حين دخلتُ “مقهى ومطعم اللاتيرنا” في دمشق لأولِ مرّة؛ لاحظتُ جناحاً مُنفَصِلاً في يمينٍ مَدخَلِه؛ وحول طاولاتهِ مجموعة من الكتاب والفنانين؛ عرفتُ منهم: شوقي بغدادي – خيري الذهبي – عزمي مورللي – ونبيل حفّار.. وآخرين.
كنتُ أنا وصديقي على موعدٍ مع ممدوح عدوان في الداخل؛ وحين انتهى لقاؤنا بالعُدوان الممدوح كمَا أطلق عليه حسيب كيالي!؛ كانت شُلّةَ “جلسة الاثنين” قد غادرَت؛ فتربّصتُ بها في الاثنين الذي يليه؛ وانضمَمتُ إليها.. قادماً من حلب كلّما استطعتُ ذلك؛ حتى باعَ “آل قصّاب حسن” المكانَ لأحد الأثرياء الجدد.. فحَوَّلَهُ إلى مطعمٍ بسبعة نجومٍ نهاراً؛ وإلى ديسكوتيك صاخبٍ.. حتى مطلع الفجر؛ فتفرقت شُلَّة الإثنين بين المقاهي؛ حتى التقيتُها مرَّةً ثانيةً بعد ربيع دمشق عام 2001 تتجمَّعُ في “مقهى الروضة” ثم تذهبُ بِمَن حَضَرَ.. إلى “نادي الصحفيين” في “طلعة العفيف” أو إلى “نادي المُحاربين القدماء” قِبَالَةَ “حديقة السِبكي”؛ بعد أن غادرها جسداً.. عزمي مورللي.
ثمّ تصادَفَ لقاؤنا مَرّةً؛ مع أولِ اعتصامٍ علنيٍّ للأكراد السوريين أمامَ ما يُسمَّى “مجلس الشعب” بُعَيدَ “انتفاضة القامشلي” للمُطالبة بحقوقهم؛ وبإطلاق سراح المعتقلين.
كان الطريق من “بوابة الصالحيّة” وحتى التقاطع مع “شارع العابد” حيث المقهى.. يَعُجُّ بسيارات و “ميكروات” الشرطة؛ وبرجال أمنٍ.. بلباسِهم المدنيّ.
سيتساءل الآنَ.. قارئٌ ما:
– كيف عَرَفتُ بأنهم أمنيُّون.. برَغمِ لباسِهِم المدنيّ؟!.
فاُجِيبُهُ.. ضاحكاً:
– كان كلُّ السوريين يعرفونهم.. من لباسِهِم المُوحَّد “طقم رجالي رصاصي/حديديّ اللون” من إنتاج “شركة وسيم” للأناقة البعثيّة/الأسديّة؛ التي كان السوريون يشترون منها “طوَاعِيَةً” صداري “طلائع البعث” وبدلاتُ الخاكي المُوحَدَة “الفتوة”؛ واللباس الجامعي المُوحَّد.
لم يكن قد مضت ثلاثة أعوامٍ على توقيعنا على “بيان ال 99” مثقف سوري؛ ثمّ على “بيان الألف” الشهيرين؛ وقد طالبنا فيهما بإلغاء المادة 8 من الدستور التي تنُصُّ على أنّ “حزب البعث هو الحزب القائد للدولة والمجتمع”؛ وبتعليق قانون الطوارئ؛ كما بالحرية السياسية في تشكيل الأحزاب خارجَ جبهة الأحزاب الأسدية المُسمَّاة “الوطنية التقدمية”؛ وبحريّة الصحافة مع تعديل قانون المطبوعات بما يضمَنُ هذه الحرية؛ كما بإلغاء كلِّ التشريعات التي تعتبر المرأةَ السورية مُواطناً من الدرجة الثانية.
ثمّ فاجأتنا “انتفاضة القامشلي” وبخاصةٍ.. بعد مُحاصَرَة “ربيع دمشق الأول” وإغلاق مُنتدَياتِه؛ واعتقال أبرز الناشطين فيه؛ وبخاصةٍ.. الذين وقعوا على إعلان “دمشق” ثمّ على “إعلان دمشق – بيروت”؛ وكنتُ من المُستنكِفين عن التوقيع على البيانين الأخيرين؛ لأنَّ أولهما.. كان يُعِيدُ إنتاجَ تحالُفِ يسَاريِّي رياض الترك مع الإخوان المُسلمين للمرَّة الثانية على التوالي!؛ ولأنَّ البيان الأخيرَ.. قد حازَ على بركات البطريرك الماروني “صفَير” في لبنان.. حتى قبل نشر مُحتواه!.
المهم.. أننا وصلنا بصعوبةٍ إلى المقهى فجلسنا بانتظار أن يكتمل عددنا؛ ثمّ حدثت ضجة طارئة؛ حين فرّقوا اعتصام الأكراد أمام البرلمان بالقوة؛ فالتجأ بعضُهُم الى المقهى ” مُندَسِّين” بين رُوَّاده؛ ثم دخل عقيدٌ في الشرطة ومن ورائِه الأمنيّون بلباسهم المُوحّد.. باحثين عمَّن توارى؛ امتدت يدُ أحد المُخبرين لتدُلَّ العقيدَ إلى طاولتنا وما فوقها من جرائدنا ومجلاتنا وبعض الكتب؛ حتى لكأنّ لسانَ حالِ المُخبِر.. يقول: – هدول مسَقَفِينُ.. يا سيدي!.
اتجه عقيدُ الشرطة نحونَا طالباً هويّاتنا الشخصية؛ فانتهزتُ فرصة تأمُّلِهِ لكلِّ بطاقة؛ بحثاً عن أماكن الولادة التالية: عفرين؛ القامشلي؛ عامودا؛ ديريك.. الخ؛ فأخذتُ أُعرِّفُه على حضراتنا:
- عضو اتحاد الكتاب العرب – جمعية الترجمة؛ عضو اتحاد الناشرين؛ صحفي في القسم الثقافي لجريدة البعث؛ عضو نقابة الفنانين التشكيليين.
ثمّ كانت بطاقتي بين يديه.. فسألني مُتبسِماً: – وحضرَتُكُم؟.
فأجبتُه مُبتسِماً: – عضو جمعية القلم الدولي!.
هَزَّ العقيدُ رأسَه.. وأعاد بطاقاتِ هويتنا؛ ثمَّ غادر المقهى ومِن ورائِهِ الأمنيّون الذين ما أن مضَت خمسُ دقائق حتى عادوا فأحاطوا بنا؛ انحنى أحدُهُم هامساً:
- تفضلوا معنا.. بهدوء؛ وبلا شَوشَرَة.
فتفضّلنا.. وخلفَ كلِّ واحدِ منّا؛ مُخبِرٌ يُمسِكُ بتلابيب جاكيتاتنا؛ وعند باب المقهى.. التقيتُ الفنانَ التشكيليّ الكرديّ نهاد الترك داخلاً إليه؛ لم يلحظ بأنّ جاكيتي “قُدَّ مِن دُبُرٍ” فسلّمَ عليَّ بحرارةِ الصديق؛ ضبَطَه الأمنيُّ الذي ورائي: – هويتك..
ثمّ وهو يُقلِّبها: – نهاد الترُك.. أها؛ شو بيِقرَبَك رياض الترك؟.
ردَّ نهاد لتوِّهِ.. مُبعِداً التُهمةَ عنه: – ما بيقربني.. أنا كردي.
- إي.. أهلين.
ثمّ دسَّه معنا في أقرب “ميكرو” للشرطة؛ حتى لمحتُ شوقي بغدادي يمشي مُتمهلاً نحو المقهى حيثُ لقاؤنا؛ فتمنيتُ لو أنه يُشاركنا هذا “السِيرَان” الأمنيَّ الفاخر؛ أشرتُ لعُنصرِ الأمنِ نحوَه:
- الأستاذ شوقي معنا.. هاتوه.
وقبل أن يستوِعبَ الأمنيُّ طلبي؛ طغى صوتٌ بالإنكليزيّة الأمريكيّة وهم يدفعون شخصاً إلى داخل الميكرو:
- أنا مُصَوِّر السفارة الأمريكية.. أنا دبلوماسي.
وهو يُشِير الى بطاقته الصحفيّة.. مُلوِّحاً بها وبخِتمِ السفارة؛ مُحاوِلاً ألّا يدخل “الميكرو” ليصيرَ “خرّيجَ حبُوس” مثلَنَا.
قلتُ لعنصر الأمن:
- للديبلوماسي حصَانة.. فكيف إذا كان أمريكياً!.
ردَّ عليَّ الطَقمُ الرصاصيّ المُوَحَّد: – كول خرا.. إنت.
نظر المُصوِّر الأمريكي إليّ مُتعاطِفاً؛ فتأكدتُ بأنه يعرِف معنى كلمة “خراء” العربيّة الفُصحى؛ ثمّ جاءت بَذلَةٌ أمنيةٌ أعلى رتبةً؛ فأخذت تجُرُّ الأمريكي الذي كان يُصوِّر اعتصامَ الأكراد.. إلى سيارة “بيجو ستيشن” بيضاء اللون؛ فحشَرَتهُ داخلها بالقوة.. وانطلقت به على الفور.
التفتُ نحو نهاد الترك: – إذا الأمريكي ما نَفَد منهم.. كيف رَح ينفُد كردي من آل الترك؟!.
ثمّ تابعتُ مُزَاحِي معه داخلَ كراكون مدرسة الشرطة في القابون:
- ضروري تقول: أنا صناعة كرديّة تطبيق التُرك؛ قُول: تطبيق تايوني.. ماليزي.
وكانوا قد صادروا “موبايلات” الذين قبلي؛ فأطفأتُ جهازي “النوكيا” العتيق؛ من الرعيل الأول؛ وحشرته في جُرَابي تحت ساقِ بِنطَالي؛ فلمّا صِرنا في الكراكون وجلسنا مُتربِعِين على “طرَّاحاتٍ” إسفنجيّة شِبهِ قذِرَة.. ظلَّ رجلٌ في الستين من عُمرِه يذهب الى أقصى الكراكون ويعود.. برَبطة عٌنقٍ أنيقة وبذلةٍ إيطاليّة فاخرة؛ حتى قال لي صديقنا البرغوثي:
- زَوَّغ نظَرنا.. رايِح جَاي.. جَاي ورايِح.
قلتُ وأنا أنهض نحو الرجل: – مُتوتِر لأنهم اعتقلوا موبايله.
ثم أخذتُ أمشي بجانبه ذهاباً فإياباً.. حتى أحسَّ بأنِّي أُقلِّدهُ؛ فتوقفَ عن الحركة؛ مَددَتُ له يدي مُصافِحاً: – أنا فلان الفلاني.
صافحني مُتبسِماً برَغمِ توتره؛ ثمّ أضاف:
- وأنا فلان.. سفيرٌ سابقٌ في وزارة الخارجية.
أجبتُه: – ليسَت مُفاجأة؛ فقبلَ ساعةٍ اعتقلوا ديبلوماسياً أمريكياً قبلك!.
هَزَّ رأسَهُ: – يا لَحَماقَتِهِم؛ سيُجبِرونَ وليد المُعلّم أن يعتذِرَ لمادلين أولبرايت.
همستُ له: – هل تريد موبايلاً؟.
فانتفخَت عيناه من الدهشة: – يا ريت..
سحبتُ موبايلي من مخبئه؛ فتَحتُهُ؛ كان ثمَّة إشارتا استقبالٍ للبثّ الخليويّ: – ستكفيانِك.. تفضّل.
وبلهفةِ طفلٍ لقطعةِ حلوى.. تناوله من يدي؛ ثمّ أخذ يتذكّر رقمَ هاتفٍ ما؛ وبعد عشر ثوانٍ؛ قال مُبتهِجَاً: – صباح الخير.. أستاذ فاروق.
فخَمَّنتُ بأنه “فاروق الشرع” وأنه مُستعِدٌ للرد الفوريِّ على أيّ هاتفٍ يأتيه بسبب الضَجَر فقط!
أخذ السفير السابق يشرح له كيف اعتقلوه مثلنا من مقهى الروضة:
- سألني أحدهم: – أنت مولودٌ في القامشلي.. ما هيك؟؛ لم أفهم ما علاقة هذا.. باعتقالي؟!.
ثمّ كأنّ الأستاذ فاروق قد طَمأنَهُ؛ فنكَزتُ السفيرَ السابق في كتفه.. هامساً: – قُل له.. واعتقلوا معي كتاباً وصحفيين.
فأخذ يسرد له أسماءَنا ثمّ أنهى المُكالمة بعباراتِ الشُكر لسيادته؛ أعاد لي الموبايل وكأنه أزاحَ صخرةً عن كتفيه؛ فهمستُ له:
- هل تعتقد بأن نائبَ رئيسٍ وبلا صلاحيات؛ يستطيع أن يفعل شيئاً؟!.
- طبعاً.. بالتأكيد.
بعد نصف ساعة.. جاء مُساعِد أول؛ وبيده ورقة.. يقرأ منها أسماءنا: – تفضلوا معنا.. يا أساتذة.
فالتفتَ إليَّ السفيرُ السابق مَزهُواً.. بما فعل؛ ثمّ استردّينا بطاقات هويّاتنا؛ واستردّ أصدقائي موبايلاتهم؛ بعد أن سجّلوا أرقام هواتفنا.
بعد أسبوعٍ رنَّ موبايلي:
- نجم الدين سمان
- نعم.. مين معي.
- المساعد أول قُصَيّ من فرع المنطقة.
- أهلا وسهلاً.. خير.
- غداً.. الساعة 11 لديك مُراجعة في الفرع.
فذهبت.. ثم أدخلني المُساعِد أول ذاتُه إلى غرفة مكتب؛ نهض أحدهم ماداً يده: – العقيد حسن.
فتساءلتُ في نفسي.. عن هذا التهذيب المُفاجئ؟!.
وبعد أن جلستُ قبالته.. سألني:
- ماذا كنتَ تفعل في مقهى الروضة يومَ اعتصام الأكراد.
- كنّا في موعد جلستنا الأسبوعية.
- جلسة.. أسبوعية.. هاها؛ ومنذ متى تلتقون؟!.
- منذ أكثر من 25 عاماً.
فلمَّا رأيتُ دهشتَه.. عاجلته:
- معقول أنكم لا تعلمون بجلساتنا.. حتى الآن؟!.
فتمالك دهشتَه مُتفادِياً سؤالي: – ماذا تحكون في هذه الجلسات؟.
- عن الأدب والفن؛ وعن النساء.. طبعاً؛ لكن اثنين منّا دخلا سنّ اليأس.. فأخذا يتذكران الشعرَ العُذريَّ بغزارة.
قال مُفاخِراً بذكوريّته: – الرجل لا يعرف سنَّ اليأس.
فانعطفتُ بالموضوع: – وماذا عن الصفحيّ الأمريكي؟.
هزَّ رأسه: – كانت غلطة عُنصر حِيوَان؛ لفلفنا الموضوع أخيراً.
ثم أخذ يشرح لي كيف اختلفَ تعاملُهُم مع الناس في عهد السيد الرئيس بشار الأسد؛ مُشِيراً بيده نحوي حتى كادت أصابعه تدخل في عينيّ: – شايِف.. كيف نتعامل معك؟!.
- شايِف.. الله يعطيكم العافية.
ثمّ خَتَمَ بالعبارة المُعتادَة وهو يُصافحني: – لا بدَّ من إغلاق المَحضَر؛ ولهذا استدعيناكم؛ أنتَ رجلٌ وطني؛ وتُحِبّ بلدك.
ثمّ ضغط على يدي بقوة: – لكنك تُشاغِب كثيراً؛ خفِّف التوقيع على البيانات الطنّانة الرنّانة التي تضرُّ ولا تنفع؛ السيد الرئيس مُنفتِح على الجميع؛ ويستمع للجميع بشفافية.
فتذكرتُ كيف سحبوا مقالتي “رحلة إلى جزيرة شفافستان” في اول عددٍ لجريدة “الدومريّ” من المطبعة في الساعة الثالثة ليلاً!.
وختم العقيد حسن: – أنا واثق بأنك ما أن ترى شيئاً يَضُرُّ بسُمعة البلد؛ حتى تُخبرنا به.
قلتُ ساخراً وأنا أنهض مغادراً مكتبه: – جلستنا الأسبوعية يوم الإثنين القادم في مقهى الروضة.. فلا تدعوها تفوتُكُم هذه المرَّة!.
*خاص بالموقع