“قوة اللاعنف” لجوديث بتلر: صفحات من مدخل الكتاب (ترجمة)

0

ترجمة نور حريري

تواجه قضية اللاعنف ردودًا تشكُّكية من مختلف الأطياف السياسية. فهناك اليساريون الذي يدّعون أن العنف وحده لديه القدرة على إحداث تحولّ اجتماعي واقتصادي جذري، وآخرون يدّعون، بصورة أكثر تواضعًا، أن العنف يجب أن يبقى أحد التكتيكات المتاحة لنا لإحداث مثل هذا التغيير. يمكن للمرء أن يحاجِج دفاعًا عن اللاعنف أو عن، بدلًا من ذلك، الاستخدام الذرائعي والاستراتيجي للعنف، غير أن هذه الحجج لا تُطرَح علنًا إلا في حال وجود اتفاق عام حول ماهية العنف واللاعنف. إن أحد التحدّيات الأساسية التي يواجهها أولئك الذين يؤيّدون اللاعنف هو أن “العنف” و “اللاعنف” مصطلحان خلافيّان. على سبيل المثال، في حين يُسمّي بعض الأشخاص الأفعال الكلامية الجارحة “عنفًا”، يقول أشخاص آخرون بعدم صحّة تسمية اللغة بالعنيفة، إلا في حال التهديدات الصريحة. ومع ذلك، يتمسّك آخرون بوجهات نظر متشدِّدة حول العنف، فاهمين أن “الضرب” هو اللحظة الفيزيائية التي تُميِّز العنف؛ ويصرّ بعض آخر على أن البنى الاقتصادية والقانونية “عنيفة”، وأنها تشتغل على الأجساد، وإنْ لم تتخذ دائمًا شكل عنف فيزيائي. والحقّ، إن شكل “الضربة” قد نظَّم ضمنيًا بعض النقاشات الرئيسة حول العنف، دالًا على أن العنف هو شيء يحدث بين طرفين في مواجهة ساخنة.

ومن دون أن نختلف على عنف الضرب الفيزيائي، يمكننا مع ذلك الإصرار على أن البنى والأنظمة الاجتماعية، التي تتضمّن العنصرية الجهازية، عنيفة. في الواقع، أحيانًا تكون الضربة الفيزيائية على الرأس أو الجسد تعبيرًا عن العنف الجهازي، وعند هذه النقطة يجب أن يكون المرء قادرًا على فهم العلاقة بين الفعل والبنية أو الجهاز. إن إحدى الحُجج الأقوى التي يدافع من خلالها اليسار عن استخدام العنف هي أنه ضروري من الناحية التكتيكية من أجل التغلب على العنف البنيوي والجهازي، أو من أجل تفكيك نظام عنيف مثل نظام الفصل العنصري أو النظام الديكتاتوري أو الشمولي. قد يكون ذلك صحيحًا، وأنا لا أعترض على ذلك. لكن حتى تنجح هذه الحجة، سنحتاج إلى معرفة ما يميّز عنف نظام الحكم عن العنف الذي يسعى لإسقاطه. هل يمكننا دائمًا أن نميّز بينهما؟ هل يُعَدُّ ضروريًا أحيانًا تحمُّل حقيقة أن التمييز بين هذا العنف وذاك قابل للانهيار؟ لفهم العنف البنيوي أو الجهازي، ينبغي للمرء أن يتجاوز الأوصاف الوضعية التي تحدّ من فهمنا لكيفية عمل العنف. وينبغي للمرء أيضًا أن يجد أطرًا أكثر استيعابًا من تلك التي تعتمد على وجود طرفين، أحدهما يَضرِب والآخر يُضرَب.

بالتأكيد، أي تفسير للعنف لا يشرح الضرب أو الصدم أو فعل العنف الجنسي (بما في ذلك الاغتصاب) أو يخفق في فهم الطريقة التي من خلالها يمكن أن يعتَمِل العنف في علاقة حميمية بين اثنين أو في المواجهة بين شخصين، يُخفق وصفيًا وتحليليًا في إيضاح ماهية العنف _أي ما نتحدث عنه حين نتناقش حول العنف واللاعنف.

يجب أن يكون سهلًا، على ما يبدو، الاعتراض على العنف والسماح لتصريح كهذا بتلخيص موقف المرء من المسألة، إلا أننا في النقاشات العامة نجد أن “العنف” متقلّب، وأن دلالاته اللفظية مستحوَذ عليها بطريقة تستلزم الطعن فيها. أحيانًا تُسمّي الدول والمؤسسات التعبيرات عن المعارضة السياسية، أو معارضة الدولة، أو السلطة، أو المؤسسة المنظور فيها بـ “العنيفة”. إن المظاهرات، المعسكرات، التجمّعات، المقاطعات، والإضرابات كلّها عرضة لأن تُسمّى “عنيفة” حتى حين لا تلجأ إلى القتال الجسدي أو إلى أشكال العنف البنيوي والنظامي التي ذُكرت أعلاه.2 حين تفعل الدول أو المؤسسات ذلك، فإنها تسعى إلى إعادة تسمية الممارسات غير العنيفة بالعنيفة، وإلى شنّ حرب سياسية، إن صحّ التعبير، في مستوى الدلالات اللفظية العامة. إن سُمّيت مظاهرة تدعم حرية التعبير، أي مظاهرة تمارس تلك الحرية بالذات، بالـ “عنيفة”، فلا يرجع ذلك إلا إلى أن السلطة التي تسيء استخدام اللغة بهذه الطريقة تهدف إلى ضمان احتكارها للعنف من خلال التشهير بالمعارضة، وتبرير توظيف الشرطة أو الجيش أو قوات الأمن للتصدي لمَنْ يسعون إلى ممارسة الحرية والدفاع عنها بهذه الطريقة. حاجج الباحث في الدراسات الأمريكية، شاندان ريدي (Chandan Reddy)، بأن الشكل الذي اتخذته الحداثة الليبرالية في الولايات المتحدة يفترض أن الدولة هي ضمان الحرية من العنف الذي يعتمد اعتمادًا أساسيًا على إطلاق العنف ضد الأقليات العِرقية، وضد جميع الشعوب التي توصَف بأنها غير عقلانية وخارجة عن المعيار القومي.3 إن الدولة، في رأيه، قد تأسَّست على العنف العِرْقي وهي تستمر في إلحاقه بالأقليات بطرائق نظامية. وعليه، يُفهم العنف العِرقي بأنه يعمل في خدمة دفاع الدولة عن نفسها. كم من مرة، في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، عُدَّ أشخاص من ذوي البشرة السوداء أو السمراء “عنيفين” أو وُصِّفوا بالـ “عنيفين” من جانب الشرطة التي كانت تعتقلهم وتطلق عليهم الرصاص، حتى حين يكونون غير مسلحين، حتى حين يمشون أو يهربون، أو حين يحاولون تقديم شكوى بأنفسهم، أو يستغرقون في نوم عميق؟4 المُفزِع والغريب في الأمر هو رؤية الطريقة التي يعمل من خلالها الدفاع عن العنف في ظلّ هذه الظروف، فيجب تصوير الهدف على أنه يشكِّل تهديدًا أو أداة عنف حقيقية أو فعلية، حتى يظهر عمل الشرطة كدفاع عن النفس. وفي حال لم يرتكب الشخص فِعلًا عنيفًا بشكل واضح، يُصوَّر الشخص حينئذ على أنه عنيف، على أنه يمثّل النوع العنيف من الأشخاص، أو على أنه عنفٌ خالِصٌ متجسِّدٌ في ذلك الشخص ومن خلاله. يتجلّى الادعاء الأخير في العنصرية في أغلب الأحيان.

ما يبدأ، إذًا، كحجاج أخلاقي حول إمكانية الدفاع عن العنف أو التصدّي له يتحوّل بسرعة إلى نقاش حول كيفية تعريف “العنف” وهوية الشخص الذي يُسمّى “عنيفًا” والغَرَض من تسميته على هذا النحو. حين تجتمع مجموعة من الأشخاص للاعتراض على الرقابة أو على الافتقار إلى الحريات الديمقراطية، وتُسمّى المجموعة بـ “الغوغائية”، أو تُفهَم بأنها تُهدِّد بإثارة الفوضى وتدمير النظام الاجتماعي، حينئذ تُوصف المجموعة بالعنيفة وتُصوَّر على أنها عنيفة بشكل محتمل أو فعلي، وعند هذه النقطة تستطيع الدولة أن تصدر تشريعًا للدفاع عن المجتمع ضد هذا التهديد العنيف. وحين تكون نتيجة ذلك هي السجن أو الإصابة أو القتل، يظهر العنف في المشهد بوصفه عنف دولة. تمكننا تسمية عنف الدولة بالـ “عنيف” على الرغم من أن الدولة كانت قد استخدمت سلطتها لتسمّي وتصف السلطة المعارِضة لها، التي تنتمي إلى مجموعة معينة من الأشخاص، بـ “العنيفة”. وبالمثل، إن مظاهرة سلميّة كتلك التي انطلقت في حديقة جيزي في إسطنبول عام 2013، أو عريضة تدعو إلى السلام كتلك التي وَقّع عليها عددٌ من الباحثين الأتراك عام 2016، لا يمكن أن تُصوَّر وأن تُمثَّل بوصفها عملًا “عنيفًا” بشكل فعليّ إلا إذا امتلكت الدولة وسائل إعلام خاصة بها أو سيطرت بشكل كاف على وسائل الإعلام. في ظلّ ظروف كهذه، تُسمّى ممارسة الحق في التجمّع مظهرًا من مظاهر “الإرهاب”، ما يستدعي بدوره رقابة الدولة، ضرب المتجمّعين بالعصي ورشّهم من جانب الشرطة، فصلهم من عملهم، احتجازهم لأجل غير مسمى، سجنهم، ونفيهم. 

وبقدر ما ستصبح الأمور سهلة حين يُحدَّد العنف تحديدًا واضحًا ومُتَّفقًا عليه، يثبت أنه يستحيل فعل ذلك في وضع سياسي تصبح فيه السلطة التي تُسنِد العنف إلى المعارضة هي نفسها أداة تعزِّز سلطة الدولة، أو تطعن في غايات المعارضة، أو حتى تُبرِّر تجريد المعارضين من حقوقهم بصورة جذرية وسجنهم وقتلهم. في لحظات كهذه، تجب معارضة هذا الإسناد على أساس عدم صحّته وإجحافه. لكن كيف يمكن تنفيذ ذلك في مجال عام غُرس فيه خلطٌ دلاليٌّ بين ما يُعَدُّ عنيفًا وما يُعَدُّ غير عنيف؟ هل لم يعد لدينا من الآراء سوى تلك المحيّرة حول العنف واللاعنف وأُجبرنا على الاعتراف بنسبوية معمَّمة؟ أو هل في إمكاننا أن نؤسِّس طريقة للتمييز بين الإسناد التكتيكي للعنف الذي يحرِف اتجاهه ويعكسه، وتلك الأشكال من العنف التي كثيرًا ما تكون بنيوية ونظامية وغالبًا ما تتملص من التسمية والإدراك المباشرَين؟

إن أراد المرء أن يحاجج لمصلحة اللاعنف، فسيكون ضروريًا فهم وتقييم الطرائق التي يُصوَّر بها العنف ويُسنَد في مجال السلطة الخطابية والاجتماعية وسلطة الدولة؛ والانقلابات التي تؤدَّى من الناحية التكتيكية؛ والطابع التهوُّمي للإسناد نفسه. علاوة على ذلك، سيتعيّن علينا أن نضطلع بنقد المخططات التي من خلالها يبرِّر عنف الدولة نفسه، ونقد علاقة تلك المخططات التبريرية بالجهود التي تُبذَل للحفاظ على احتكار للعنف. يعتمد هذا الاحتكار على ممارسة التسمية، وهي الممارسة التي غالبًا ما تُظهِر العنف بوصفه إكراهًا قانونيًا، أو تُخرِّج عنفها الخاص نحو هدفها، مُعيدةً اكتشافه بوصفه عنف الآخر.

إن الحجاج المدافع عن العنف أو الحجاج المتصدّي له يتطلب تأسيسًا للفارق بين العنف واللاعنف، إن كان ذلك في مقدورنا. لكن ليست هناك طريقة سريعة للوصول إلى تمييز دلالي ثابت بين الاثنين حين يُستغل هذا التمييز في أحيان كثيرة بهدف حجب الغايات والممارسات العنيفة وتوسيع نطاقها. بكلمات أخرى، لا يمكننا أن نندفع إلى الظاهرة نفسها من دون المرور عبر المخططات المفاهيمية التي تُنظِّم استخدام المصطلح في اتجاهات مختلفة، ومن دون تحليل كيفية عمل هذه التنظيمات. إن كان المتّهمون بارتكاب العنف، الذين لم يشاركوا في أي فعل عنيف، يسعون إلى الطعن في وضع الاتهام بوصفه غير مبرَّر، فسيتعيّن عليهم إثبات كيفية استخدام ادعاء العنف _لا “ما يقوله” فحسب، بل “ما يفعله بما يقال”. ما الإبستيمة [النظام المعرفي] التي من خلالها يكتسب الادعاء المصداقية؟ بكلمات أخرى، لماذا يُصدَّق الادعاء أحيانًا، والأهم من ذلك، ما الذي يمكن فعله لكشف الخاصية المؤثِّرة لفعل الكلام _تأثير معقوليته_ والتغلّب عليها؟ 

تدشينًا لهذا المسار، يجب علينا أن نقبل بحقيقة استخدام “العنف” و “اللاعنف” بشكل متنوّع ومشوَّه من دون أن ننزلق في شكل من أشكال العدمية المشحونة بالاعتقاد بأن ما يجب أن يكون عليه العنف واللاعنف يُحدَّد بواسطة أولئك المتربِّعين على عرش السلطة. إن جزءًا من مهمّة هذا الكتاب يتمثّل في القبول بصعوبة إيجاد تعريف للعنف وصعوبة تثبيته حيث يخضع العنف لتعريفات ذرائعية تخدم المصالح السياسية وتخدم في بعض الأحيان عنف الدولة. في رأيي، لا تنطوي هذه الصعوبة على نسبوية فوضوية من شأنها تقويض مهمة التفكير النقدي من أجل الكشف عن الاستخدام الذرائعي لهذا التمييز الخاطئ والضار. يصل كلّ من العنف واللاعنف إلى مجال النقاش الأخلاقي والتحليل السياسي مفسَّرًا وموظَّفًا بالفعل بواسطة استخدامات سابقة. يستحيل تجنّب المطالبة بتفسير العنف واللاعنف، وتقييم التمييز بينهما، إن كنّا نأمل في معارضة عنف الدولة والتفكير عن كثب في مبرِّرات التكتيكات العنيفة اليسارية. 

*مجلة رمان