نور فليحان: ويندي بيرلمان: كيف تروي جامعة القصص حكايتها؟

0

في صيف العام 2018 كان لقائي الأول مع الباحثة والكاتبة في مجال العلوم السياسيّة ويندي بيرلمان. شربنا يومها عصير البرتقال في مقهى تركي وسط برلين، ورويت لها تفاصيل حكايتي. ومنذ أيّام عدت والتقيت بها مرة ثانية، هي في أميركا وأنا في برلين وبيننا شاشة أحاورها من خلفها وأحاول أن أعرف تفاصيل حكاية الكاتبة التي تمضي أيّامها في البحث عن القصص لتجمعها، ثمّ وبسخاء ترويها من جديد. كيف للمشهد أن يتغيّر حين تروي جامعة القصص حكايتها؟ وكيف سترويها؟

تجيدين التحدّث باللغة العربيّة، ترى ما الدافع لتعلّمك العربيّة؟ وكيف كانت ملامح رحلة تعلّمك لهذه اللغة؟

في السنة الجامعيّة الثالثة، أذكر وضعي خريطة العالم أمامي لأفكر في البلد الذي سأقصده من أجل دراسة هذه السنة الدراسيّة كغيري من الطلبة خارج الولايات المتحدة الأمريكيّة. كنت متحمّسة نظرًا لأنّها المرة الأولى التي سأرى فيها العالم الخارجي، ودفعني الفضول إلى زيارة القارة الأفريقيّة التي شعرت أنّها لم تكن يومًا ممثلة بطريقة كافية خلال مشواري الدراسي. بعد البحث وجدت برنامجًا دراسيًا في المغرب، ونظرًا لتعلّمي القليل من الإسبانيّة، فكّرت في أنّها طريقة اقتصاديّة في زيارة عدّة أماكن في هذه السنة، وبالتالي عيش تجارب مختلفة، حيث أسافر إلى إسبانيا عبر الطائرة ثم أبحر وصولًا إلى المغرب. وهذا ما حدث، درست في إٍسبانيا في خريف 1994 ومن ثم أبحرت إلى المغرب لأقضي ربيع 1995 هناك، وحينها فقط وقعت في الحب!

وصلت المغرب في رمضان، وعشت وسط عائلات مغربيّة، حيث بدأت في تعلّم اللغة العربيّة بقصد التواصل، وكانت البداية مع الحروف الأبجديّة. وفي تلك الفترة ظننت أنّني أقوم بمحادثات عميقة مع من حولي، لأدرك لاحقا أنّ معرفتي فعليًّا لا تتجاوز بعض الكلمات الأساسيّة مثل “كبير”، و”صغير”، وعبارة “أنا نباتيّة”، و”الملك سيّء جدًا!”. 

إن كانت اللهجة المغربيّة هي الأولى التي اطلعت عليها وأحببت، إلّا أنّ أُفق اهتمامي باللغة العربيّة استمر وتعمّق حتى بعد مغادرتي المغرب، وامتد ذلك ليشمل اهتمامي بالشرق ككلّ، وبناء عليه، زرت عدّة بلاد عربيّة بعدها مثل مصر، وفلسطين. وتابعت تعلّم اللغة العربيّة بشكل فعلي من خلال دورات اللغة حتى بعد عودتي إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة.

يمكن القول، إنّه وعلى صعيد اللغة أنا الآن في مرحلة مقاومة النسيان، كما لو أنّني على جهاز المشي وأسعى جاهدة كيلا أتعثّر. ركّزت الدروس على فهم البنية الهندسيّة للغة، كما تعلمت الأوزان والجذور وجذبني أنّها لغة غنية بحيث لا سقف للتفاصيل التي يمكن للمرء تعلمها. 

لننتقل إلى الكتابة، متى كانت اللحظة التي استشعرت فيها قدرتك على الكتابة؟ وهل يمكنك وصف ملامح تلك اللحظة؟ 

تجيب ويندي ضاحكة: لا زلت في انتظار تلك اللحظة، وستكونين أول العارفين حين أدركها! هي معركة مستمرة يعيشها كلّ من يكتب/تكتب، حيث يواجه/تواجه دومًا مجموعة من الأفكار والأسئلة من قبل: هل أكتب نصوصًا بالمستوى المكتوب؟ هل يكفي ما أكتب؟ من أنا لأفعل ما أفعل؟

أحبُّ صنعة الكتابة، وأحبُّ جمال اصطفاف المفردات ثمّ الجمل إلى جانب بعضها البعض. يمكنني أن أقول إنّ هذه الرغبة في الكتابة رافقتني منذ طفولتي، وفي مرحلة المدرسة حيث رغبت دومًا في كتابة القصص، ومن ثمّ المقالات، والأوراق البحثيّة في مرحلة الجامعة. لاحقًا صار الأمر مرتبطًا بدراستي للعلوم السياسيّة في الشرق الأوسط حيث كنت في موقع يمكنني من أن أشهد الحدث، ومن ثمّ نقله إلى المتلّقي الغربي-الأميركي، وبالتالي شعرت أنّ لديّ ما يمكن أن أقوله.

كنتُ في مصر حين حدثت الانتفاضة الثانيّة، وعندها تجسّد دافعي للكتابة بشكل جلي فبدأت بكتابة بعض مقالات الرأي للجرائد، وتشجّعت لأكتب في كلّ لحظة أدركت فيها كيف إنّ تغطية الإعلام الأميركي كانت دومًا في مصلحة إسرائيل، وبالتالي، عكس صورة مغايرة لمجريات الأحداث على أرض الواقع.

هذا القرب المكاني خلق فيّ رغبة ملحة للكتابة، فبدأتُ بإجراء مقابلات مع فلسطينيين/ات، حيث أردت معرفة شعورهم/هن نحو ما يحدث وما يعايشونه. في البداية لم تكن فكرة كتابة كتاب مكتملة في ذهني، لكن لاحقًا شكّلت تلك المقابلات مادة كتابي الأوّل. اتبعت صوتًا في داخلي يطالبني بتوثيق المشهد، ومنحتني تلك التجربة الثقة في صوتي ككاتبة، وجعلتني أحبُّ عملية الكتابة وفتحت لي بابًا للتفكير في الكثير من الأسئلة مثل ماذا أريد أن أقول؟ وكيف أود قوله؟ كيف يبنى الكتاب؟ كيف يبدأ وكيف ينتهي؟ كيف أتواصل مع القارئ؟ ثمّ كيف أشرك القارئ في الكتاب؟ وكلّ ذلك كان دافعي بالمجمل لأكتب المزيد! 

بهذا الإهداء “إلى هؤلاء الذين لم يعيشوا ليخبروا قصصهم” تفتتحين كتابك “عبرنا جسرًا وقد اهتزّ”. وهنا أفترض أنّك تجدين أن القصص تتمتع بقوة خاصة. لم القصص؟ أيّة قوّة تمتلكها القصص؟ وكيف تساعد في قضية مثل القضية الفلسطينيّة أو الثورة السوريّة؟

أحمل دكتوراة في العلوم السياسيّة التي أنجزتُ فيها الكثير من الكتابة، وهي حقيقة جافة ومملة وتتعلق بالنظريات والمتغيّرات والكثير من مبادئ العلوم السياسيّة، ووفق هذا النمط من الكتابة، هنالك توجه إلى صياغة الافتراضات ثم العمل على ربط وتحليل العلاقة ما بين المتغيّرات وتوضيح سبب الأشياء ونتيجتها ما شابه ولكن كلّ هذا لا يعكس -برأيي- السبب الذي يجعل من السياسة شأنًا مهمًّا. 

على سبيل المثال، لنفترض أنّ موضوعنا هو الحروب، غالبًا ما ستتجه العلوم السياسيّة إلى توضيح الأسباب الاقتصاديّة أو السياسيّة التي تقف وراء نشوب الحروب لكنّها حتمًا لن توضّح معنى أن يعيش الإنسان حربًا وكيف تؤثّر الحروب عاطفيًا مثلًا على حياة الناس. هنا تبرز أهمية القصص على اعتبارها قادرة على سد تلك الثغرة وقدرتها من جهة على توضيح أهمية السياسة في كونها تفتح المجال للناس للتعبير عن مطالبهم وتطلعاتهم لحياة إنسانيّة أفضل. أو من جهة ثانية، كيف تترك السياسة عالمنا مع الكثير من الفقد، وغياب العدالة وتقليص المساحات أمام الناس ليكونوا ما يحلمون بأن يكونوه. 

بنيّة القصص تسرد تفاصيل التجارب الإنسانيّة بشكل غير جاف، وبعيد كل البعد عن التقارير الصحافيّة. ومن مزايا القصص كذلك، مرونتها. بحيث يمكن النظر إليها من عدّة زوايا، وبالتالي نظرة شخص ذي خلفيّة أدبيّة إلى القصص كأداة قد يختلف عن نظرة مختص في العلوم الإنسانيّة، وهكذا.

حين نباشر في قراءة قصة ما، يكون الأمر أقرب إلى تلبية دعوة إلى أفكار ومشاعر شخوص القصة وتفاصيل حكاياتهم. وهذا بدوره يخلق مساحة للمساءلة الذاتيّة أوّلًا حيث يسأل المرء نفسه أحيانًا: ماذا لو كنتُ مكان هذا الشخص؟ ماذا كنتُ لأفعل؟ وفي مرحلة متقدّمة، قد تخلق القصص مساحة للتعاطف الذي آمل أن يشكّل بدوره دافعًا ليقوم القارئ/ة بسلوك ما استنادًا على ما قرأ/ت، وما شعر/ت.

حين بدأتُ قراءة كتاب “عبرنا جسرًا وقد اهتز”، ظننت أنّني أمام مجموعة من التجارب، أصحابها سوريون وسوريات يروون ما حصل معهم في فترات زمنيّة متفاوتة من عمر الثورة السوريّة. لكن بعد حين، تبيّن أنّ الأمر في جوهره يتمحور حول السياسة. كيف تعلّقين على دور القصة كأداة للمناصرة في القضايا السياسيّة؟ 

تضحك ويندي، وتقول: أشعر أنّك قد كشفتِ حيلتي! يشاركني الكثير من طلابي عجزهم عن فهم ملامح الصراع في سوريا، يبدون تعاطفهم لكنهم يشعرون أنّ الأمر أكثر تعقيدًا من أن يدركوه. رغبتي كانت كتابة كتاب يجيب عن أسئلة القارئ الغربي، ويزوّده بالشرح المناسب. رغم علمي بوجود الكثير من الكتب التي تسرد وقائع تاريخيّة وتبيّن مجرى الأحداث فتقول في عام كذا حدث هذا الحدث مثلًا. لكن فكرتي كانت كتابة كتاب بصوت السوريين/ات أنفسهم، أيّ الذين خاضوا الصراع. قد أستطيع الكتابة بطريقة جافة وتقريريّة عن أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في الحراك السوري، ولكن وقع الأمر يختلف حين يخبر أحدهم قصته ومشاعره حين وصلته رسالة عبر فيسبوك تدعوه إلى مظاهرة ما. وفق ذلك، يقوم الأشخاص هنا بمهمة مزدوجة، حيث يشرحون ما حدث ويحلّلونه عبر إحضار العنصر الإنساني إلى الحكاية. تعمّق فهمي للكثير من الأحداث بعد قيامي بالمقابلات، ورغبت بالتالي في إعادة تنظيم المعلومات لأقدّمها بدوري لشريحة أوسع من القرّاء. وحدها القصص ساعدتني في أداء مهمة الشرح، وخلق الاهتمام عند القارئ/ة بصيغة تخلق المساحة لأصحاب الحكاية لسرد تفاصيل تجاربهم التي تشكّل مرحلة من مراحل الصراع السوري، سواء تحدثوا عن اللجوء أو الاعتقال أو القصف أو غيرها من التجارب التي عايشوها. 

ما نفكّر به، وما نعيشه من تجارب، وما نختبر من مشاعر.. تسهم تلك الأشياء في تشكيلنا وجعلنا الشخص الذي نحن عليه في هذه اللحظة. أيّ أثر تركت فيك تلك القصص؟ 

أن تدخل عالم أحدهم هو شرف وليس حق! وبالتالي هو امتياز كبير أن سُمح لي بزيارة عوالم الكثير من السوريين/ات، وأن أستمع إلى تفاصيل تجاربهم/ن. وهو امتياز أذكّر نفسي دومًا بألا آخذه كمُسلَّمَة. “هي “أمانة” ومسؤوليتي كبيرة في أن أصونها وأحافظ عليها وأن أبذل قصارى جهدي لأحسن إيصال تلك القصص، وبالتالي لا تكف الأسئلة عن مطاردتي: هل يكفي ما قمت به؟ وبالواقع، لا يمكننا أبدًا بذل ما يكفي!

أتعلم من هذه التجربة بشكل مستمر، تعلّمت الحب والمقاومة وأدركتُ معنى الفقد والكثير من المشاعر الأخرى. لم تتركني أيّ مقابلة دون أن تمنحني الكثير من الأمل، حيث كان خلفها أشخاص بشكل أو بآخر عانوا من الفقد، سواءً كان فقدًا بسيطًا أو كبيرًا إلى حد لا تصفه الكلمات لكنهم يحاولون الاستمرار ويكفي قدرتهم على سرد قصصهم وهو ما أعده ضربًا من القوة وهذا شيء يمنحني الأمل ويُشكّل دافعًا حقيقيًا لا يغيب.

يعيش العالم في فترة وباء مسّنا جميعًا دون استثناء، وهنا يبرز سؤال الجدوى. قد تقول بعض الأصوات: ترى ما الجدوى من الكتابة في عالم يتهاوى ويزخر بالحروب والصراعات والأوبئة؟  

أنا أفهم تمامًا ما تقوله تلك الأصوات وأراني في لحظات كثيرة أطرح السؤال ذاته على نفسي: ما الجدوى؟ وماذا سيغير فعلي؟ 

وربما لا يقتصر الأمر على الكتّاب والكاتبات فقط، كلّنا على اختلاف مجالاتنا نطرح سؤال الجدوى على أنفسنا حيث أنّنا في عالم مشاكله كبيرة جدًا ومستمرة. خاصة قضايا العدالة والصحة مثلًا، وبالتالي يشعر الكثيرون أنّه مهما بُذل من جهد فهو غير كاف وبالتالي، ما الجدوى من المحاولة؟ 

بتخصيص الحديث عن الكتابة، فلربما للكتابة أثر يُدرك بعد حين. نحن حين نكتب مادة ما ونرسلها إلى النشر وبالتالي إلى عدد غير منته من المتلقّين، لا نعرف فعلًا من يقرأ/تقرأ ما كتبنا وكيف يتفاعل/تتفاعل معه أو يؤثّر/تؤثر عليه. لن نتمكن من أن ندرك حقيقة أثر ما كتبناه على سلوك أو إدراك أحدهم ما لم يتمكن/تتمكن قارئ/ة ما من الوصول إلينا ليخبرنا/تخبرنا بنفسه/ا عن ذلك.

في صفوف سياسات الشرق الأوسط أعرض فيلم “إلى سما“، وفي بعض الأحيان، بعد مرور سنة أو أكثر يتواصل معي بعض الطلاب ليقولوا لي مثلًا “ما زلنا نفكر في مضمون الفيلم (لقد جعلت أقاربي يشاهدونه) قد ترك الفيلم أثرًا خاصًا عليّ”. يشبه الأمر قفزة الإيمان حيث نرسل منتجنا الثقافي إلى العالم وربما رجع صداه لنا بعد حين ليخبرنا أيّ أثر قد ترك. هو فعل أقرب إلى الإيمان بأنّ هذا السلوك ورفعنا لصوتنا بصدد الكثير من القضايا لم يذهب سدى. قد لا تغيّر محاولاتنا شكل العالم ربما، أو تنهي الصراعات كليًّا، لكن علينا أل]ا نقلّل من أثر الجهود التي تُبذل في سبيل الكثير من القضايا والأصوات التي لا تمل من المحاولة، لأنّه، وربما، كان لها أثرًا أكبر مما نظن.

ما نكتبه له حياة خاصة في العالم، بعد نشر إحدى مقالاتي عن فلسطين بسنوات التقيت بسيدة تخبرني أنّها قامت بقص ذلك النص من الصحيفة واحتفظت به في محفظتها لتعرضه على الكثيرين/ات بغرض قراءته. صُدمتُ بأنّ ذلك قد حدث فعلًا. كلّ خطوة صغيرة تُحسب وتساعد، كلّ نص أو فيلم أو صورة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ترى ما البديل؟ هل نتوقف عن الكتابة؟ ماذا سيحدث لو توقفنا فعلا عن فعل ما نفعله؟ عدم الكتابة برأيي ليس خيارًا. حين نكتب نُبقي الحكاية على قيد الحياة. 

عطفًا على الإجابة السابقة، أفهم أنّك بصدّد كتابة أو نشر كتاب جديد؟

أعمل على كتاب يُعد تتمة لكتابي “عبرنا جسرًا وقد اهتز” الذي صدر في العام 2017، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن أتابع مسار تجارب الكثير من السوريين/ات وأقرأ ما ينشرون في مدوناتهم أو على صفحات الفيسبوك، وقد لاحظت أنّ الكثير من الأسئلة تتمحور حول مفهوم الوطن والانتماء والهويّة. لذا أجمع حكايات تجيب عن هذا السؤال: ترى ما هو الوطن؟ وأحاول خلال المقابلة أنّ أطرح الكثير من الأسئلة التي تقرّبني إلى الإجابة وإلى معنى مفردة “هوم” في العربية، فاسأل عن معنى الوطن والانتماء والشعور في البيت وغيرها.

هي حكايات عن أشخاص فقدوا أو كسبوا وطنًا، عن أشخاص يبحثون أو لا يبحثون عن وطن حيث يعني الوطن الكثير من الأشياء لمختلف الأشخاص، فهو مكان العائلة، أو الشعور بالأمان، أو ارتباط بمكان محدد أو مجرّد فكرة.

(حكاية ما انحكت)