نزار غالب فليحان: خُبز مَشْروحْ … هُوِيَّة

0

قبل أن نعرف “الكْماجِة” أو “المْرَقَّدِة” و”الصَّمُّونة” تالياً نحن أبناء الرغيف والخبز “الحاف”، كان “المَشْروحْ” سيد الموقف وعريس المائدة، حتى صار مكوناً أساسياً لثقافة شعب بأكمله ووسماً من وسوم هُوِيَّتِهِ، شعب اعتنق الرغيف فصار بعضاً منه، يدافع عنه بكل ما أوتي من قوة، يتغزل به وينتظر تَقَمُّرَهُ مع ساعات الصباح الأولى، يكاد يراهُ إلهاً يصلي له ليأكله بعد قليل، كنا إذا ما عثرنا على قطعة خبز في الطريق نرفعها نلثمها و نضعها على جبيننا ثم ننحي بها جانباً كي لا تطأها أقدام السابلة، آمَنَّا بالرغيف حتى صار نقطة ضعفنا، يدَنا التي تؤلمنا، خاصرتَنا اللينة التي يلج منها عسف الطغاة .

“أبو طالب” الفران الماهر في أحد أحياء الطفولة “الزهراء – حمص”، يقف في حفرة مربعة، يؤدي رقصته الجميلة على إيقاع كَفَّيْه الثابت الرصين

“تا تا تَكْ” “تا تا تَكْ” “تا تا تَكْ”

“تا تَكْ” “تا تَكْ” “تا تَكْ”

“تَكْ تَكْ تَكْ”

يحرك كل مرة قطعة العجين بشكل دائري، يرفع ذراعيه إلى السماء كأنهما تبتهلان وهما تداعبان العجينة التي رقت و استدارت في الفضاء، يلتقطها برشاقة ليريحها و”يفردها” فوق خشبة مستديرة اتصلت بعصىً طويلة يدفعها داخل الفرن فتلفحها النار وتغدو كقرص الشمس، يحدث ذلك مع دوران خصره اللين الرشيق بين بيت النار وبسطة العجين . لم يكن ينقصه سوى قلنسوة طويلة وجُبَّةٌ بيضاء فضفاضة وحزام قماشي على خصره كي يكتمل طقسه الصوفي نحو بلوغ الكمال .

يُهدَم فرن “الزهراء”، لكن عشق “المَشْروح” لم يهدم، صار فرن “باب تدمر – حمص” قبلة العشاق رغم بعد المسافة التي فرضت السعي إليه مع أذان الفجر، لم يكن الفران الجديد – رغم إدراكه أننا قادمون من بعيد – يستغرب سعينا لأنه يدرك أن رواده مدمنو “مَشْروح” وأنهم تُبَّعُ طريقته الصوفية، عَبَدوا وها هم يَقْصُدون عَلَّهُمْ يَشْهَدون .

يصير أن أنتقل للدراسة في دمشق إِبَّانَ زحف “الكْماجِة” أو “المْرَقَّدِة” و”الصَّمُّون” والخبز “السياحي” أو “خبز الأكابر” المهرب من لبنان، ويبقى “المَشْروح” واحداً من الطقوس الأثيرة، الفرن الآن في “المزة جبل” لكن الفران هنا يقطع الحبل السري للرغيف من رحم “التَّنُّور” المكور الدافئ السخي، يفرض شكل الفرن الجديد تراجعاً في الطقس الراقص الإيقاعي واختصاراً للحركات الرشيقة ما يبعث في النفس بعضاً من الأسى الذي ينذر بسقوط إحدى القيم وانسحاب إحدى آيات الجمال و أفول أحد مكونات الهوية .

أجول في دمشق لأعثر على فرن شبيه بفرنَيْ “الزهراء” و “باب تدمر” لأجد ضالتي في سوق “باب سْريجِة” الذي يجمع بين زورايبه ليس فقط الخضار والفواكه الطازجة بل “المُقَدَّدَة” وكذلك المخللات وكل ما يخص “المونة” والبهارات والألبان ومشتقاتها واللحوم والأسماك، و”المَشْروح” بطقسه الأصيل غير المنقوص، يعود الأمل وينتصر الطقس من جديد للهوية .

يستمر الطقس في الكويت، لكن الفرن هنا تَنُّور، و الفران إيراني أو أفغاني، والمسمى “خبز إيراني”، ورقصة أبي طالب يتقاسمها درويشان اثنان، الأول يرق العجينة بإيقاع “تا تَكْ” “تا تَكْ” “تا تَكْ” ثم ودون أن يلوحها في الهواء “يفردها” على وسادة مستديرة صغيرة ليلصقها في جدار التَّنُّور الرحم، والثاني يراقب تقمرها ليقتلعها من جدار التَّنُّور بقضيب حديدي مزدوج، الرقصة مختصرة والرغيف أصغر حجماً والطقس مقتضب لا يرقى إلى طقس أبي طالب الذي أحرص على استحضاره كلما اشتريت خبزاً، وأحرص أيضاً على ألا أنسى أنَّ الخبز “مَشْروحْ”، أردِّد اسمه طوال الطريق إلى ومن الفرن، أخشى أن يَخْمِشَ الاعتيادُ وَجْنَةَ الأصالةِ فَتُدْمى الهُوِيَّة .

*خاص بالموقع

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here