لم يُثرْ رحيل وجهٍ من وجوه المعارضة السورية، في السنوات الأخيرة، ردودَ فعلٍ بحجم هذه التي يُثيرها رحيل المثقّف والمعارض ميشيل كيلو (1940 ــ 2021)، في التاسع عشر من نيسان/ إبريل الماضي في باريس. اهتمامٌ تجاوز حدود سورية إلى بلدان مجاورة، وبل حتى في بعض الوسائل الإعلامية الغربية، ولا سيّما في فرنسا، حيث قضى فتراتٍ من حياته؛ بما يُشير ليس فقط إلى دوره مناضلاً سياسياً قضى سنوات عمره في مجابهة نظام الأسد بنسختيه، بل أيضاً إلى اشتغالاته في الفكر والثقافة.
وإن كان الراحل معروفاً بما يكفي كسياسيّ شيوعي ذاق قمع النظام السوري في النصف الثاني من القرن العشرين، وكأحد وجوه المعارضة منذ اندلاع الثورة عام 2011، فإن كتاباته الفكرية، بل والأدبية، تبقى أقلّ انتشاراً، وهو الذي ألّف كتباً مثل “من الأمّة إلى الطائفة: سوريا في حُكم البعث والعسكر”، وروايتين، هما “دير الجسور” و”مزار الدب”، كما ترجم العديد من الأعمال في الفكر والفكر السياسي، ومنها “نظرية الدولة” لـ نيكوس بولانتزاس، و”الديمقراطية الاشتراكية” لآرثر روزنبرغ، و: من هيغل إلى نيتشه: التفجّر الثوري في فكر القرن التاسع عشر، ماركس وكييركغارد” لـ كارل لوفيت.
وربما بدأ اشتغال كيلو الفكري في الحصول على حقّه من الضوء مع التكريمات التي خُصّصت لها وحلقات النقاش التي عُقدت وتُعقَد، ومنها الندوة التي نظّمها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في باريس” و”مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، أوّل من أمس الإثنين، بعنوان “ميشيل كيلو: رجل السياسة والثورة”. شارك في الندوة، التي أدارها مسؤول فرع باريس لـ”المركز العربي”، سلام كواكبي، كلٌّ من المفكّر والسياسي المعارض السوري برهان غليون، والأكاديمية السورية بسمة قضماني، والباحث الفرنسي المختصّ بالفكر والسياسة الإسلاميين فرانسوا بورغا، وكذلك الكاتب السياسي والمعتقَل السابق في سُجون النظام السوري راتب شعبو.
قد تكمن كثافة الاستعادات التي تُخصَّص للمثقّف السوري الراحل في تمثيله، بتجربته السياسية والفكرية، لقضيّة السوريين، وهذا ما ذهب إليه برهان غليون في مداخلته، الذي رأى أن كيلو “قضى كلّ عمره من أجلها”. وأشار غليون إلى أن كيلو “كان مثقّفاً وسياسياً في بلدٍ ليس فيه ثقافة أو سياسة”، واصفاً الأمر بأنه كان “المحنة الحقيقية التي عاشها كيلو والتي يعيشها المثقّف والسياسي في سورية”.
وإن كان غياب السياسة في سورية أمراً واضحاً لكلّ مَن يعرف وضع البلد، فإن غياب الثقافة فيه يُقصَد به، كما يشرح غليون، غياب دور المثقّفين، إذ “لا يوجد أيّ معنى لكلام المثقّف في بلد ومجتمع أو في نظام، بالأحرى، تُسيطر عليه فكرة القداسة: قداسة الرئيس، وقداسة أقواله، وقداسة الحزب والجيش… إضافة إلى قداسة مقولات رجال الدين”، بما يضع المثقّف واشتغاله في الفضاء العام على هامش المجتمع الذي يعزله النظام عنه ويمنع تواصله مع ناسه.
كما عرّج غليون على مسيرة كيلو السياسية منذ اندلاع الثورة، التي عرفها عن قُرب بحكم ترؤّسه “المجلس الوطني” المعارض، وهي مساحةٌ من حياته توقّفت لديها أيضاً الأكاديمية بسمة قضماني، التي أشادت بـ”استقلالية فريدة من نوعها” تميّز بها الراحل، بحيث أنه “اعتبر نفسه غير مدين إلى أيّة جهة وأيّ بلد أو أيّ طرف، وبالتالي، فقد كان غير مضطر للمسايرة والمجاملة أو التنازل”.
ونوّهت قضماني ببُعد رؤية تحليلات كيلو لبُنية نظام الأسد وطبيعة سياسته بهدف إعادة إنتاج المجتمع السوري، وكذلك بمحاولات كيلو، في الأشهر الأخيرة من حياته، إقناع زملاء له في المعارضة السورية بإنتاج خطاب يتوجّه إلى تلك الشريحة من السوريين التي يُلقي النظام السوري بثقله عليها، ولا سيما منطقة الساحل السوري التي ينتمي إليها كيلو.
الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا أشار، في مداخلته، إلى أنّ شخصية ميشيل كيلو كانت “أوسع من القضية السورية”، قائلاً بأنّ هنالك حاجة إلى أكثر من ميشيل كيلو واحد، ليس في سورية والمجتمعات العربية فقط، بل وأيضاً في بلدٍ مثل فرنسا. وأحال بورغا أهمّيّة كيلو هذه إلى عقلانيته وقبوله بالحوار حتى مع أطراف لا يتّفق معها، مثل الإسلاميين، الذين رأى أنهم جزء من المشهد السياسي.
من جهته، أضاء الكاتب السياسي راتب شعبو على تأثّر الراحل بالمفكّر السوري إلياس مرقص، منوّهاً أيضاً بما لامسه المشاركون السابقون من تحرّك كيلو، سياسياً وفكرياً، في منطقة قلّما يشغلها أقرانُه. منطقة يصفها شعبو بالـ”نو مانز لاند”، أو منطقة الـ لا أحد، أي تلك التي لا يعترف بها النظام ولا الإسلاميون، ولا حتى الجمهور، والتي تتميّز بالاعتدال والتعامل مع مختلف الأطراف بشكل ديمقراطي وعقلاني، وهو ما وضع كيلو في “أزمة ثقة” مع جمهور ونخبة سوريّين لا يتقبّلان فكرة الديمقراطية، ولا يؤيّدان إلّا مَن يبدي موقفاً متصلّباً ضد طرفٍ ما.
(العربي الجديد)