بعض الماضي لا يمضي ما دام النسيان شحيحاً، لا يُشرع له باب للمرور. وما دامت الذكرى حاضرة يمكنها -بنصلها- أن تذبح من جديد. والمذبوحة في رواية “عالم 9” (دار الآداب – بيروت) للكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي؛ واحدة من نساء شردتهن الحرب الأهلية، والصراع على السلطة. أولئك اللاتي قتلن مرة بعد مرة، بلا ذنب ولا جريرة سوى أنهن اقترفن الحياة. شارك الكاتب أدباء عصر ما بعد الحداثة، في تمردهم وانقلابهم على التراث الأدبي القديم، الذي كان يمجد الحروب، ويبرز بطولاتها، كما في ملحمة الإلياذة والأوديسا لهوميروس، وكما في القصائد القديمة، التي كانت توثق الصراع بين القبائل وبعضها بعضاً.
وحذا جبعيتي حذو الكثير من الكتاب العالميين، أمثال جورج أورويل، وكاميلو خوسيه ثيلا، وأرنست همنغواي، وغيرهم من الذين عمدوا إلى إبراز الجانب المظلم من الحروب، وعبثيتها، وما تخلفه من ضحايا. لم يكونوا طرفاً قط في صراع على السلطة، بينما سددوا وحدهم كلفة ذلك الصراع.
تبدأ الأحداث بلقاء يجمع بين “9” الشخصية المحورية في النص، وفتاة أخرى “6”. ليكون لقاؤهما الجسر الذي يعبره الكاتب، إلى عوالم النفس الإنسانية، من أجل سبر أغوارها، مبرزاً تحدياً كبيراً، باقتحامه عوالم المرأة، ونجاحه في الكشف عن مكنوناتها، وما يعتمل في دواخلها.
خلل الهوية الجنسية
مرر جبعيتي في مستهل الأحداث إشكالية حول خلل الهوية الجنسية لشخصيته المحورية “9”؛ تمهيداً لرحلة عكسية “فلاش باك”؛ من البحث في الجذور، والتفتيش عن الحقيقة، واقتفاء الأثر. انتهج عبرها أسلوب السرد الذاتي، مانحاً للفتاة “9” صوت السرد، لتستعيد عبر تقنية الاسترجاع تاريخ المأساة، التي خلفتها الحرب الأهلية، والتي تجرعت الأم “3” مرارتها. فالأم القروية البسيطة استيقظت ذات يوم على جنود يقتحمون قريتها، عقاباً لأهلها الذين جعلوا من بيوتهم ملاذاً، لبعض الخارجين على النظام. وكان ذلك سبباً كافياً لانتقام الجيش من أهل القرية، بقطع الرؤوس، واغتصاب النساء، وقتلهن، والتمثيل بهن. لم تلقَ “3” مصير أغلب الكثير من نساء قريتها، اللاتي قتلن بعد اغتصابهن، وإنما تركها الجندي الجاني على قيد الحياة. وترك في رحمها ثمرة، هي “9” التي ورثت عن أمها المصير نفسه من الاغتصاب والخوف والاغتراب.
اختار الكاتب لنسائه أرقاماً كألقاب لهن، دلالة على ما تتعرض له المرأة من تهميش وامتهان، ما جعلها لا تعدو سوى رقم بقائمة طويلة من الضحايا والمقهورين، في عالم تسيره قوانين الغاب.
لم يحدد الكاتب فضاءً زمنياً للأحداث، بل سمح لزمن روايته بالاتساع عبر تجهيله، ليشمل حقباً بعيدة، وممتدة من تاريخ البشرية، الموسوم بالتناحر والصراعات. ولم يحدد أيضاً فضاءً مكانياً، واكتفى بالإشارة إلى المكان عبر استخدامه تسمية “الجنوب”، و”بلاد الشمال”. فكانت الأولى بؤرة الصراع والحرب الأهلية والتفجيرات والاغتصاب، وكانت الثانية الملاذ الذي يفر إليه الراغبون في النجاة، فلا يجدون سوى التمييز العنصري والاضطهاد والنبذ.
تحولات نفسية
اعتنى الكاتب برصد السمات والتحولات النفسية، التي طرأت على شخوصه بعد تعرضها للانتهاك. وأضفى عليها الصدقية والواقعية؛ عبر ما أبرزه من هشاشتها واعتلالها. فالأم التي انتهكها الجندي بوحشية تعاني متلازمة صدمة ما بعد الاغتصاب، التي تتجلى في اضطراب سلوكها الجسدي والنفسي والعاطفي والمعرفي. فتميل إلى العزلة والارتباك، الرهاب والخوف من العالم، تقلب المزاج وانقسام مشاعرها بين حب طفلتها وكراهيتها. تصبح طيعة للامتلاك وفريسة للسيطرة والاستغلال. تعاني الهوس في غسل وتنظيف جسدها وتدمن الشعور بالذنب. كذلك الابنة التي انتهكها زوج أمها، تعاني الهوس نفسه. تميل إلى العزلة، تختل هويتها الجنسية، تدخل في نوبات اكتئاب يتبعها ضرر عقلي. وتدمن الشعور بالذنب، الذي يعززه الجاني، بانتهاجه ثقافة سائدة؛ تعمد إلى لوم الضحية واعتبارها المسؤولة عما ارتكب بحقها. وفي المقابل أبرز الكاتب خلفية الزوج “ألف”، الذي اغتصب ابنة زوجته، مفسراً جرمه وعطبه النفسي؛ بما تعرض له من تعذيب داخل سجون الجنوب.
أجاد جبعيتي استخدام اللغة، وأتقن توظيفها، في تصوير العوالم الداخلية للشخوص. فاستطاع عبرها سكب مشاعر بطلاته، وهواجسهن، ورهابهن، ومرارتهن، واحتراقهن، وجعل معاناتهن في مرمى الحواس. وباللغة البصرية ذاتها، برع في وصف حالة الوقوف على حافة الموت المروع، وأهوال رحلة اللجوء من بلاد الجنوب إلى بلاد الشمال. وكان كل ما ساقه من مرارة وبؤس شخوصه، مقدمةً لتمرير تساؤلات فلسفية جدلية عن الحرية والقدرية والمصير… “أنكر حديثها، أغلق أذنيه عن سماع أسئلتها، من المخيف البوح بأننا لسنا أحراراً، مجرد بائسين في نص لا نحبه، ولا يد لنا في صنعه” ص 106. وعزز هذه الفلسفة باستخدام عبارات تؤكد سلطة القدر وانتفاء الإرادة، والاختيار؛ “والسلحفاة لا تتوقف عن قول (اخترناك، عليك أن تكوني أكثر جرأة، الحياة لم تخلق للجبناء) من الذي اختارها؟” ص 159.
منطقة الفانتازيا
حاك الكاتب نسيجه بخيوط من الفانتازيا، فخلق حواراً بين شخصيته المحورية وسلحفاتها، التي تنبأت بجرم زوج الأم. وحذرت الابنة منه. وكانت الصديقة الوحيدة لها، فبددت وحشتها وعزلتها. ثم تبادل الاثنان صفاتهما البشرية والحيوانية. تماهى كلاهما حتى ذابت الخيوط الفاصلة بينهما. وبات من الصعب تحديد أي منهما الإنسان، وأيهما الحيوان. وما إذا كان كل منهما هو أصله، أم أن كليهما حل بجسد الآخر. لكن الكاتب في الوقت نفسه أتاح للقارئ دوراً في تلقي هذه اللمحات الفانتازية؛ إما على علتها، كمكون من مكونات البناء، وإما كأعراض لما بعد الصدمة، التي تتجلى عادة في اضطراب سلوكي ومعرفي، تعانيه ضحية الاغتصاب؛ يظهر في صورة هلاوس وأوهام وتخيلات لا تمت إلى الواقع بصلة، لا سيما أنه أودع “9” مصحة نفسية. وبذلك أشرك جبعيتي قارئه في لعبة السرد، تاركاً له قرار تفسير وتلقي الخيال في النص. في حين عمد إلى تعزيز الإيهام بالحدوث، عبر تكثيف استخدام تقنية الحوار، في مواضع الفانتازيا، وبعض المواضع الأخرى من النسيج.
إخلاصاً في تعرية دواخل النفس؛ عمد الكاتب إلى توظيف دلالات الألوان والرموز في نسيجه السردي. فاستخدم الأحمر كدلالة على العنف والمأساة، والأزرق للإشارة إلى العزلة والحزن، والأصفر لإبراز القلق، والبنفسجي للغموض. واستخدم الرسم أيضاً، للكشف عما يعتري الشخوص من توتر وعزلة، وانعدام الشعور بالأمان. وقد جاء توظيف الرموز والألوان منسجماً مع الطابع النفسي للسرد. كما كان توظيف الرسم كأداة علاجية للنفس المعطوبة مستلهماً من أحدث نظريات وأدوات العلاج النفسي، ما عزز من واقعية وصدقية السرد.
الحلم واستكناه النفس
عمد الكاتب إلى الاستباق بالإشارة إلى الحادثة، وآثارها على شخصيته المحورية في مستهل رحلته السردية، من دون الإفصاح عن طبيعة تلك الحادثة، فعزز بذلك عنصر التشويق، ليحكم قبضته على القارئ ويدفعه إلى تتبع السرد. واستخدم التناص مع بعض التراث الشعبي. وأبرز في الوقت نفسه آفات الموروث، التي حصلت المرأة على النصيب الأكبر منها، فجنت عنفاً وقتلاً؛ تعددت دوافعه، لا سيما في جرائم الشرف. ومرر رؤى مفادها ألا سلطة للمرأة على جسدها؛ ليس في الجنوب وحسب وإنما أيضاً في بلاد الشمال، إذ كان يجري تعقيم بعض النساء قسرياً لمنعهن من الإنجاب.
أبرز جبعيتي صورة الأنا في عيون الآخر، وكيف ترى بلاد الشمال نظيرتها في الجنوب؛ نموذجاً للعنف والتخلف والبدائية (أرض الطوطم)، على الرغم من سواد العنف والقتل، وتبادل النزوح واللجوء بين الشمال والجنوب على مدى التاريخ.
اتسق حضور الحلم وبروزه كإحدى التقنيات التي اعتمدها الكاتب، مع النزوع النفسي للسرد، ورغبة الكاتب في استكناه النفس، وتجسيد أثر ما تتعرض له المرأة من توحش. وجاء كذلك مكملاً للوحة السردية، التي تنوعت مكوناتها بين واقع وخيال، على اعتبار أنه “الحلم” المنطقة التي تتوسط الحقيقة والفانتازيا. ولم يكن الحلم وحده سبيل الكاتب لاستجلاء الأسرار، والكشف عن العوالم الداخلية للشخوص، فالمونولوج أيضاً لعب الدور نفسه، كما كان صوت السرد الذي منحه جبعيتي لشخصيته المحورية منذ اللحظة الأولى في رحلته؛ وسيلة ناجزة استطاع من خلالها الكشف عن الخبايا، وولوج المناطق المستعرة من الصراع الداخلي، في نفس مأزومة لا تكف الحياة عن تكرارها.
*اندبندنت