“ربع وقت” حكاية نائلة ونسيج حكايات متصلة أخرى، منها ما ترك أثراً مباشراً على الحكاية الأم، ومنها ما جاء ليكمل المشهد العام لبيئَتَيْ النص المحلية، حيث تعيش نائلة والعامة الأكثر اتساعاً حيث يعيش الوطن، حكاية لعبت فيها الروائية دور الراوي تاركة مساحات من النص لحوارات بين شخوص العمل لم تكن على حساب السرد، بل أكملت وظيفته نحو تكوين لوحة أكثر وضوحاً وواقعية، سيما وأنّ لغة الحوار تلك كانت متناغمة مع المستوى الثقافي للشخصيات، كما عززت الكاتبة النص بأفكار وخواطر بعض الشخصيات بين حين وآخر، أفكار وخواطر عكست سرائرهم وطباعهم في محاولة لإعطائهم حرية التعبير عن ذواتهم وتمكينهم من رسم ملامح شخصياتهم لجعلهم أكثر قرباً من القارئ وأكثر بعداً عن ممارسة الراوية ذاتها عليهم، أما لغة النص فقد أتت بسيطة غير متكلفة، كما بساطة شخوص العمل ومراوحتهم اجتماعياً وطبقياً وثقافياً بين القاع والوسط، حيث أَدَمَةُ المجتمع التي يعوَّلُ عليها في كل حراك باتجاه التغيير.
في الحكاية التي تقارب الواقع، كان لا بد من زنزانة تقضي على جموح نائلة، على حريتها التي لم يثنها ظرف عن ممارستها إلى أن اصطدمت بجدار السلطة، حين ظنت أن بإمكانها أن تعبر عن رأيها أو أن تفضح ممارسات فاسدة في ركن من أركان الدولة، بالطبع ليست الزنزانة ضرورة وليست ممارسة الحرية جرماً إلا في ظل سلطة قمعية، لذلك كان على نائلة -شأنها شأن شعب بلادها- أن تدرك أنّ الأرض التي تقف عليها ليست صلبة كفاية حمايتها من بطش السلطة، لكنها أصرّت، لتدفع ثمن إصرارها عشرة أشهر وعشرة أيام قيد الاعتقال.
انعكست أهواء نائلة في أربع سقطات على أقل تقدير، زيجات ثلاث فاشلة هي أقرب في الحقيقة إلى تجارب غير محسوبة العواقب، وابنة وحيدة قطعت حبل الود مع أمها وأمومة مشروخة تعترف نائلة بها دون تردد ولا مواربة ولا وجل، واعتقال أعقبته غرغرينا في قدمها وخَلَّفَ حطام روح.
عاشت نائلة لِذاتِها ما استطاعت، وعاش محيطها في فضاء رغباتها وعنفوانها، عدا ابنتها “جوانا” التي أدركت أنّ أمومة أمها ناقصة بعد أن تخلّت عنها لزوجها الأول “بكر”، الذي ظلّ يحبّ نائلة حتى بعد أن تزوج من ابنة عمه، في حين تلقت صفعتين من “علي”، زوجها الثاني، بعد أن أدركت أن زواجها منه كان خياراً مخيباً لآمالها حين أهملها، ما دعاها لتركه فكانت صفعتها الأولى، وتالياً بعد أن رفض مساعدتها في تأمين رشوة إطلاق سراحها من المعتقل، لتتعزز خيباتها في “سليم”، زوجها الثالث، الذي حارب ليخرجها من المعتقل كي تلد له ابناً يحمل اسمه في ظلّ إصرارها على الإجهاض ليس فقط لأنّهما اتفقا قبل الزواج على عدم الإنجاب، بل لأنها أيضاً متصالحة مع أنها ليست أماً كما يجب.
لكن نائلة انتصرت في النهاية في ثلاث، حين ظفرت بعد إطلاق سراحها بلهفة ابنتها “جوانا” حَدَّ قرار الأخيرة بأنها ستسافر مع أمها، “جوانا” التي لم تكن تطيق سلوك أمها ولا حديثها حتى إنّ “سليم” كاد يوقن أنّ “جوانا” هي من حررت التقرير الأمني بنائلة، كما انتصرت بوفاء “بكر” زوجها الأول، الذي دفع كامل الرشوة لتحريرها، وانتصرت بممارسة حريتها في مناخ لا مكان فيها لبصيص أمل.
“ربع وقت” نَصٌّ يؤسس من ناحية لمخاض الحرية العسير على عتبات بلاد ستغمرها الدماء فيما بعد، كما يؤسس من ناحية ثانية لاجتراح الأمل من عتمة زنزانة باردة، كانت نائلة تمر بسلامياتها على مفاتيح البيانو التي رسمتها بثينة على جدار الزنزانة، وعند كل مرور كانت بثينة تطلق نغمةً لتُعَلِّمَ نائلة العزف، الزنزانة التي كانت تحاصر تلك الأرواح في الواقع صارت عُشّاً لعصافير مؤجلة في الرواية.
(ليفانت)