نسرين سيد أحمد: «حيز الاهتمام» لجوناثان غليزر: أن تبني جنتك على أجساد الآخرين

0

في مشهد في نحو منتصف فيلم «حيز الاهتمام» للمخرج البريطاني جوناثان غليزر، المشارك في مهرجان كان في دورته السادسة والسبعين 16 إلى 27 مايو/أيار الجاري)، نرى طفلا مستلقيا على فراشه في غرفة أطفال ذات ألوان زاهية. يلهو الطفل قليلا بلعبه قبل أن يخلد إلى النوم. أما ما يلهو به فهو أسنان بشرية ذهبية، اقتلعت من فم يهود قتلوا في المحرقة، تحديدا في معسكر أوشفيتز، حيث يعمل والده. أن تصبح الفظائع مجرد عمل اعتيادي لا يرى ولا يبعث على التقزز ولا الألم، ولا حتى مجرد التفكير، بل أن يصبح ما تبقى من رفات القتلى مجرد لعبة يتسلى بها الأطفال قبل نومهم، تلك هي أجواء فيلم جوناثان غليزر الذي يجمد الدماء في الأوصال.
تناول الكثير من الأفلام الروائية والوثائقية محرقة النازية، ولكن حفنة صغيرة منها تخلد في ذاكرتنا على أنها الأكثر رعبا والأشد تأثيرا، من بينها «شوا» لكلود لانزمان و»ابن شاؤول» للمجري لازلو نيميش. ويمكننا أن نضم «حيز الاهتمام» لهذه القائمة للأفلام الأكثر إيلاما. الذعر الذي نراه في «حيز اهتمام» لا يتمثل في التنكيل بالضحايا، ولا في الساعات الأخيرة في حياتهم قبل اقتيادهم لغرف الغاز. في واقع الحال، نحن لا نرى ضحايا المعتقل على الإطلاق. هم غائبون تماما عن الفيلم، وما نراه منهم لا يعدو دخان المحرقة الذي يبدو من بعيد. الذعر في الفيلم هو اعتيادية الأمر، وكونه مجرد عمل ومهمة أوكل بها ضابط ويجب أن يؤديها بكفاءة كما لو كانت أي عمل آخر. ترى كيف يمكن لبشر أن يبيد بشرا آخرين، وأن يحيا حياة أسرية عادية، يلهو فيها مع صغاره، ويفكر في عطلة على البحر في إيطاليا. هذا ما نراه في الفيلم. يصبح التفكير في تصميم جديد للأفران، تتسع للمزيد من آلاف «القطع»، كما يشار لضحايا المحرقة في الفيلم، وللتخلص من الرماد المتبقي بكفاءة مجرد هم عمل كأي عمل آخر ينقضي بمجرد انتهاء ساعات العمل والعودة إلى المنزل. الضابط الموكل بإيجاد طريقة أكثر كفاءة للتخلص من اليهود، أو «القطع»، بتجريدهم من بشريتهم، وهو أحد سبل التعامل مع الأمر باعتيادية، هو رودولف هوس (كريستيان فريدل) الضابط الألماني المكلف بالإشراف على معسكر أوشفيتز.

في منزل أنيق من طابقين ذي حديقة غناء على أعتاب معسكر أوشفيتز يعيش هوس مع زوجته وأطفاله، منزل كبير ذو ألوان بهيجة وأثاث أنيق يعكس ذوقا عاليا في التجهيز. يقوم على خدمة الأسرة عدد من الخدم ومربيات الأطفال. هذا المنزل هو حلم أي أسرة بورجوازية ذات تطلع وطموح، وهذا المنزل هو حيث تدور أحداث الفيلم، ولا نرى من المحرقة إلا دخانها الذي يلوح من بعيد. إنه منزل تحيط به حديقة فسيحة، أشرفت على تنسيقها زوجة هوس، فقسمتها جزءا للزهور ونباتات الزينة، وجزءا للأعشاب التي تستخدم في المطبخ، وهناك مسبح، ومنطقة للعب الأطفال، ومنطقة للحفلات، حيث تتجمع زوجات الضباط وأطفالهم لتناول الحلوى وتجاذب أطراف الحديث، لا مؤشر في هذه الحديقة الغناء على وجود أوشفيتز إلا السور العالي الذي تحيطه الأسلاك الشائكة. رودولف هوس ليس شخصية من ابتداع الخيال، بل شخصية حقيقية، إنه ليس قائد أوشفيتز فحسب، بل لعب دورا كبيرا في تصميم وتطوير آلية الموت في المعسكر، بل تمت الاستعانة به في تطوير كفاءة معسكرات الاعتقال النازية الأخرى. الفيلم مبني على أحداث تاريخية واقعية مثبتة، ومقتبس أيضا من رواية الكاتب البريطاني مارتن أيميس بالعنوان نفسه.
على الرغم من أصوات إطلاق النار التي تترامى إلى المسامع من بعيد، وعلى الرغم من أصوات الأنين والتأوه المقبلة من بعيد، لا تتعامل أسرة هوس مع الأمر على أن من يعذبون أو يقتلون بشر مثلهم. هم مجرد جزء من عمل رب الأسرة، لا علاقة له بما يدور في المنزل الهادئ، بل إننا نرى في مشهد من الفيلم هيدويغ، زوجة هوس (ساندرا هولر في أداء متميز)، تجرب معطفا من فراء المنك وقلم أحمر شفاه كانا لامرأة يهودية قتلت في المحرقة، دون أي شعور بالذنب! بأن ما ترتديه كان لشخص فقد حياته غدرا. ما يثير فينا الذعر حقا هو أن هيدويغ ربة منزل من الطراز الرفيع حقا، تشرف على المنزل وتربية الأطفال وعلى الحديقة الشاسعة بدقة شديدة، وتفخر بمنجزها، حتى أننا نجفل فزعا حين نراها تلقب نفسها بـ»ملكة أوشفيتز». هي امرأة تهنأ باستقرارها المنزلي، بل إن أمها التي تأتي لزيارتها تخبرها أن ما أنجزته في منزلها وفي حديقتها هو الجنة. هي امرأة صمّت أذنيها وأغلقت عينيها تماما عما يجري في المعتقل الذي يبعد خطوات عنها، ولا ترى سوى حديقتها ومنزلها. تغادر أمها المنزل فجأة، ربما لعدم تحملها لما يدور خلف الأسلاك الشائكة، ولكن هيدويغ لا ترى شيئا سوى جمال حديقتها ومنزلها. الأمر الأكثر إثارة للذعر والفزع في الفيلم، ليس حالة الإنكار التي تعيشها أسرة هوس، بل انتفاء هذا الإنكار. الإنكار يعني وجود إحساس دفين بالذنب أو الألم يتعامى المرء عنه ليواصل حياته. ولكن هذا الإحساس بالذنب منتفِ تماما في الفيلم. هي أسرة تعيش رغد العيش، ولا يعكر صفوها شعور بالذنب أو الألم. ربما يجعلنا الأمر نفكر في ذواتنا أيضا، فربما نحن لسنا مسؤولين بصورة مباشرة عن كثير من المآسي والمظالم في العالم، ولكننا أيضا نواصل حياتنا دون الشعور بالذنب على هؤلاء الضحايا.
موسيقى الفيلم للبريطاني ميكا ليفي، تزيد من أجواء الفيلم الخانقة.. هي موسيقى أشبه بالأنين أو توجع إنسان معذب. تأتي هذه الموسيقى مع مشاهد الحديقة الغناء والبيت الفسيح، فتزيد من إحساسنا بالذعر، وتؤكد مدى تناقض هذه الجنة الصغيرة مع ما يدور على الجانب الآخر من السور.

*القدس العربي