش على أمناء الشرطة، لتعاطيه أو الإتجار فيه، طقس شائع في مصر، ويعرفه المطلعون على شؤون الأقسام، ففي الغالب يكون تجار المخدرات في المنطقة على علاقة وطيدة بأمين الشرطة أو المخبر المسؤول عنها، هو يورِّد مقابل الأموال، ويحميهم أيضاً من هجوم الشرطة أو الوشايات مقابل أجر شهري، فلم يكن ذلك شيئاً غريباً في العالم السري للمناطق الشعبية.
لذلك، كان المتهم بالوشاية بخالد سعيد واقتياده إلى المقهى الذي ذهب إليه، تاجر مخدرات في منطقته يدعى محمد حشيش، ربطته علاقة جيدة بأميني الشرطة، وبرغم الحماية التي توفّرت له، غاب عن المنطقة لـ8 أشهر، ثم عاد ليدلي بشهادته في المحكمة بعد ثورة 25 يناير، ليبرئ المخبريْن ويحمّل خالد المسؤولية، على رغم أنه مات صارخاً، وقد تم حشر “لفافه بانغو” في فمه، حتى يبدو وكأنه حاول ابتلاعها كي لا تضبطه الشرطة.
امتدت صرخات خالد سعيد، التي سبقت غروبه الأخير، إلى جميع أرجاء مصر، وكانت نقطة تحوّل في حياة كثيرين أدركوا أن نهايتهم ربما تكون شبيهة بنهايته، لأن حياته كانت شبيهة إلى حد كبير بحياتهم ، فقد سُرق منه الأمل والمستقبل أولاً، ثم سُرقت حياته بالكامل.
لم يُعرف خالد سعيد، طول السنوات الماضية سوى كأسطورة مصرية تلازم صورها ذكرى ثورة “25 يناير”، إلى جانب هتاف “كلنا خالد سعيد”، لكن من يعرف “تغريبة خالد سعيد” الحقيقية؟ لماذا لا نقترب منه كإنسان ونتعرف إلى أحلامه وطموحاته ومآلات صراعه مع نفسه والمجتمع والسلطة؟ إنه “واحد مننا” حقاً.
سافر خالد إلى الولايات المتحدة حيث يعيش شقيقه وأمضى في نيويورك جزءاً من مراهقته، وأدرك أنه يعيش في مصر نصف حياة لا يريد أن يستمرَ بها، بخاصة أنه كان اسكندرياً، يعيش في العاصمة الثقافية لمصر، التي شهد الجميع تدهورها الشديد وتحولها “وجهة سياحية رخيصة” منذ منتصف عهد الرئيس المخلوع، حسني مبارك، وكان يتمنّى أن يعيش فيها لولا ذلك. ثم بدأت فكرة الهجرة على خطى شقيقه تتمكَّن منه تدريجياً، وبدأ الهروب من الواقع إلى الإنترنت، فكان ينشرُ خواطره وأفكاره على حسابه على الإنترنت، وكان مسؤولاً عن تحميل أحدث الأفلام والأغنيات وتوزيعها على أصدقائه، وتربطه علاقة افتراضية مع فتاتين تعيشان في الخارج، وهو النمط الذي كان شائعاً في ذلك الوقت، لأي شاب يريد أن يهاجر، فيقيم علاقة على الإنترنت، تتحوّل إلى حب افتراضي، ثم حب حقيقي، ينتهي بالزواج والهجرة.
وكان ذلك الغضب من مصر يترعرع في قلب خالد، منذ استدعائه لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، خوفه وقلقه وقلة احتماله من الحياة العسكرية “القاسية” في مصر، دفعته إلى التخلف عن الحضور من دون إذن رسمي، ثم عاد مجبراً إلى الجيش بوساطات من الأقارب، ليجد بانتظاره حكماً بالسجن “العسكري” لمدة 10 أشهر، والسجن العسكري في مصر شبح غامض قادر على الفتك بمن يمر بتجربته الصعبة، لما فيه من أوامر وإذلال متعمَّد، فهو ليس سجناً وحسب، بل سجن يخضع لإرث المكايدة والتعذيب والإهانة، الذي يتحكم بجميع ما يخص المنتسبين له… ليضع السجن العسكري فصلاً جديداً من فصول التغريبة.
أين شهادة وفاة خالد سعيد؟
تتلاقى خيوط قصة خالد سعيد وقصص معظم الشباب المصري، حتى تعرضه للاعتداء من مخبرين (أميني شرطة)، وهو ما دفع في عروقهم الغضب إلى مدى غير مُحتمل، فكانت ثورة 25 يناير. لكن ما حصل بعدها كان نسخة طبق الأصل، بل أكثر قليلاً مما كان في عهد مبارك، ففي عهد عبد الفتاح السيسي، هاجرت زهرة، شقيقة خالد وأمه، إلى الولايات المتحدة حتى وفاة الأخيرة، لعدم قدرتِها على التأقلم، فقد رأت الأسرة حق خالد يُهدر، وتم الاعتداء عليها في جلسات محاكمته، ومساومتها للتنازل، حتى إنها فشلت في استخراج شهادة وفاة “خالد” حتى بعد مرور سنوات على وفاته وزوال النظام الذي قتله، وذلك لعدم تدوين سبب الوفاة في أوراق رسمية، وعدم إثبات الاتهام على وزارة الداخلية في استمرار لحالة الإنكار المستمرة لجرائم الشرطة، التي كانت سبباً مباشراً لثورة 25 يناير. وتم لاحقاً تخوين الأسرة بإشاعة تلقيها أموال من الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، حين التقته زهرة في الولايات المتحدة تكريماً لشقيقها.
المطالبات الكثيرة بتقدير خالد سعيد بعد وفاته باعتباره رمزاً للثورة، حتى إطلاق اسمه على مدرسة أو شارع أو مسجد، تم تعطيلها ورفضها بمرور الوقت، وهو ما يجمّده مع الوقت، ويجعله شخصاً عابراً في التاريخ المصري الحديث، لن تذكره الأجيال الجديدة، لن تعرف أنه السبب في أهم حدث مصري خلال القرن الحالي، حتى إن صورته التي كانت أيقونة تزيّن ميادين عالمية شهيرة إلى جانب ميادين القاهرة والمدن الأخرى، وتشير إلى الغضب والتمرد والثورة المصرية… قوبلت بمحاولات التناسي والطمس.
(درج)