في كلّ يومٍ وليلة ومنذُ سبعِ سنوات.. أراه؛ فلا ألمسُ يديه ولا تلمسني يداه. يقول جملتين ويختفي.. أحياناً يترنَّمُ بجملةٍ واحدة:
– صباح الخير.. يا حلوة.
فاصحو من نومي.. على صوتِه وصورتِه. ويُصادِفُ أنّي سأحمل صورتَه وأمضي إلى اعتصامٍ للمُطالبة بإطلاق سراح المُعتقلين.
وفي ساحة الاعتصام.. أتذكر عينيه وهي تبتسم لي؛ حتى حين يكون قلقاً أو غاضباً أو مُتعَكِر المِزَاج؛ يهمس لي:
– أنتِ فِردَوسِي الذي يمنحني الطمأنينة.
وفي الاعتصام.. أقفُ؛ لا تهمُّني الكاميرات التي تُسجِّل اللحظة؛ أُجِيبُ أحياناً.. بشكلٍ مُقتضَبٍ على سؤال الصحفيين:
- قبل أيّ شيءٍ آخر.. نُريد المُعتقلين.
وأُكمِلُ لنفسي في كلِّ مرَّة: – قبل مؤتمراتِكُم؛ قبل مجالسِكُم وهيئاتِكُم؛ قبل كلّ شعاراتكُم؛ وقبل أيّة مفاوضات.
ثم أضحك في سِرِّي: – لا يرحل ديكتاتورٌ.. بالمُفاوضَات!.
لوهلةٍ.. أشعر بأنَّ أحداً قد التقطَ ضحكتي السريّة؛ التفِتُ.. فأرى ذاك الرجل واقفاً في كلّ اعتصامٍ؛ ويخطِف نظرَهُ إليَّ.. بين فترةٍ وأخرى؛ وهو يحمل صورةَ فتاةٍ تُشبه أختي المفقودة منذ خمس سنين.
- يا الله.. كم تُشبِهُها.
يرفع ذاك الرجل تلك الصورة في كلّ اعتصامٍ؛ ثم يضعها بتأنٍ داخلَ حقيبة ظهره الزرقاء قبل أن يُغادر الساحة.
ألوم نفسي من جديد.. كيف لا أعرف اسمَ شبيهةِ أختي؛ واسمَ آخرين فيما حولي من صور؛ أحِسُّ بأنِّي كشرنقة الحرير وخيوطُ حبيبي من حولي؛ مُكتفيةً بها؛ أحياناً.. أتمنى لو أنهم اعتقلوني ونجا حبيبي؛ أتمنَّى لو كنتُ قد مُتُّ برصاصة قناصٍ في رأسي.. ونجا.
ثم أراه مناماً بعد منام.. حتى تحوَّلت مناماتي إلى كوابيس؛ تحوَّل انتظاري إلى جَمرٍ.. بينما أخبارُ مَن ماتوا تحت التعذيب تتوالى؛ ولا اسمَ لهُ.. بينهم؛ لا خبرَ عنه؛ لم يرَه أحدٌ من القلائل الذين قد أطلقوا سراحهم؛ لا اسمَ لأختي أيضاً.. وكأنها لعنةٌ ويتجنُّب الناس ذِكرَها.
يهمس لي عقلي: – مات حبيبُكِ.. كأقرانِهِ تحت التعذيب.
يهمس قلبي: – ما زال حياً.. ويتذكَرُكِ.
ويهمس عقلي: – ماتت أختُكِ.. من النادر أن يعودَ أحدٌ من الاختفاء القسريّ.
فيهمس قلبي: – ما تزال تفرِدُ شعرها الخَرنوبِيّ ببقايا مشطٍ عتيق.
فلا أدري مَن أُصَدِّقُ؛ حتى كادت تمضي بيَ الكوابيسُ إلى الجنون؛ لولا خيطٍ شفيفٍ من الأمل.
بعد انتهاء هذا الاعتصام سأذهب الى ذاك الرجل.. لأسأله:
- ما اسمُ تلك الفتاة في الصورة.. ما قِصَّتُها؟.
أُخمِّنُ أنه سيقول: – هذه ابنتي.. اعتقلوها منذ 2012.
ثمّ استبعِدُ أنها ابنتُه؛ لا يبدو أباً؛ ربما.. هذه صورةٌ قديمةٌ لها؛ وربما هي الصورة الوحيدة التي لديه.
ينتهي الاعتصام.. فأُدِيرُ صورةَ فارسِ أحلامي نحوي؛ أُلصِقٌها قربَ قلبي وما بينَ نهدَيّ.. وأمضي.
تستوقفني امرأةٌ تُغادِر ساحةَ الاعتصامَ مثلي؛ وبيدها صورةُ ابنها المُعتقَل؛ تسألني بانكسارِ أمومتها:
- هل ستُعيدُهُم إلينا.. هذه الاعتصامات؟!.
- يا خالتي.. إنهم في قلوبنا لم يُغادروها.
تهزُّ المرأةُ رأسَهَا؛ تنظرُ ما بين يديها إلى صورة ابنها الشاب وهي تُغادر بدمعة صامتة؛ مالحةٍ؛ دونها ملحُ البِحارِ جمِيعِها.
أمضي نحو أقرب محطةٍ لأستقلَّ الحافلة إلى بيتِ تغريبتي في برلين؛ أتوقع أنّي سأرى ذاك الرجل أيضاً؛ وبين يديه صورةُ تلك الفتاة.. شبيهةِ أختي.
أراه واقفاً كالمُعتاد.. بعد كلِّ اعتصامٍ؛ ويحني رأسَه بتحيةٍ صامتةٍ كلما رآني؛ فأقفُ بعيدةً عنه في كلِّ مرَّة؛ يظلّ واقفاً بصمتٍ ويرمقني بين كلِّ دقيقتين؛ سيمضي هو أيضاً في باصٍ آخر بعد أن يحني رأسَه ويُحيِّيني بنفس الطريقة؛ لم يحدث أنه تطفَّلَ مثلَ آخرين.. أو اقتربَ منّي أكثر ممّا تقتضيه اللباقة؛ يلتزم بالمسافة التي أُحدِّدُها؛ وها هو يصعد الباص الذي سيُقِلُّه الى بيت تغريبته في برلين.
أعود الى غرفتي.. أُعلِّقُ صورةَ حبيبيَ على الجدار؛ ألمَحُ بصَماتِ أصابعي على زجاجها؛ أخالُ أن أصابِعَهُ امتدت لتلمسها بلهفة الحنين.
قبل أن أنام.. أقرّر أن أقترب من ذاك الرجل في أقرب اعتصامٍ لنا؛ لأسأله عن تلك الفتاة بالضبط.
أنامُ مُنهكةً.. استيقظُ من دهشتي؛ لم أر مناماً في ليلي؛ كأنما غادرتني الكوابيس قبل مطلع الفجر؛ لم يترجل حبيبي من صورتِه.. ليعبث بشعري كما يفعل كلّ صباح.. قبل أن يستنشق رائحتي من مفرق عنقي التي ما تزال في غفوتها.
أنظر إليه وهو في إطار صورته:
- شو عدا ما بدا.. مو على بعضَك هادا اليوم؟!.
فلا يُجِيب.. ابتسم له: – غِرت يا حبيبي من جاري في الاعتصام؛ بشرفك.. مُو الصورة اللِّي معه؛ صورة أختي؛ بس كيف.. وليش؟!.
لا يُجِيبُني.. فأغمزُ له:
- رح أعمل قهوة إلنا سوا؛ بَلكِي بتِنفَكّ هالعقدة.. يا تقيل.
فلا يرمش له جفنٌ طوال أسبوع.
يحين موعد اعتصامنا التالي؛ فأنزِلُ صورتَه من عَليَائِها إلى ما بين نهديّ؛ أحبّ أن أمشي بها نحو ساحة اعتصامنا الاسبوعيّ؛ وأنفاسُه الحارّة ترمَحُ قربَ قلبي.
بعد انتهاء الاعتصام.. أذهب إلى ذاك الرجل:
- مين هَيّ.. اللّي بالصورة؟!.
يبتسم: – أختُك.. كانت حبيبتي.
- بس ما قالتلي إنها بتحبّ؟!.
- كنّا منتظرين يسقط الديكتاتور.. لنعلن حبنا.
صمتَ لبُرهةٍ.. ثمّ تابع:
- أنا من غير طائفتكم؛ أختكِ ظنِّت أنكم ما رح تقبلوا فيّي.
- غلطانِه أختي.. نحنا مُو هيك.
- كانت ظروفنا صعبة.. أنا مُلاحق؛ واتفقنا نطلع تهريب ع الأردن؛ وباليوم اللّي حدّدناه؛ جِيت على الموعد.. وما إجِت من هداك اليوم.
- وصورتها اللِّي معك؟.
- عطتني ياها.. قالت: كنت مخبّيتها لأسجّل بالجامعه؛ خلّيها معك.
- شو بتتوقع.. صار فيها؟!.
- غَيَّبوها.. عند أول حاجزٍ للجيش.
- بتتوقعها.. عايشة ولّا قتلوها؟!.
فردّ عليَّ بسؤالٍ وهو يُشير الى صورة حبيبي بين يدي:
- وانتِ.. شو بتتوقعيه؟.
لم أُجِبهُ.. خطفني صمتٌ ثقيل؛ فأردف:
- نحنا عَم نعتصِم مو منشانهم بس؛ منشان الكلّ.
بعد جوابه.. لا أدري كيف خطفني بكاءٌ مُرٌّ طويل؛ لا أدري.. كيف مالَ رأسي نحو كتفه؛ كيف تقاربت الصورتان اللتان بين يدينا؛ لا أدري كيف أغمِيَ عليّ؛ وكيف صحوتُ لبرهةٍ فأحسستُ بأنه آخرُ جدارٍ لي؛ لا أعرف كيف أوصلني مع الصورتين إلى الاستديو الذي أقطن فيه.
أفقتُ من مناماتي وكوابيسي.. فرأيتُ على الحائط الصورتين مُعلقتين؛ صورة الأخت وصورة الحبيب؛ وأمامي ذاك الرجل ما يزال صامتاً ويتأملني.
التفتُ نحوَهُ: – لم تقل لي اسمك؟!.
فقالَهُ لي.. وهو ما يزال في كلّ صباحٍ يبتسم لي؛ وتبتسم لنا الصورتان في عَليائِهِما معاً.
وفي أول اعتصامٍ ذهبنا إليه معاً.. تبادلنا الصور؛ رفعتُ صورةَ حبيبته؛ ورفع هو.. صورةَ حبيبي.
26 آب 2019 – بيزانسون – فرنسا.
*خاص بالموقع