نحو مقاومة جديدة

0

د. سماح هدايا

كاتبة سورية

مجلة أوراق العدد 12

الملف

“الثورة هي التمرد الذي تحول إلى نظرية وإلى نسق”

أوكتافيو باث

تتطلّع الثورات لإنتاج نظرة جديدة للمستقبل بما يلائم أهدافها في قضايا الحريّات والحقوق والفكر والثقافة، وتطلق العنان للتغيير بإيجاد قوى وبنى جديدة مهيّأة لتغيير الواقع والمجتمع والنظام السياسي وفق هذه الأهداف؛ فماذا أنجزت الثورة السّورية بعد عقدٍ من الزمن من سياقات جديدة؟

الثورات لا تنتج التغيير المطلوب بعشر سنوات، فنضوج ذلك يتطلب وقتاً، لكنها تخلق تناقضات كثيرة وإشكاليات سياسية واجتماعية وثقافية وفكرية، تمهيداً لحقبة جديدة. وقد توعّرت الطرق أمام نجاح الثورة السورية في إسقاط النظام السياسي، بسبب الحرب المضادة والضعف الداخلي.

الحكم على الثورة السورية سلبا أو إيجابا يتطلب وقتاً ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار التضحيات العظيمة والجهود الكبيرة المبذولة في ظل حرب غير عاديّة وظروف إنسانيّة قاسية جدا.  صحيح أنّ أخطاء كثيرة وكبيرة حدثت وتحدث، لكنْ لا يمكن عزلها عن ظروف سوريا التاريخية والواقع الإقليمي والدولي.

الثورة السورية مثل كثير من الثورات العالميّة، قد حوربت وألحق بها الحروب الأهليّة والفوضى والاقتتال قبل أن تنجز مطالبها. القوى التمثيليّة للثورة لا تتحمل وحدها مسؤولية ما آلت إليه الأمور؛ فالتدخلات الدوليّة والحرب على الثورة على رأس قائمة المسؤوليّة، يتبع ذلك ما في المجتمع من انقسام، واستبداد، ثم ما ناله من استنزاف للطاقات وارتباك بسبب الحرب والجرائم المرتكبة.

انقسام

الثورة لم تبدأ بعملية التقسيم في سوريا كما يشاع؛ فلذلك تاريخ طويل ومعقّد. وقد نشأت الثورة في مجتمع منقسمٍ جداً، ويعجّ بالاختلاف والخلاف والتّباين وتنتشر فيه القيم المتناقضة والمصالح المتضاربة، استهلكته فتن التقسيم والعصبيات لتاريخٍ امتدّ أكثر من قرن، وقد أدركت الثورة منذ بداياتها حجم الانقسام وحدّته وأرادت تجنّبه؛ لذلك رفعت الشعار المقصود “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد“.

تحوّل الانقسام القائم في المجتمع إلى العلن وتموضع جغرافياً وسياسياً وثقافياً واجتماعياً في سلطات سياسية متعدّدة داخل سوريا، ولم تسلم أطراف المعارضة الدينيّة والحزبيّة والعسكريّة والثقافيّة من الانقسام والتناحر؛ فهي لم تتعاون وتعمل بتنسيق على مشروعٍ وطني مشترك؛ ولم تضع الاختلاف والخلاف جانبا من أجل بناء المستقبل. كما لم يتم تمكينها دوليا إلا لمصلحة ما، وظلت صلاحياتها أقل من صلاحيات منظمة دوليّة صغيرة.

سوريا منذ استقلالها عن فرنسا، عاشت اقتتالا سياسيا داخليا، ولم يدم فيها حكم وطني مستقل عن تدخل القوى الخارجية؛ فالاستعمار نظّم انقسامها الاجتماعي والثقافي والديني في جماعات حزبيّة متطرّفة بين يسار وعلمانية وقومية، ودينية، وفرّق بينها ليستمر نفوذه، وبدل أن يثمر التنوّع الثقافي التاريخي في سوريا، تحوّل لفتن عنصريّة وحرب كراهية وصراعات دموية مزّقت الشعب السوري وزرعت فيه الخوف والارتياب من الآخر، وجعلت القوى تتقاتل وتستقوي بدول خارجيّة وتعمل بما يخدم مطامعها، للوصول للسلطة وبسط النفوذ.

الانقسام على الأفكار والقيم والقضايا السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والأخلاقيّة سهّل وصول جماعة الأسد التي استخدمت العنف وتسلّحت بالدعم الخارجي للحكم والاستئثار به وتصفية الخصوم؛ وشق نظامها الطاغي طريقه باستغلال العصبيات وإثارة الفتن وصولا إلى الحرب الأهلية ضدّ ثورة الحرية والكرامة.

لا يمكن إنكار الظرف التاريخي الانقسامي قديمه وحديثه في تعويق الثورة، وما أوجده من عدم الاتفاق على مرجعيّة سياسية فكريّة، لكن، لا حل إلا التصدي للفكر التقسيمي بالتعاون والتضامن والعمل المشترك، فهو ضرورة للوجود وليس بخيار اعتباطي. التضامن حتى لا يكون الاختلاف طريقا لتقسيم الوطن الواحد ومجتمعه ومصيره، ولا طريقا للكراهية والعداوة والتحارب.

استبداد

الأساس في الاستبداد السياسي هو قمع الحريات والأفكار الخارجة على النظم السلطوية التي تخدم مصالح السلطة الحاكمة.

كانت شعارات الثورة ضد الاستبداد والاضطهاد والعنصريّة، وضد واقع اجتماعي فيه مظالم كثيرة، ومع ذلك استمر الاستبداد في المنظومات الجديدة للمعارضة من سياسية ودينية وثقافية وتعليمية وإعلامية وبالجماعات المتنفذّة والمموّلة، ولم تنشأ سياقات متطورة وناضجة ومتنوّرة، بل أضيف استبداد جديد، وهو الاستبداد بمقولات الحرية.

انهيار الواقع السوري بعد الثورة سببه هيمنة منظومة الاستبداد والفساد التي حفرها النظام الأسدي عميقا في المجتمع، ووقعت قوى المعارضة والثورة في فخوخها؛ فإشكاليّة الشرعيّة التي واجهتها أضعفت قدرتها على المساءلة التي تتطلب شرعيّة لا تملكها بسبب بقائها الرسمي بيد النظام الحاكم الطاغية، كما تقيّد في صفوفها الموقف النقدي الفردي لعدم وجود المناخ المناسب لنمو نظام اجتماعي قيمي متماسك يحمي حريات الناس وحقوقها في القضايا المصيرية والجوهرية.  ولعل قوى التمثيل السياسي للمعارضة والثورة التي هيمنت على المشهد لم تجد أمامها طريقا لتمكين سلطتها الهزيلة سوى الاعتماد على دعم الدول الخارجيّة وتمويلها، وهو ما شكك في مصداقيتها.

المرجعيات في المعارضة استمرّت تتصرف كأنّها تملك الحقيقة والحلول، تحاول احتكار المعرفة والتمثيل سواء بالدين أو الفكر أو السياسة أو الإعلام، ممّا أخّر ديمقراطيّة الأداء السياسي، وعرقل دخول دماء جديدة واعية وذات حس وطني ناضج لتطوّر عمل قوى المعارضة والثورة وتوسع قاعدته. المرجعيات السياسية التمثيلية للثورة أو العسكريّة أو القانونيّة لا تملك الحسم والحل في سوريا، فالأمر بيد الدول الكبرى والواقع الدولي. والممارسات المفروضة عليها بالتفاوض مع النظام وبمحادثات دستورية أمر عبثي لم يخدم الحل السياسي، بل شرعن نظام الأسد، وقد أثبتت الأيام وهن عملها وهدرها الوقت على جدول أعمال القوى الخارجيّة بدل العمل وطنياً على هيئة حكم انتقالي من الشخصيات الموثوقة.  

اما الأحزاب؛ فليس هناك أحزاب حقيقية؛ لأن الاحزاب تتطلّب عملاً جماعياً مبنيا على نظريّة وأفكار سياسية مشتركة، وتتطلب حالة ديمقراطيّة، فأين الدولة والشعب المستقران للعمل الديمقراطي؟

قد تنشأ أحزاب بهدف سد الفراغ أو الحصول على تمثيل في الائتلاف وحكومته، لكنها تبقى مصنوعة لمرحلة مؤقتة. الأحزاب المصنوعة لدخول انتخابات تحت مظلة النظام القائم باسم الديمقراطية، فلا علاقة لها بالثورة وبمطالبها الوطنيّة في الحرية والديمقراطيّة. هناك حاجة شديدة وملحّة للعمل على مرحلة جديدة تعيد النظر في الأشكال التمثيلة كلها والظاهرة في مشهد المعارضة الواسع، والعمل بتنسيق مشترك على أرض سورية واحدة وشعب واحد بتناغم مكوّناته الثقافية.

ارتباك وصدمة

الإحباط وفقدان الثقة من الصعوبات التي تواجهها الثورات ويؤخّر نجاحها. فالحرب التي أعقبت الثورة تهديم وتخريب. وليس بالسهل تقديم النظرة الجديدة والتغيير المنشود وسط الموت والجوع والضعف والخوف وانعدام اليقين والتّشتت وتداعي مؤسسات الدولة ووجود انتهازيين هنا وهناك؛ فالأولوية للسلّة الغذائية والخيمة ومياه الشرب والدواء والبقاء بأمن وسلام.

الصدمة والارتباك أمام فداحة الجرائم شغلت الناس والمنكوبين والمنخرطين في الثورة وشتّت قواهم النفسية والعاطفية في دوامة مآسيها وصراعاتها؛ مع كثرة الفئات الاجتماعية التي تضرّرت عاطفيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنياً وفقدت أبناءها. سوريون من رواد العطاء، عملوا من البداية لمساعدة اللاجئين والأيتام والمتضررين وتنظيم أمورهم المعيشية والتعليمية، لكنّ الأعباء كانت فوق قدرتهم. واستمر النازحون يواجهون الظروف القاسية والثلوج والسيول والبرد والحرائق والاعتداء والعنصريّة في خيم بائسة. المنظمات الدوليّة والجمعيات دخلت وعملت على الإغاثة والدعم النفسي والتعليم والتوعية بالحقوق الاجتماعية والتمكين وحماية الأطفال، وأفادت في ملفات كثيرة إنسانيّة وأسريّة وتشغيليّة صغيرة؛ لكنها لم تسلم من الانتفاع والتكسّب بمأساة الضعفاء، ولم تسلم من المصالح السياسية والأيدولوجيّة التي استغلّت العمل، ولم تتمكن من تقديم خدمات مستدامة وشاملة، وعرقلت ببرامجها غير المكتملة بناء مؤسسات عمل وطنيّة وإنسانيّة ناضجة فيها الشفافية والمصداقية والمساءلة. حتى الحراك الشبابي والنسوي الذي تميز بالنشاط؛ فمستقطب منها؛ أو ملاحق من الجماعات المتسلّطة المستقّوية بالخارج، أو عامل تحت مظلتها ووفق مصالحها.

 استنزاف واستقطاب

ّالحديث في الأشياء التافهة وإلهاء المنكوبين بها يعطي قيمة للهراء على حساب المهم والعظيم، وفي الوضع السوري فإنه جلب مزيد الاستنزاف والاستقطاب بصراعات تافهة وطموحات ساذجة؛ فتأخر بذلك نضوج الحلول العقلانية لمواجهة المظالم القائمة. فقاعة الإعلام الجديد عزّزت ذهنية التمرد المغرور على الضوابط الأخلاقية والدينيّة والسياسيّة والاجتماعية؛ فانتشر خطاب الأهواء الشخصية وتطرّفت الحريات الفردية التي استبّدت برأيها تحت مسمى الحرية وطغت على الآخر. ازدواجية وعبثيّة دعمها واقع الاغتراب المكاني وما رافقه من انهيار مركزية الوطن ومرجعيّته كشرعيّة.  

الاشتغال بتتبّع ما يعرضه الإعلام مكرّراً ومضلِّلاً من أفكار وأخبار مجزوءة وتحليلات منحازة، وما يملأ صفحات التواصل بقصص السوريين النافعة والعاطلة والانشغال الذهني بأحداثها وشخصياتها وأخبار أعلامها والدردشة في الموضوعات المستهلكة، أكبر من الوقت النافع والجهد المبذول في تأمل المشاكل والبحث عن حلول والتعاون للعمل عليها. الإعلام نما، مثل سوق جديدة، ودعم ملفات مهمة مثل المعتقلين والمعنّفين والمهجرين والقاصرات، وأسهم في التوعية بمفاهيم العدالة والدساتير، لكنّه بدأ وظل رهين الأجندات السياسية مرتبطاً بالسوق السياسي وما يحتاجه، وقد استنزف العقل السوري بخطاب الشعبوية والخصومة. هذا الاستنزاف لا ينفي جود تجارب عمل فردية رائعة سوريّة خارج إطار الاستقطاب تاقت للانعتاق من التفاهة والتدجين وعملت بالعلم والتفكير وتميّزت في واقعها.

عندما يفكر الناس بعقولهم ويعملون بها، ولا يندفعون للعمل بأهوائهم؛ فقد ينجون من شرك الاستقطاب الذي يستزف الجهود والعواطف والأفكار ويستطيعون تمييز القصص والأخبار الحقيقيّة من القصص الخاطئة والأخبار المزيفة.  

الألم الكبير تطهير كبير

الغرق يجعل الانسان يتعلق بأيّ شيء حتى ينجو، ولو بقشة. تمسّكَ السوريون الأقوياء بالأمل، وأضاع الضعفاء البوصلة… الأمّل ولّد بالألم العميق تجارب إبداع. فظهرت أعمال فنيّة كثيرة وجميلة من أفلام تسجيلية وتوثيقيّة وموسيقى وغناء وقصص وأشعار وأهازيج ونحت وكاريكاتير وجداريات، كلّها أبدعت من ظلمة المحنة. هذه المبادرات الإبداعيّة التي تحدّت بإبداعها الحرب والظلم والاستبداد، مغموسة حتى الجذور بالفعل العاطفيّ والإنساني، هي قطرات أولى في هطل الإبداع، تستحق التوقف عندها للبحث والدراسة. وحتى تنمو فنّياً، فتحتاج فكرا ونقدا جديدين يدعمانها ويرقيان خطابها.

الإبداع لا يكفي فيه الألم وصدق التجربة، لابد من كسر حاجز التقليد كاملاً، والتخلّص من هيمنة الحزبي والأيديولوجي وترك المجال أمام أصالة العقل للتفكير والتّخيّل والتجديد. عمليّة الإبداع الفني المميّزة في الثورة السوريّة ستتطوّر بتطوير الفكر والقيم وصياغة آليّة نقديّة ملائمة للمفاهيم الجديدة، وسينعكس التأمل التحليلي في تجارب الإنسان السوري خلال الثورة والحرب إيجابا في الرؤية الفنيّة.

خاتمة

الثورة بدأت وتستمر. ما حصل عبر السنوات العشر كان قاسيا وعنيفا يجب التعلّم منه والخروج بتجربة جديدة إلى مطالب سياسية واجتماعية وثقافيّة وقانونية. ولا يعني أن يكون هناك تطابق في الآراء لدى الجميع وشمولية في التفكير والرؤية، بل يعني التعاون والتآلف والعمل لردم الكراهية والنزاع والاجتماع على مشتركات إنسانية مهما كان الاختلاف دفاعا عن الوجود.

إعادة النظر بقيمنا، باختلافنا وتشابهننا، والتجهّز لمرحلة جديدة في الثورة وخلق نماذج جديدة بديلة.  التحولات قد لا تكون واضحة الآن بالشكل الإيجابي، لكنها ستحصل وستغيّر الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والقانوني.