مهرجان البندقية ليس غريبا على المخرجة السورية سؤدد كعدان، فبعد أربعة أعوام من فوز فيلمها الأول «يوم أضعت ظلي» بجائزة أسد المستقبل، عادت كعدان إلى المهرجان بفيلمها «نزوح»، الذي عُرض في قسم «أوريزوني بلاس». كما هو الحال في «يوم أضعت ظلي» نجد سوريا والحرب التي تستعر على أرضها حاضرة بشدة في «نزوح»، لكن الاختلاف في التناول واضح، فالتركيز الرئيسي في «نزوح» هو المرأة وسعيها للتحرر من سطوة الرجل وتسلطه وسط الحرب وما تسببت فيه من دمار.
يبدأ الفيلم برجل ورب أسرة يُدعى معتز (سامر المصري) يحاول إصلاح مولد كهرباء داخل بيته، علّه يتمكن من تشغيله للحصول على تيار كهربائي لمنزله الذي انقطعت عنه الكهرباء، لكن ابنته الصبية (هالة زين) تخبره إنه حتى لو أصلحه، فمن أين سيأتي بالمازوت لتشغيله. يبدأ الفيلم إذن برؤيتين للأمور، رؤية الأب الذي يود البقاء، رغم الظلام، والابنة التي تحاول أن توضح لأبيها أنه واهم لظنه أن بإمكانه إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
الأسرة التي يُدخلنا الفيلم إلى منزلها مكونة من الأب والأم (كندة علوش) وابنتهما الصبية هي إحدى أسرتين بقيتا في المنطقة، بعد نزوح كل سكانها جراء القصف. يرفض الأب الرحيل، لأنه يأبى على نفسه وعلى أسرته أن يكون نازحا. هو رجل يعتد ببيته ومكانه، ولا يود أن يكون نازحا بلا مأوى. نعلم من السياق لاحقا أن للأسرة بنات أخريات تزوجن ونزحن مع أزواجهن إلى مناطق أكثر أمنا في سوريا، أو خارج البلاد، لكن الأب تأبى كرامته أن يضيع في المدن تاركا منزله الذي يفاخر أنه من أجمل منازل الحي. يبدو لنا الأب كما لو كان يعيش في واقع موازٍ، فهو يرى الدمار والخراب المحيط بمنزله ويرفض قبول أن عليه المغادرة. نجده ينقب في مطابخ المنازل المهجورة، ربما يجد ما قد يجعل الحياة شبيهة بالحياة العادية التي كان يعرفها في السابق. نحن إلى هذا الحد نتفهم رغبته في البقاء، فهي رغبة إنسان لا يريد أن يُقتلع من جذوره ويأبى على نفسه أن تتقاذفه الأراضي والمدن. ولكن على حين غرة يأتي ما لم يكن في حسبان الأب، فقد كان يسعى جاهدا لأن يعوض شح الطعام والماء والكهرباء في منزل جدرانه قائمة، ولكن برميلا متفجرا يسقط على المنزل فيحدث فجوة كبيرة في سقفه ويقوض جدرانه. يبقى الأب على حاله، يحاول تغطية الفجوات التي خلفها البرميل بالشراشف وأغطية الأسرة، بينا تبدأ الأم في الإعراب عن رأيها في أن على الأسرة الرحيل. كانت الأم والأبنة دوما مطيعتين لأوامر الأب ممتثلتين له، لكن سقوط هذا البرميل المتفجر كان بمثابة نهاية لصمت نساء الأسرة. أصبحت الأم ترى أن في بقائها في هذا البيت المهدم خطرا عليها وعلى ابنتها، وأصبحت ترى أن عليها الرحيل، حتى إن كان زوجها لا يريد ذلك.
ينتقل الأمر في الفيلم إذن من تناول ما حل بالوطن وبالدمار الذي يشهده إلى صراع جندري بين رجل متسلط ذكوري، على الرغم من طيبته البادية، وأم تحاول التخلص من هذا التسلط وابنة تحلم بالحب والحرية. يصبح ما يحدث على أرض سوريا خلفية لصراع آخر هو صراع المرأة للتحرر من قبضة الرجل الخانقة. لكن كعدان لم تمهد لنا بما يكفي لهذا التغيير المباغت في تناول الفيلم للأمور، فبدت مسألة الجندر والتسلط الذكوري مقحمة غير مقنعة.
يرى الأب في الفجوة التي أحدثها البرميل صدعا عليه ترميمه وإصلاحه، أما ابنته فتجد فيه سبيلا لرؤية النجوم ليلا، وللحلم بما هو أجمل، وطريقا للقاء ابن الجيران الوسيم الذي يقاربها سنا. الأب مشدود للماضي ويرفض مغادرته، بل يحاول تزويج ابنته الصغيرة من رجل يكبرها بأعوام كثيرة ليحميها من الحرب، والابنة تحلم بالمستقبل والحب. نشاهد الفيلم دون حماس كبير لغضب الأم التي تريد الرحيل والتحرر من براثن الأب، لأن الأب لم يبد لنا قاسيا أو ظالما. كان من الأولى لو ركزت كعدان اهتمامها على الخراب الذي أحدثته الحرب بدلا من محاولة إقحام قضية الجندر وحقوق المرأة إقحاما غير مبرر.
تحمل الأم بعد مغادرتها بيت زوجها مع ابنتها وقرارها للنزوح كيسا أسود يحوي أغراضا تعز عليها، من بينها حذاء أحمر بكعب عال، تتخلى الأم عن هذه الأشياء التي تعوق مسيرتها الواحد تلو الآخر. صورة التخفف من ثقل الماضي تلك نراها صورة مكررة، لاسيما أن الأم هي التي اختارت حمل هذه الأغراض بعينها، ولم تجبر على حملها. يبدو لنا في نهاية المطاف أن كعدان التجأت إلى العديد من الصور والاستعارات التي بدت مقحمة وغير مبررة فأفقدت الفيلم قدرا كبيرا من مصداقيته وزخمه.
*القدس العربي