أين المثقفون السوريون الأحرار.. ممّا يجري؟!.
ذاك تساؤلٌ يتكَرَّر على صفحات التواصل الاجتماعي السورية.
ويبدو الاعتقادُ العامّ السائدُ والمُكرَّس طوال السنوات الماضيات من عُمر الثورة السورية بأنها ثورةٌ.. بلا قيادات؛ ثورةٌ.. بلا مثقفين، بل إن كثيرًا من الآراء.. قد سَخِرَت من المثقفين الأحرار ومن دورهم -على الطريقة الأسديّة البعثيّة المخابراتيّة الشعبويَّةِ إيَّاهَا- أعني بالمثقفين: الكٌتَّاب والمُفكّرين والفنانين والإعلاميين وأصحاب الخبرات التقنيّة.
بينما لا يُمكِنُ وَصفُ الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني.. بأنها كذلك، فقد كانت ثورةً لها قياداتها؛ وبعضُهم.. شخصياتٌ كارزمية كياسر عرفات وجورج حبش وسواهما، ولها مؤسساتها القياديّة: منظمة التحرير الفلسطينية التي ضمَّت جميعَ التيارات الأيديولوجيّة الفلسطينية آنذاك، وانتزعت اعترافًا دوليًا بها، كما كان لها جناحُها الثقافيُّ المُميَّز، وقد لعب دورًا أشملَ بكثير من دور البندقية؛ عابرًا الحدود والعوائق السياسية الدولية؛ مُخاطبًا الرأي العامّ العربيَّ والعالميّ.
سيُقال بأنّ للثورة السورية تمثيلُها السياسيّ: المجلس الوطني، ثمّ الائتلاف؛ بل.. وتمثيلها التنفيذي: الحكومة المؤقتة، وقد حصل الائتلاف أيضاً.. على شبه اعترافٍ دوليٍّ من دول أصدقاء سوريا.
بعيدًا عن السؤال السياسيّ نحو السؤال الثقافيّ.. سنجد بأنّ الثورة الفلسطينية ومؤسساتها قد أولَت الثقافةَ اهتمامًا جديًا إلى جانب البندقية والعمل السياسي، فاستقطبت دائرة الثقافة والإعلام في منظمة التحرير أغلبَ المثقفين الفلسطينيين، وتمَّ إنشاءُ مركز أبحاثٍ من أهمِّ المراكز العربية: مركز الدراسات الفلسطينية، وإنشاءُ مركزٍ إعلاميّ صار وكالةَ أنباءٍ مُعتمَدَة عالميًا: وكالة وفا؛ ومجلاتٍ.. كان من أبرزها سياسيًا: مجلة الهدف؛ ومن أبرزها.. ثقافياً: مجلة الكَرمِل التي ترأس تحريرها محمود درويش.
لهذا استشعرت إسرائيل بالخطر من تراكُم الفعل الثقافيّ/ الإعلاميّ للثورة الفلسطينية؛ فقامت قوة “كوماندوس” خاصة.. باغتيال غسان كنفاني وكمال عدوان ورفاقهما في “عملية شارع فردان” ببيروت. وكان أولَ ما فعلته لحظةَ احتلالها لبيروت فيما بعد.. أن استولت على وثائقِ “مركز الدراسات الفلسطينية” ونقلتها إلى تلِّ أبيب!.
كما أنَّ محمود درويش وإدوارد سعيد وسميح القاسم وإميل حبيبي وغسان كنفاني وأحمد دحبور وسواهم من لائحةٍ ثقافيةٍ طويلةٍ جداً؛ قد أقلقوا إسرائيل كثيرًا؛ كما أقلقوا الأنظمة العربية التي طبّقت سياسةَ احتواءِ الثورة الفلسطينية؛ ولاحقًا باحتواء الثورة السورية!.
سيُقال.. ليسَ بين الشعراء السوريين الأحرار واحدٌ في قامة محمود درويش، لكنّي أقول بأنّ محمود درويش الذي بدأ بقصائد شعاراتيّة من مثل: سَجِّل أنا عربي؛ قد كَبُرَت قامته داخل الثورة ذاتها.. بل داخل مؤسساتها.
لم يبتكر محمود درويش ثورةً لشعبه.. بل إنّ الثورة قد ابتكرته، وما أنجزه شخصياً وبامتياز.. أنه قد ابتكر ثورته الشعرية الخاصة به؛ داخل ثورة شعبه.. وفي سياقها.
هل أتاحت الثورة السورية؛ وبخاصةٍ.. مؤسساتها؛ للمُبدِعين السوريين بعضَ ما أتاحته مُنظمةُ التحرير الفلسطينية لمُبدعيها؟!.
لا أعتقد بأنَّ هذا؛ أو شيئًا من هذا.. قد حصل طوال السنوات الماضية. فما تزال علاقة السياسة بالثقافة، علاقة السياسيّ بالمثقف.. مُلتبسَة لدى ما يُسمّى بالمعارضة السورية، وهي العلاقةُ المُلتبسَة ذاتُها ما بين المثقفين وبين النظام الأسديّ الاستبداديّ التي ثار عليه السوريون، وكأنّ المُعارضة السورية ترى كالنظام الأسديّ ذاته.. بأنّ المثقفين مُجرَّدُ مُلحَقِينَ بها؛ مُطَبِّلينَ لها، أو.. فليأكلهم النسيان!.
لديَّ من الأمثلة والقرائن.. ما يكفي للقول بأنّ المُعارضة السورية؛ وبخاصةٍ.. الائتلاف وحكومته المؤقتة.. قد استبعدت المُثقفين السوريين تمامًا؛ عن جَهلٍ فيها؛ أو.. عن سابقِ قصد!.
حتى القِلّةُ القليلةُ جداً من المُثقفين الذين ضَمَّهم الائتلاف قد أصابتهم عَدوَى “عقلية الدكاكين” السائدة فيه وفي سواه؛ ومن ذاك.. أن يحصل مُثقفٌ بينهم على تمويلٍ لمجلّةٍ ثقافية.. فيجعلها مجلّتَهُ الخاصّة به “دكّانته”؛ صامتاً حتى بعد انسحابه من الائتلاف عن المُطالبة بمنبرٍ ثقافيٍّ عامٍ لزملائه؛ وحتى.. بمجلةٍ مثل “الكرمل” الفلسطينية؛ ما دُمنا في حقل المُقارنة ما بين ثورتين.
ويحصل إعلاميٌّ في الائتلاف على تمويلٍ فيُنشأ موقعه الالكترونيّ الخاصّ به “دكّانته”، مُتغاضيًا عن مكتبٍ إعلاميّ في ائتلافه.. يعجّ بالموظفين وليسَ بالإعلاميين، مُتناسيًا ضرورةَ انشاء وكالة أنباءٍ للثورة السورية تُقدّم الخبر المُوثَّق الموثوق به، تاركًا هو وائتلافه لكلّ من هبّ ودبَّ.. أن يُنشأ منابرَ تخلِط ما بين مُصطلحَي الثورة والمُعارضة؛ كما بين الجيش الحرّ وفصائل القاعدة وإخوة المنهج.. الخ، في حين أنّ السياسيين في المجلس الوطني والائتلاف وفي حكومته المؤقتة.. يرون في المكتب الإعلاميّ ما يراه رئيسُ بلديةٍ صغير؛ من حيث ينشر صورَهم وتصريحاتِهم فقط، ثمّ ليذهب العملُ الإعلاميُّ إلى الجحيم؛ وإلى الفشل الذريع في إيصال صوتِ الثورة السورية الى الرأي العامّ العربيّ والدوليّ.
كما لم تضمّ الحكومة الائتلافية المؤقتة وزارةً للإعلام؛ ولا وزارةً مُزدوجة للإعلام والثقافة معاً؛ بل.. تمَّ إلحاقُ الثقافةِ بالشؤون الاجتماعية وبشؤون المرأة والرياضة والشباب، ولم تُكلّف نفسيهما وزيرتان مُتواليتان جُهدَ الالتقاءِ بالمثقفين السوريين المُتوَاجِدين في تركيا؛ بل حتى بالمُتوَاجِدين في عينتاب مَربَطِ حكومتيهما المُؤقت!.
عَيَّنَ أحمد طعمة 9 مستشارين.. لا يُستشارون بشيء؛ على مبدأ الدِكنجيّة والمُحَاصَصَة في الائتلاف؛ كان من بينهم مُستشارة ثقافية لم يلتقِ بها أو يستمع لها.. سوى مرةٍ واحدةٍ طوال عامٍ ونصف!.
لن أُكمِلَ في ذِكرِ كلِّ الأمثلة؛ لأنَّ أغلبَها.. دليلٌ على استبعاد المثقفين تعسفيًا من مؤسسات الثورة؛ وعلى تركهم في العَرَاء والمُعاناة وعَسف الحاجة؛ سواءً في الداخل السوري؛ أم.. في بلاد التغريبة.
وصل عدد الموظفين في المكتب الإعلاميّ للائتلاف إلى 42 موظفًا ليس بينهم.. إعلاميّون مُحترفون؛ وقد تمَّ توظيفهم على الطريقة الأسديَّة ذاتِها في المحسوبيّات والوساطات!؛ وتسلّمَ شؤونَ المكتب خريجُ إعلانِ وليسَ خرّيجَ إعلام؛ ثمّ تسلّمه مُسَاعِدُه التقنيُّ؛ بلغت رواتبهم أكثر من 75 ألف دولار شهريًا، وكانت تكفي لتمويل موقعٍ الكترونيٍّ شامل.. يثق به السوريون وبأخباره؛ قبل أن يثق به سواهم؛ ومن المفارقة أن فضائيّة الجزيرة قد انطلقت بكادرٍ لا يتعدَّى الأربعين عاملًا.. بِمَن فيهم: الإداريّون!.
كما عَقَدَ الائتلاف ورشةَ عملٍ استغرقت ثلاثةَ أيامٍ لتطوير “الإعلام البديل” دعا إليها ما يُقَارِب 40 شخصاً؛ وقد كلّفت.. ما بين ثمن تذاكر سفرٍ ومبيتٍ وإطعامٍ في فندق 5 نجوم أكثر من 45 ألف دولار؛ أدار جلساتها وحواراتها.. مُمثلٌ كوميدي!.
بعد عامٍ.. سألتُ زميلاً شاركَ في تلك الورشة عن توصياتها، فهزَّ رأسه بأسى: – وُضِعَت في أحدِ أدراج الائتلاف؛ وتمَّ نسيانها تماماَ.
كَم مِن مئاتِ آلافِ الدولارات.. قد تبخّرت بالطريقةِ ذاتِها؟!.
وهو ما أكَّدته لنا زميلةٌ إعلاميَّة صارت لفترةٍ نائبةً لرئيس الائتلاف من كونِهَا امرأةً، بالتزامُنِ مع التوسِعَة النسائية في الائتلاف تطبيقاً لنسبة التمثيل النسائيّ الذي طلبها الاتحاد الأوروبي من الائتلاف.. فلم يُتِح لها ذُكورُ المُعارضة وإخوانُهم.. حتى أن تُعِيدَ هَيكَلَة المكتب الإعلاميّ للائتلاف!.
اليوم.. وبعد تلك السنوات الدامية؛ ليسَ لمؤسسات الثورة السورية منبرٌ إعلاميّ مُعتمَد دوليًا؛ ليس لها.. منبر ثقافي، ولا حتى جريدة أو مجلة؛ ليست لها.. إذاعةٌ أو محطة تلفزيونية؛ ليس لها.. صوتٌ ينطِقُ باسمها ويجمع الرأي العام العربيّ والدوليّ حولها.
كان على دهاقنة المعارضة السورية أن يتمثَّلوا التجربة الفلسطينية في الثقافة والإعلام على الأقلّ؛ وأن يُدركوا -وهم يُدرِكون- بأنّ كاريكاتيرًا واحدًا لعلي فرزات أو.. لأكرم رسلان أو لموفق قات ولسواهم.. يلقى اهتمامًا أكثرَ من تصريحاتهم؛ وبأنّ كتاباً لياسين الحاج صالح أو.. روايةً لفواز حداد مثلاً، أو.. أغنيةً لسميح شقير ولخاطر ضوّا، أو.. قصيدةً لحسان عزت ولوداد نبي وفرج بيرقدار؛ أو.. قصيدة زجليَّةً لفادي جومر، أو.. مقطوعة موسيقيّة لمالك جندلي.. أشهَرُ من خطاباتهم؛ وبأنّ مسلسلًا لهيثم حقي؛ أو.. فيلمًا سينمائيًا لجهاد عبدو؛ أو لغطفان غنّوم عن المهاجرين السوريين في مهرجان سينمائيّ دولي.. أهمُّ من اجتماعاتهم؛ وأنّ مسرحيةً لنوار بلبل في المُخيّمات؛ أو.. مُلصقًا فنيًا لتمَّام عَزَّام.. أهمُّ مِن تصريحاتهم عن التغريبة السورية؛ وقائمة المبدعين السوريين الأحرار أضعافُ أضعافِ ما قد ذكرته من أسماء.
لا أُغَالِي إذا قلتُ: أهمَّ إنجازات الثورة السورية.. ابداعاتُ مثقفيها وفنَّانيها الأحرار، وقائمةُ أسماءِ مُثقفي الثورة تطولُ جدًا، وبخاصةٍ.. حين نُعدِّد إبداعات الشباب والشابات منهم، ولن أُكمِلَها.. نكايةً بمَن يسأل بسخريةٍ عن دور المثقفين في الثورة؛ لأنه سينسى أسماءَ دَهَاقِنَةِ المُعَارَضَة وسيتذكّر فيما بعد.. هذه الأسماء المُبدعة فقط!.
معارضةٌ بلا قادةٍ أو سياسيين؛ بلا مؤسساتٍ وخبراء في الإدارة؛ بلا ثقافةٍ ومثقفين؛ بلا إعلامٍ وإعلاميين؛ كيف لها أن تنتصر للثورة؛ إذا لم تكن عِبئًا على الثورة ذاتها؟!.