من أقراص الطين إلى المطبعة. من قلم الرصاص إلى الإنترنت. من ملحمة جلجامش إلى هاري بوتر… هذه هي مسيرة الأدب. في هذه المسيرة تشكلت نصوص ارتمت في أحضان كتب غيّرت تاريخ البشرية.
يحكي كتاب “العالم المكتوب” للأميركي، الألماني الأصل، مارتن بوشنر (أو بوخنر) قصة آسرة لتطور الأدب، أو الإبداع الكتابي، الذي شكل رأس الحربة في تغيير طريقة العيش البشري. لم يتم ذلك دفعة واحدة وبسرعة، بل بهدوء وعلى مدى قرون، مثل قطرات الماء التي تفتت الصخرة حين تستعين بالزمن. ويشرح الكتاب “قوة الكتابة في خلق الناس والتاريخ والحضارات”. مسح واسع وغزير للأهمية المركزية للأدب في الثقافة الإنسانية، لكنه أيضًا قصة مغامرة رائعة لأعجوبة الكتابة البشرية، قصة رسائل وسفن ورقية وسيدات البلاط الأنيقات والسيدات ورواد الأعمال من الدرجة الأولى، وصف طويل وملون من التواقين للسلطة أو الحالمين بالحرية: الحرية التي تولد من رحم الكتاب، مثل الفراشة التي تولد في الشرنقة.
يسرد بوشنر حكاية تكون ذهنيتنا، ونفوسنا وميولنا ونزعاتنا وأفكارنا وصراعاتنا، على مدى آلاف السنين من الحكايات التي اخترعناها ودوّناها ويقودنا في متاهات الحضارة الإنسانية في لحظات مهمة من صيرورة ابنثاقها وتطوره. ويبين الكتاب الطريقة التي توفرت فيها الكتب العظيمة التي نضجت في رحم الأيام حين لقحت الأذهان بماء الأبجدية، أو الأبجديات، الأولى.
الورق والطباعة هما جوهر “العالم المكتوب”. قد تكون هناك استثناءات، كما في كل شيء. قصة شاعرة القرن العشرين آنا أخماتوفا، واحدة من هذه الإستثناءات. هي قصة آسرة لشاعرة كافحت للحفاظ على عملها شفويًا كوسيلة لحماية نفسها في جحيم الستالينية الشمولية. واستمر سرد القصص في تغذية الأدب حتى يومنا هذا بطريقة باهرة عبر الكتابة. كانت أخماتوفا ومضة سريعة وخارقة وكذلك كانت “ملحمة سوندياتا” في غرب إفريقيا والتي تم تناقلها شفهيًا لقرون. تم تدوينها فقط في القرن العشرين. ويقسم بوشنر تاريخ الأدب إلى أربع مراحل رئيسة. الملاحم، الكتاب العبري المقدس، الأوديسة، وما يسميه أدب الصفوة، أي نصوص من المعلمين الأوائل للتأمل الإنساني: بوذا، سقراط، كونفوشيوس.
الأدب هو الذي صاغ، ويستمر في صوغ، نظرتنا إلى العالم. هذه تقريباً نواة الفكرة التي تنهض عليها المقاربة الأخاذة للكتاب. الروايات العظيمة هي وليمة ذهنية كبيرة يشترك الناس من أربع جهات الأرض في تناولها، سنة بعد أخرى، وعقداً بعد آخر، وعبر القرون. نحن جزء عشيرة كونية هي عشيرة المتأثرين بالكتب التي نقرأها، سواء أكانت ملاحم وطنية أو روايات أو دواوين شعر أو مسرحيات أو نصوصاً دينية أو سياسية أوأدبية.
علاقة الأدب بالكتابة كعلاقة الجنين بالأم عبر المشيمة. تظل النصوص الأدبية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالكتابة. كان ذلك في عوالم العصور القديمة والوسطى وإلى هذا الوقت. الآن يظهر الميل إلى السعي في فك هذا الإرتباط، على يد الإنترنت، مثلما يجري فك كل ارتباط بأي شيء وكل شيء.
كان كل يوناني، على سبيل المثال، يتعلم القراءة والكتابة من قراءة هوميروس.
يوضح بوشنر كيف كان الإسكندر الأكبر “قارئًا أكبر من الحياة”، أخذ معه نسخة أرسطو من الإلياذة في حملته العسكرية في آسيا وأعاد تمثيل المشاهد الرئيسية منها وشدد على قيمتها ووزعها على الأمم والبلدان التي غزاها. وأصبحت الإسكندرية، تحت حكم خلفاء الإسكندر، أكبر مدينة يونانية تقرأ في العالم، كانت مكتبتها مكتبة العالم. أي ما تخيّله وتاق إليه بورخيس. قطعت المسافة الكاملة باستبدال الهيروغليفية المصرية بأحرف مستوحاة من الأبجدية اليونانية.
لكن أقدم من الكتابة الهيروغليفية المصرية، كانت الكتابة المسمارية السومرية، وهي نظام الكتابة الذي استخدم في تأليف ملحمة جلجامش حوالي عام 2100 قبل الميلاد، “هذه التحفة الأولى من الأدب العالمي”.
انبثقت ملحمة جلجامش مكتوبة على ألواح من الطين. وكان هذا طبيعياً في مدينة مصنوعة من الطين في بلاد ما بين النهرين. كان الطين مادة وفيرة ومنه صنعت المنازل والجدران والفخار وأنظمة الري. عالم كامل من الطين. من هذا الطين العظيم خرجت الأعجوبة المذهلة: الكتابة. أي أن الإنسان، بمعناه الفعلي هو الكتابة، لنه الإنسان، في الأديان، مصنوع، مثل الألواح المكتوبة، من الطين. وفي الجهات الأخرى من كوكبنا الأرضي، أو الطيني، كانت شعوب أخرى تكتب جلجامشها. كانت المايا والأزتك في أميركا اللاتينية والصينيون واليابانيون والهنود في آسيا يصنعون ألواحهم ويسطرون عليها ملاحمهم وأساطيرهم.
“يعتقد الكثير في الغرب أن دون كيشوت هي الرواية الأولى وأن الرواية اختراع غربي، لكن أول رواية عظيمة في الأدب العالمي هي “حكاية أنجي”، التي كتبت في حوالى العام 1000 من قبل سيدة غير معروفة في انتظار في محكمة اليابان”. كان عليها أن تعلم نفسها سراً كيفية استخدام الأحرف الصينية كي تستطيع الوقوف في وجه القاضي في المحكمة. المحكمة كما نرى قوام قديم لأنها هي الأخرى ولدت من قلب الكتابة. فلا محكمة من دون نص وقراءة.
حكاية أنجي هي الصورة الصارخة بشكل لا يصدق لهذا العالم الكتابي المذهل. إنها كتابة طليعية في علم النفس الفردي والعلاقات الاجتماعية والواقع الحياتي لدرجة أننا نكاد نعرف كل شيء عن تلك الفترة في التاريخ الياباني أكثر من أي لحظة أخرى في عالم العصور الوسطى.
في كتاب ألف ليلة وليلة أو ما يسميه كوشنر “متجر الألعاب للأدب”، هناك هذه القدرة البشرية العملاقة في تأليف القصص. تظهر الكتابة كجنّي يخرج من القمقم وتطلب منه حكاية فيعطيك مجموعة من القصص الرائعة. ألف ليلة وليلة هي أبهى مجموعة من هذه القصص. شهرزاد هي ملكة الكتابة والرواة، في مخدعها بحر من القصص التي لا يمكن يسبر غورها، القصص التي حملها التجار معهم على طريق الحرير وبقيت تتغير وتتدبل بانتقالها من مكان إلى آخر. ألف ليلة وليلة مثال على سحر الكتابة ومتعة الغوص في البناء السردي. تنهض القصص على مثل هذا البناء في إطار عبقري: شهرزاد الشجاعة تروي قصصًا للملك الذي يقتل النساء ويبقيه مدمناً على التلقي. يوماً بعد يوم وليلة بعد ليلة يترقب تتمة القصة، أو القصص، بلهفة. أي أنه بات مقيداً بقيد ساحر: سرد الحكاية. وفي أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خلقت الليالي نوعًا من الجنون. كان هناك طلب هائل على تلك القصص فازدهرت تجارة المترجمين وراحوا يبحثون عن رواة القصص في بلاد الشرق، من الهند والسند وإيران إلى تركيا والشام وبغداد، واستمر ذلك لأن المترجمين وضعوا القصص في صندوق يصمد للزمن. أعيد سرد هذه القصص وأعيدت ترجمتها. في القرن العشرين أتى والت ديزني وحولها إلى مشاهد حية تتوالى أمام الأعين. الآن، الليالي موجودة في كل مكان.
إنها ظاهرة مدهشة أن يتمكن الكتاب من اختراع هذا العالم العجيب عبر القصص. إنه مثال رئيسي على قوة الأدب وزخم الكتابة.
يجادل بوشنر بأن الأدب لن يستمر إلا إذا استخدم الكتابة. إن هاري بوتر هنا لأنه مكتوب. لأن الجيل الذي نشأ مع الكتب حمله عبر الكتابة إلى إلى أطفال العالم أجمع، الذين انتقلوا، من ثم، لمشاهدته على الشاشة. هاري بوتر يشبه شهرزاد في ألف ليلة وليلة. رواية القصص سوف تستمر لأنه هناك عطش لا يرتوى للمدهش والغريب والساحر والعجائبي، كل ذلك توفره المخيلة الكتابية.
(*) مارتن كوشنر هو أستاذ الدراما والأدب الإنكليزي والمقارن ورئيس قسم المسرح والرقص والإعلام ومحرر دورية “أنطولوجيا الأدب العالمي”. هو يهودي هاجرت أسرته من ألمانيا فراراً من النازية. قام بالتدريس والكتابة في الولايات المتحدة لأكثر من عشرين عامًا. الآن يدير حلقات تدريبية على الإنترنت تسمى روائع الأدب العالمي يستكشف فيها النصوص التأسيسية لثقافات مختلفة مع مشاركين من مئة وستين دولة.
*المدن