في عام 2001 وجدتُ غرفة “نِصّيَة” في أحد بيوت حيّ “باب توما” العتيق. وكنتُ قد خرجتُ من “جريدة الدومري” تخفيفاً للضغوط على الصديق علي فرزات؛ بعد أن سحبوا خلال الطباعة ليلاً مقالاً لي بعنوان: “رحلة إلى جزيرة شفافستان” وكان وقتها بثّارُ ابنُ أبيه قد أطلق مُصطلح “الشفافية” فتفتقَت حلمنتشيتيّ عن هذا المقال: داعياً إلى تغيير اسمِ الجريدة إلى اسمٍ فانطازيّ يتماشي مع المرحلة القادمة: “شِفّ لي.. لأشفّ لك”.
هكذا لم يعد باستطاعتي دفعُ أجرةِ الأستديو في حيّ “الطلياني” بعد توقف راتبي؛ وكان الاستديو قريباً من مكتب علي فرزات في شارع الباكستان؛ فبحثتُ عن غرفةٍ بأجرةٍ أقلّ.. حتى وجدتها في باب توما “حارة البولاد” ولم أجد مشكلة في الصعود إليها عبر باب واطىءٍ.. فطولي كان يُساعدني على عدم الانحناء لبابٍ أو لسواه؛ ثم كان عليّ أن أصعد إلى ما يُسمّونه “النِصِيَّة” واطئةِ السقف عبر درجٍ خشبيِّ يئِنُّ ويئِزُّ برغم أنِّي من وزنِ الريشة في تصنيفات “المصارعة الحرّة”!.
الغرفة.. متران ونصف بثلاثة أمتار؛ وفيها خزانةٌ عتيقةٌ من جهاز جَدَّة صاحب البيت؛ ومثلُها.. تختٌ عتيقٌ مُفرِد ونصف وفرشةُ قطنٍ من زمن حرب “السفر برلك”.. وطاولةٌ صغيرةٌ فقط مع كرسيٍّ واحدٍ فقط!.
الجدرانُ بالطبع.. من القَشِّ والطين المُدعّم بأخشاب أشجارٍ من الغوطة؛ ولها نافذة بدرفةٍ واحدة تُطِلُّ على “الحارة السَدّ” وتعلو الشُبّاكَ طاسةٌ من التنك فيها مصباحٌ أصفرٌ شاحبٌ من أيام أولِ بلديةٍ في دمشق بعد الاستقلال!.
أمضيتُ في هذه الغرفة ستَ سنوات؛ وضمَّت برحابتها جلسات شِعرٍ وقصة ونقاشٍ بين الأصدقاء وضحكاتٍ ساخرة وسهرات طرب؛ حتى اتسعَت مرةً لأحد عشر شخصاً دفعةً واحدة!؛ وقد لوَّنتُ أخشابها وخَربَشتُ على جُدرانها خربشاتي التشكيكيّة -أسمَيتُهَا هكذا.. لأني لا أعتبر نفسي رساماً- وكنت أكتشف متاهات الحارات العتيقة حاملاً كاميرتي المُتواضعة لألتقط ما رأته عيني الثالثة من جمالٍ مخبوءٍ في الأقواس؛ وبين درفاتِ الأبواب والشبابيك الخشبية؛ وفي المُنحنيات؛ وبين ظلال الجدران المَطلُوَةِ بالكلس وفي تقاطع ضوء مصابيح الحارات على بلاطها الحجريّ.
لم يعتبرني سكانُ حارة البولاد.. زائراً غريباً؛ بل.. واحداً منهم؛ سوى أمّ الياس العجوز السبعينية؛ حين أخبرني جاري ميشيل بأنها استنكرت أن نُؤجِرَ مسلماً في الحارة؛ وفي ذاكرتها حكاية عتيقة عن شاب مسلمٍ أتي ليعمل في ضيعتها فوقع في غرام فتاةٍ مسيحية؛ وغامرت الفتاة معه.. فوافقت أن يخطفها ذهاباً إلى لبنان.
تابع ميشيل وهو يضحك: أم الياس تخاف أن تخطفها؛ وربما تخشى على صبايا الحارة منك.
قلت له: – ستسمع قريباً.. كيف ستُغيِّر أم الياس رأيها.
وكنتُ على موعدٍ مع صديقٍ كاهن “خوري” لنتناقش في سيناريو مسرحيّ قمتُ بإعداده عن كتاب “المسيح ابن الانسان” لجبران خليل جبران؛ فلمّا دخلنا الحارةَ رأتنا أم الياس القاعدة دائماَ على كرسيّ قشٍ عند عتبة بيتها ونحن نضحك سويةً؛ أومأت لي.. فذهبتُ إليها؛ همست لي: – اطلب من “أبونا” أن يُبارك لي البيت؛ وليس عندي ما أُقدّمه لكما سوى صحن مجدرة طبخته قبل ساعة.
سألت “أبونا”: – شو رأيك بصحن مجدرة برغل بعدس؟.
فلمعت عيناه: – شو بحب هالأكلة.. طبختها أنت؟.
أجبته: – بل.. أم الياس؛ ولن تُطعمنا حتى تبُارك لها البيت.
شمَّرَ أبونا أكمامَه: – على الفور.
بعدها.. صارت أم الياس تمدحني أمام الجيران؛ وأخبرني ميشيل بأنّها قالت له: – لو كان عندي بنت.. كنتُ زوَّجتُهُ إيّاها.
في تلك الغرفة.. قرأتُ وكتبتُ مقالاتٍ بالجُملة وبالمُفرَق أستعينُ بمكافآتها الضئيلة على نفقات أيامي؛ بينما كانُ جذعُ شجرةٍ مِن التي تسند السقف.. قد تشققت وانحنت؛ فإذا امتلأ خزان الماء فوق سطح “النصيّة” طَقطَق السقفُ كلُّه حتى ليَخَالُ النائمُ أنّه لا بُدَّ سيهوي فوقَهُ في ليلةٍ كُحليّة.
ذات يوم.. قال لي صديقي علي سفر أنه بصدد تصوير فيلمٍ تلفزيونيٍ عن الشاعر محمد الماغوط؛ وتساءل.. كيف سيَجِدُ غرفةً في دمشق تُشبِه “الغرفةَ التي بملايين الجدران” عنوان ديوانِ شعره الشهير الذي كتَبَهُ يومَ كان مُتخفياً من مُلاحقة “المكتب الثاني” للمخابرات السورية؛ ولا يعرف أحدٌ مكانَ اختبائه سوى حبيبته “سَنِيّة صالح” التي كانت تجلِبُ له الطعامَ والخمر والورق الأسمر والأقلام.
استطلَعَ علي سفر الغرفةَ فصاح مثل “أرخميدس”: وَجَدتُها.
ثم جاء مع طاقم التصوير.. ولم نُرَحِّل من الغرفة سوى “ثلاجة مكتبٍ صغيرة جداً” و “تلفزيون” أصغر.. لم يكونا موجودين زمنَ الخمسينات والستينات.
بعد التصوير.. لم تُوافق إدارة التلفزيون الأسديّ على إنتاج وعرض الفيلم.. ولا أدري ماذا حَلَّ بالمَشاهِد التي تمّ تصويرها؛ وبخاصةٍ التي في “غرفتي الواطئة.. التي بلا جدران.
تذكرتُ كلَّ هذا.. بينما كنتُ أقرأ مقطعاً من إحدى قصائد الماغوط من ديوانه “غرفة بملايين الجدران” بينما كان الماغوط قد وُلِدَ في غرفةٍ مُسدَلَةِ الستائر اسمُها “الشرق الأوسط” كما يقول!.
وقد كتب.. في تلك الغرفة:
“وأنتم يا أعدائي وأحبائي
يا مَن تقرؤنني فوق السروج والصهوات
يا مَن تقتاتون على حُزني كالكلاب الضارية
سأقذف هذا القلمَ إلى المريخ
سأدفنه كالطائر
بين الثلوج البيضاء
وأمضي على فرسٍ من الحبر
ولن أعود..”.
*خاص بالموقع