د. أديب حسن، شاعر وناقد كردي سوري
مجلة أوراق العدد 13
سرد
الطريق ممهدة نحو اللحظة الفارقة، هناك حيث سيتركان كل شيء خلفهما، الحقيقة العارية تستحق أن تتنفس قليلاً، والوجوه الحقيقية تعبت من الأقنعة التي ترتديها، حان وقت الريح، هما الآن غيمتان في مهبها، الأكف متشابكة، والسيارة تقطع الدرب الطويل كحصان ينهب المسافات نحو حلم يلّوح، لأول مرة يستسلم بهذا القدر من الطمأنينة لامرأة تقود السيارة بمهارة واحتراف، ذلك يعطيه فكرة عما سيحدث إذا استبدلت السيارة بالسرير.. أي جنون في انتظاره؟
هذه الأرض منذ فجر التاريخ تتحارب على لحظة كهذه.. كل القادة والأباطرة، العلماء والنساك، الفلاسفة والرعاع، كلهم يعيشون للحظة كهذه..
العروش تسقط لأجل امرأة، والحروب تشتعل لأجلها، وأجمل الروايات والقصص والقصائد تكتب بها ولها، ولا تكتمل أسباب السعادة إلا معها، هي الزاوية الثالثة في مثلث المال والسلطة، وقد يتصادف وجود بشر من أمثاله لا تغريهم السلطة ولا يطربون لكثير المال بقدر شغفهم بلحظات الكشف الأنثوي، لا متعة تعادل متعة الكشف: أن تلفحك أنفاس امرأة لأول مرة، ويسري في جسدك سحر لمستها الأولى، وقبلتها الأولى.
تحدثه دون تكلف عن عشقها للطبيعة، وأنها تحلم بلذة لا نهائية في أفق مفتوح، دبيب الغزلان المستفزة في كل أنحاء جسدها يصل مسامعه بوضوح، ورائحة الورد البري تفوح وتوقظ في روحه أسراب الفراشات، ولمسة أصابعها النائمة كعصافير مطمئنة في عش كفّه تعلو وتهبط مع كل خفقة في قلبها، على هذا الطريق الطويل سيرسمان محطاتهما المنهكة في هذه المدينة، هي توزّع خيباتها على يمين الطريق مرة تحت جذع شجرة ومرة تحت جسر ومرة في عمق الصحراء التي تلوح برملها بين حين وآخر، كل انتظاراتها، كل الليالي التي بكت فيها في غرفة صغيرة موصدة بإحكام لا تسمع فيها صوتاً سوى أنين الشهوة من غرفة أختها، ونباح الكلب الصغير، كل يدٍ ميسورة امتدت لتقطف بعض ثمار جسدها اليانع، كل الرسائل الصوتية المملوءة بالخيبة من أب بعيد وأمّ متصابية، وأخوة في مهب الضياع، كل ألم لا ينفع معه سوى الصراخ في غيبة الدواء والطبيب..
أما هو فيطارد الغيوم القليلة المتفرقة في السماء، فلكل غيمة حكاية، وروحه نفسها غيمة عالية تمشي بعيداً عن أرض جسده المتشققة عطشاً، كل أحلامه بقت غيوماً، لم تتعب من مسيرها الطويل، ولم يغرها شيء بالهطول.
وكعادتها اختارت هذه المرة ببراعة أيضاً مكاناً مغرياً للاستكشاف، ممرات لولبية طويلة مفروشة بسجاد فخم تفضي إلى غرفة فاتنة تتوزّع الأشياء فيها بأناقة وبساطة، لا أضواء مبهرة، ولا أصوات، السرير المزدوج بملاءاته المرتبة البيضاء هو اللوح الذي سيمضيان بقية الليل في الرسم عليه بألوان الشهوة العصية على الإدراك، هنا سيتحاور الغيم والريح، وهنا ستولد البروق، وهنا ستستعاد قصة الخلق، واللذة البارقة في سماء العبث الوجودي،
لكل منهما رغبته في هذه الليلة الفريدة، كلاهما ناضجان بما فيه الكفاية، لم يجدا سوى ما يظهر في المرايا من هيئاتهما، وكلاهما في توق إلى الكشف العظيم عن الحقيقة العميقة العصية على الأفول، الكَتَبَةُ لاشك في توق أيضاً لتدوين ما سيحصل وأقلامهم متحفزة بعد عطالة طويلة، ولكن.. من أين يبتدئ الجسد مسراه وقد امتلأت الغرفة بالرحيق؟
فيما تذهب لتأخذ حمامها المعتاد، يجلس هو على حافة السرير منصتاً للموسيقا التي بدأت تنبعث من جنبات المكان، نايات ودفوف وأصوات دبيب أرجل نسوة وزغاريد ورنات خلاخيل وأقراط ثم صوت آدمي يخرج من مكان بعيد، يحمل في طريقه غموض الصحراء ودفقة البحر، وكأنه موكب تختلط فيه الرغبات وتتوزعه الذكريات الغزيرة التي بدأت بالتدفق من كل حدب وصوب.
لا شيء يوقف ذلك الهذيان سوى خروجها من الحمام، وجلوسها شبه عارية على السرير، كأنها طلع السماء وتفاحة الخلود وفلقة قمر قسنطيني يضيء عتمة السنوات الثقيلة ما قبل هذه الإشراقة، ذلك النور الذي لا يضيء فحسب، بل يلكز أحصنة الجسد ويشعل حاسة الركض في القوائم العطشى لنهب المسافات.
وحدهما الآن في المعراج الفريد، وحدهما يتحدان كتلة لهب على ذلك البياض السانح، يحسدهما البحر المتلصّص من النافذة والملاءات التي تئن من تحتهما حسداً، وكلما احتدم الصعود سقطت على جنبات السرير كل الأقنعة:
جوازات السفر، صور الابتسامات القتيلة في المطارات، وجوه الناس المتناسخة، البلاد الحائرة بين موت وموت، الأهل المتلذذون بمشهد الضعف، سلوى، وماجد، والمدير، رائحة العطر الرخيص في سلالم البناء، الأعلام والرايات، المحاليل المعلقة في المشافي، الصرخة الأولى في افتتاح بكارة الحياة والأخيرة في توديع قذاراتها.
لا شيء يتعب في ذلك الخضم، لا الجسدان المتضافران في لهب التوق، ولا النافذة التي استأجرها البحر للتلصص، ولا الملاءات التي انتظرت طويلاً من يعبث بهيئتها المعتادة، ولا الموسيقا التي تختلط فيها أصوات الينابيع الجبلية بصفير الريح الصحراوية وهدير الموج الغجري على الشواطئ الآبدة للشمال الأفريقي، ولا صوت قرع النادل المتكرر على الباب بين حين وحين، ولا المرآة الكبيرة التي تستعيد شيئاً من الهذيان الطافح في تلك البرهة الرجراجة.
للجسد ملكوته وأسراره، فيه من الغموض الذي يغري بالكشف أكثر من الهيئة التي نراودها بيقين زائف، الجسد ليس ما تخفيه الثياب من تضاريس وعلامات تغوي العين البشرية، الجسد بوابة الكشف، وفي هذه الليلة دخلا من بابه إلى ما لا يعرفان من عوالم، في الأنين المتماوج خافتاً مرة كهديل حمامة بعيدة، وهادراً مرات كهبوب ريح تقتلع كل شيء في طريقها، تضيء الأرواح بأحجار الشهوة الكريمة، وتتكشف التفاصيل الصغيرة في المدن الغجرية الفاتنة المفتونة، فلا عجب والحالة هذه أن تطير النوارس القسنطينية في سماء اللحظة، وأن يرسل الرمل غانياته الحسان لتعزفن بأقدامهن العارية اللحن الفاتن الذي يهيّج قطعان الغيم في سماوات الروح.
* فصل من رواية مخطوطة لم تنشر بعد عنوانها: قيامةُ جميلة