نزار غالب فليحان: “سُلَّم إلى السَّماء” لإبتسام تريسي

0

حُبٌّ بطعمِ الرَّحيلِ … حُلُمٌ بلونِ الغِياب

ربما كان سقوط سُلَّمِ “هيفين” ذات شتاء وتجعد الطين فوق خشباته صيفَ ذات العام الذي شهد موت جدها نذيرَ شؤم بعد أن كان سبيلَها الحُلُمَ نحو السماء التي بالغ زوجها في تعذيبها كي يمنعها من بلوغها، كان يريدها أن تحيا بين حتميتين لا ثالثة لهما، قسوته حَدَّ طلبها الموت كحتمية أولى ومصادرة موتها ما أمكن كحتمية ثانية: “سأكسر رأسك، ولن تجدي أمامك منفذاً حتى إلى السماء”.

ترمي ابتسام تريسي وَدَعَها لتقرأ الماضي والحاضر والمستقبل، وحيث لا مكان للتخمين تحت ضوء الحقيقة الساطعة -فثالوث الزمن في “سُلَّم إلى السَّماء” ناصع جلي لا يقبل التأويل ولا يدع مجالاً للاحتمال أو التكهن- فقد ضربت الكاتبة تقاليد التنجيم بجلاء الحكاية على بساط رملي عندما انتشلت أبطال روايتها من قاع البحر أو من على جزيرة، الأبطال الذين ولدوا وترعرعوا في الجرود والبراري ولم يتوقعوا يوماً أن يكونوا قرابين البحر وأن يكون الإله الجديد قبرهم أو يكاد.

يلهث السرد لهاث خطوات “هيفين” من وإلى البلاد، سرد تتقافز أحداثه كالأيائل تعدو على بساط من الثلج، يترك مع كل حركة أثراً ينضفر مع سابقه ويهيء دليلاً للذي يليه يسير عليه.

يفتح النص باباً على حكاية “هيفين” التي تعشق الألوان والرسم وتعشق أختها “لينا” التي غدرها الزمن متخاذلاً مع “وسيم” الذي أحب “هيفين” لكنه تحدى “سميح” الذي كان يحب “لينا” ليفوز “وسيم” تالياً ويستحوذ على قلب “لينا” ويتورط في اللعبة إلى أن يتزوجها ويخطط للتخلص من “سميح وبدر ولينا”، الأول بتجريمه بقتل “لينا” والثاني كي يبعده عن “هيفين” و”لينا” كي يتزوج من “هيفين”.

ويفتح باباً آخر على حكاية معاناة “هيفين” مع زوجها الذي أورِثَتْ إياه بإكراه من أهلها بعد مقتل أختها، زوجها الذي سيسومها العذاب حَدَّ استحالة استمرار الحياة بينهما، لتهرب منه نهاية الأمر وتجبره على الطلاق.

يتخلل هذين المحورين سرد لعذابات السوريين بين رحيل عن ديار أكلتها الحرب ورحيل إلى ذات الديار لأسباب اختلفت بين يائس وآخر، أما متن النص فيتبدى في حكاية حب “هيفين” و “بدر”، الحكاية التي كان يلذ للكاتبة العودة إليها وإشباعها ما أمكن بين سرد وسرد، لأنها كانت سُلَّمَ “هيفين” إلى حلمها.

تنمو حكاية حب “بدر” و”هيفين” في الماضي على ضفاف حكاية حبهما من جديد، ويتنقل السرد بين عذابات “هيفين” في زواجها وعذوبة ذكريات حبها لـ “بدر”، الحب الذي يعود ليرى الشمس حين يلتقيان في تركيا، كل ذلك على وقع عشق “هيفين” للألوان وتوقها لتحويل كل مساحة تقع عليها عيناها إلى لوحة وجعل أي مكون من مكونات الطبيعة لوناً من ألوان لوحاتها، كانا يركضان إلى الحب بذات السرعة التي ركضا فيها إلى الموت، اختار “سميح” صديق “بدر” أن ينقذ “هيفين” من الغرق في البحر -الإله- مضحياً بـ “بدر” قرباناً لتحيا “هيفين”، كان بإمكانه إنقاذ نفسه وشخص واحد فقط، ربما كان على يقين من أن “بدر” كان سيختار إنقاذ “هيفين” أيضاً.

الروائية ابتسام تريسي

يتلون سُلَّم “هيفين”، يطول ويقصر، يصعد عالياً ثم ينحدر، وقد يمتد أفقياً، لكنه أبداً يسعى إلى السماء.

الألوان وبدر كانا المستحيلين اللذين طَوَّقا “هيفين” طيلة سردها حكايتها، في خطواتها، في رسم لوحاتها، في صياغة ألوانها، وفي نزوعها إلى الحنين الذي كان يحضر ويلح ويستبد طيلة طريق العودة، وحين غرق “بدر” في بحر الرحيل كانت “هيفين” تغرق في الحلم المستحيل، عندها ربما استعذبت إبتسام تريسي عدم قدرة “هيفين” على إدراك الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال لتوشِّحَ السرد بمونولوجات نضحتها مخيلتها، تستدعي الجَدَّ مرة، وتخلق شيخاً حكيماً مرة ثانية، وتنسج حكاية سفر في الحلم نحو عالم غرائبي أسَرَ “هيفين” إلى أن أدركتها الصحوة، هنا تبرز روح جديدة للكاتبة، ينمو لها جناحان، حيث لا تذعن للسرد التقليدي، بل تنعتق نحو أفق آخر تحت تأثير عصف خيال استغرقها وأحسنت تطويعه.

طريقُ الرَّحيلِ مُفَخَّخٌ بموتٍ وشيكٍ

طريق العودةِ مُفَخَّخٌ بالحنينِ

الموتُ ضيفٌ خفيفُ الظِّلِّ يزورُنا مَرَّةً واحدةً ويغيب

أما الحَنينُ فضيفٌ ثقيلُ الظِّلِّ، موتٌ عُضال

وبين طريق الرحيل وطريق العودة كانت “هيفين” دائماً بحاجة إلى سُلَّمٍ نحو السماء، سُلَّمِ الخلاص، سُلَّمٍ يشبه سُّلَّمَ السنديان الذي صنعه والدها وأحيته ثانية حين لونته بفائض لون أبيض ذات صيف، عبثت يومها بالألوان رفقةَ “بدر” وظلا يشابكان أصابعهما لتنسرب من بينها ألوان قوس قزح، يومها قالت لها أمها: “أنت مجنونة، ويبدو أن حياتك ستكون مجموعة كوارث”.

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here