كَسِرِّ حضور فنجان القهوة، ومعه في الغالب، تحضر أغنيات فيروز كالرذاذ مقدمة للمطر، في لوحة متكاملة تحار من أين تعجب بها، وما الذي يأسرك منها أولاً، يسرقك اللحن فتنشغل عن الكلمة، تدهشك الكلمة فتلتفت عن اللحن، حتى ليبدو الجمع بينهما أمراً يتطلب المزيد من التركيز في الإصغاء، الأمر الذي قد يُذْهِبُ المتعة، فيستبد العقل وتتراجع الروح، وتتقدم المعرفة على النشوة، فتستسلم لروعة أحدهما كي لا تفوت حبوراً صرت إليه.
يصبح الأمر أكثر إثارة حين تحاول معرفة قصة الأغنية، سببها، والسياق الذي ولدت فيه، سيما وأن معظم أغاني فيروز رأت النور من خلال المنجز المسرحي للرحابنة، وشكلت عنصراً أساسياً في ذلك المنجز، وربما عجزت مسرحياتهم عن إدراك سحرها الذي بدت فيه لو أنها أخرجت دونما أغنية، الأمر الذي كرس مفهوم المسرح الغنائي لشدة ارتباط النص المسرحي لديهم بالنص الغنائي.
وقد تبدو الإثارة أشد لو أننا تركنا للمتلقي حرية نسج حكاية الأغنية بالشكل الذي يجود فيه خياله، سيما وأن عقوداً مضت على آخر عمل مسرحي للرحابنة، عقوداً ولدت خلالها أجيال لم تتابع تلك الأعمال ولم تبحث -ربما- عن قصص تلك الأغنيات، بل أحبتها وحفظتها وغنتها كما هي، دونما ربط بينها وبين خشبة المسرح، اعتادت سماعها -وربما أدمنت- على أنها أغنيات لفيروز، ولم تدرك أنها كانت شَدْوَ هالة وزاد الخير وزيون ووردة وقرنفل وهيفا وريما وغربة ومنتورة والعديد من الشخصيات التي جسدتها فيروز.
“لشو تطلع يا قمر” “صح النوم” 1971:
تقول الحكاية إن الوالي “أنطوان كرباج” ينام شهراً كاملاً ليصحو عندما يكتمل القمر فيوافق على ختم ثلاث معاملات فقط من معاملات الأهالي، الأمر الذي يدفع “قرنفل” التي لم يختم الوالي معاملة ترميم سقف بيتها إلى سرقة الختم في غفلة من الوالي وهو نائم.
تختم قرنفل معاملتها وكل معاملات الأهالي عدا معاملة “شاكر الكندرجي” “إيلي شويري” الذي دأب على التأخر في إصلاح “اسكربينتها” محابياً نساء أخريات عليها.
تكبر ورطة “قرنفل” فتقرر رمي الختم في البئر لتخفي جريمتها، وتعيش على أمل ألا يستيقظ الوالي فتغني :
“الجوقة”
يا قمر يا قمر ضوّي ضوّي ع الشجر
ويا شجر بالسهر لوّح لوّح للقمر
“قرنفل” طالبة من القمر ألا يسطع بدراً من جديد كي لا يستيقظ الوالي ويفضح سرقة الختم:
يا قمر لشو تطلع يا قمر
لولا بتقعد تتسمّع من خلف الوراق
مش أحسن ما تقوم تطلع وتفضح العشاق
وتضوّي وتكشف صور
ونبكي ويشيع الخبر
أحلى تضلّك قمر زغير لشو تكبر يا قمر
ثم تتابع “قرنفل” في إقناع القمر بأن يتقاعد ويستريح من عناء السفر علهم يشتاقون إليه أكثر:
سافرت كتير وضوّيْت وعمرك كله راح
لولا بتلقيلك شي بيْت وبتقعد ترتاح
وهالعيشة الكلها سفر بكرا بتجبلك ضجر
خلينا نشتاق عليْك وغِبلك سنة يا قمر
وفي حمأة تضارب المصالح يقاطعها “شاكر الكندرجي” “إيلي شويري” مخالفاً رغبتها لأنه يريد ختم معاملته:
يا عمي شو عم تحكوا بدنا يطلع القمر
“الجوقة”
ايه صحيح بدنا..بدنا يطلع القمر
“وَيْنُنْ” “ناظورة المفاتيح” 1972:
يستبد الملك “غيبون” “أنطوان كرباج” ويكوي شعبه الطيب بالضرائب ما يدفع الشعب بقيادة “بربر” “نصري شمس الدين” إلى النزوح عن مملكة “سيرا” وترك الملك تاجاً بلا شعب، لكن “زاد الخير” تختار أن تبقى حارسة على البيوت حافظة لمفاتيحها.
تستشعر “زاد الخير” مرارة الوحدة ونزوح أهلها وتبدأ بالبحث عنهم في كل زوايا الممكلة:
وينن … وينن
وين صواتن وين وجوهن
وينن
صار في وادي بيني وبينن
وينن
تجيب “زاد الخير” على سؤالها، فتشرح هروب أهالي “سيرا” تاركين خلفهم كل ما يدل عليهم دون أن تُعْرَفَ وجهتُهُم:
ركبوا عربيات الوقت وهربوا بالنسيان
وتركوا ضحكات ولادن منسية عالحيطان
تركوا لي المفاتيح
تركوا صوت الريح
وراحوا ما تركوا عنوان
كل شيء في “سيرا” هرب من ظلم الملك “غيبون”، لتبقى “زاد الخير” بصيص الأمل الوحيد:
عشاق الطرقات افترقوا لا حكي لا مواعيد
أنا وحدي صوت الشوارع
أنا طير القرميد
هربت بهالليل
من مرابطها الخيل
وأنا قنديل الحزن الوحيد
وينن
“كحلون” “ميس الريم” 1975 :
في طريقها إلى ضيعتها “كحلون” حاملة معها فستان عرس ابنة خالتها، تتوقف سيارة “زيون” “فيروز” في ساحة قرية “ميس الريم” التي تتصارع فيها عائلة “المكنسيان” “نعمان” “إيلي شويري” وعائلة خطيبته “شهيدة” “هدى حداد”، تضرب “زيون” صداقة مع “السكران” “جوزيف صقر الذي يحكي لها كل الحكاية راسماً أمامها الخريطة الاجتماعية لـ “ميس الريم”، فتسعى إلى إصلاح ذات البين كي يعود “نعمان” إلى عمله ويصلح سيارتها، الأمر الذي تطور إلى انغماسها في مشاكل العائلتين ليصبح هدفها الأول رأب الصدع بينهما متقدماً على هدف إصلاح السيارة لأنها تأخرت كثيراً عن موعد العرس في “كحلون”، وهذا ما حاولت إخبار جدتها به في اتصال هاتفي لم يكتمل :
ألو.. ألو.. كحلون؟ ستي؟
ستي يا ستي اشتقت لك يا ستي
علّي صوتك… صوتك بعيد
جاي من الكرم جاي من التفاح
صوتك حامل شمس وفي لون التين والزيتون
ايـــــــــــــــــــــه
وريحة الطيّون يا ستي
تحاول “زيون” إقناع جدتها بأن لا يؤجل العرس لأن الأساسي في هذا العرس هو العروس أما الفستان فهو أمر ثانوي وشكلي:
ايه يا ستي
ما حدا ينطرني
لا تأجلوا العرس يمكن طول
وشوهم الفستان
قولي للعروس: إنت الزينة وإنت العرس
وسلمي لي
كــتـــيــــــر كــتـــيــــــر
وما بقى بكير يا ستي
ثم تستذكر “زيون” دفء صوت جدتها في برد ليالي الشتاء، وتطلب منها أن تطمئن الجميع أنها بكل جوارحها معهم تغني للعروسين في كل زوايا “كحلون”.
بذكر الليالي الطويلة وأنا طفلة بالزمان
وقصص الشتا يحكي لي صوتك اللي كله أمان
أيه يا ستي شو بقلك يا ستي؟ إنتوا بقلبي
وقولوا زيون جاي وما انها جاي هون وما اناش هون
عم بتغني للعروس وللعريس
بالــــــــــــساحــــــــــات
ومن خلف الطرقات يا ستي
ثم تتوقف المكالمة.
الو الو انقطع الخط
بذلك تتضح معالم الأغنية في سياقها ويصبح لسماعها نكهة مختلفة، نكهة تستدعي معها المسرحية كاملة وتعيد المشهد إلى المخيلة فلا يعود للنص الغنائي قراءة ثانية وتنجلي أحجية طلب “قرنفل” الغريب بأن لا يستدير القمر من جديد وسؤال “زاد الخير” “وينن” وفحوى الاتصال الهاتفي بين “زيون” وجدتها.
هكذا الأغنية، سر غامض بين الكلمة والنغمة، سر إذا تجاوز هاتين المعجزتين شاع، وقد يلذ للمتلقي أن يظل هذا السر غامضاً فلا تقيد مخيلته، بل يصبح هو -المتلقي- ثالثهما، وربما رغب كثيرون في إزاحة الستار عن مناسبة الأغنية وحكايتها الأصلية مفضلين جلاء المعنى على جموح المخيلة.
(الصورة: قرنفل والختم في مسرحية صح النوم)