نجم الدين سمّان : أهازيج رمضان في إدلب

0

لا يختلف شهر رمضان في إدلب عن كلّ حواضر وقرى سوريا؛ بل.. وبلاد الشام.

يهزج أطفال غزّة بعد الإفطار:

“حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو

بابا بِدنا الفوانيس.. لا تخلِّينا متاعيس

يلّا فِكّ الكيس.. وكلّ واحد لحالو

حالو يا حالو.. رمضان كريم يا حالو

يلّا عَ القطايف.. وما تِنسَى الكنايف

حالو يا حالو رمضان كريم يا حالو”

كما يَهزِجُ أطفال إدلب بعد الإفطار وبخاصةٍ بعد انتهاء صلاة التراويح:

“حلِيلِيِّه ملِيلِيِّه.. هَبّ الهَوَى ورماها.. في حارة الشرقيِّه

يا حارة يا مَنشومي.. دِقّ السِكِّة عَ التومِه

قول يلّا و يا ستَّار.. حلُّوا الكيس واعطونا.. لولا محمَّد ما جينا”

يخصّون بالاسم أحد رفاقهم؛ أو.. أصغرَ طفلٍ وطفلةٍ في العائلة؛ حتى يُفتح باب الدار ويقوم صاحبها بتوزيع ما يتوفّر لديه من تينٍ وزبيب مُجَفَّف؛ ومن قضامة أو سكاكر؛ أو “تين بعجين” و “حلاوة مقبَّطة”.. وسواها على الأولاد.

او يمضون في أهازيجهم.. إذا تلكأ أحدٌ في تَلبيتِهِم:

“حيّا الله ولاد الشام.. فيها الخوخ والرمّان

فيها زقِيقَات العصفور.. يا شيخ مانَك طَرطور

يا طالع عَ دِكّانتو.. والناس في خِدمَاتو

الله يجِير مِيمَاتو.. على قلِيب خيَّاتو

والمسبحة من دَهَب.. والزار زَرزُورِي

جينا نحنا جينا.. لولا محمّد ما جينا”

ثم يتابعون أهازيجهم.. على النحو التالي:

“يا ريت إنّي زَرزور.. واطلَع عَ السطوح

نَقِّي الملَاح الملَاح.. والرَبّ يعطيني

صيني عَ صيني.. والربّ يعطيني

وشقوق الصُوبَرَه.. تِحلِب وتسقيني

يا حاحي يا حاحي.. و يا صَفِّة قدَاحِي

لا تلعب بالصُوبره.. لا تلعب بِرمَاحِي

أخدونا وجابونا.. وعَالقِشلِه وَدُّونا

ولمّا وظَّفونا.. يا حِيف عَ الشباب”

وفي أهزوجةٍ غيرَها:

“غزالي غزالي.. طاب عيشي طاب

والعمل ثلاجي.. بنِصّ الليل وغاب

يا علي لا تتعوَّق.. جِبلِي سرير مزَوَّق

جِبلِي غزالِه عَرجَه.. جرَيَّاتا طوَال طوَال

ما بيفوتو بباب الدار

هات العِدِّه والمِنشار.. لَنِنشُر جرَيَّاتا

صيني عَ صيني.. والرَبّ يعطيني

وشَنُّونِة الصوبَرَه.. تِحلِب وتسقيني

حَيِّ عَ السطوح.. بتعطونا ولّا منروح”

ثم يذكرون اسمَ أحد أقرانهم من العائلة التي دقّوا بابها:

“لولا أحمد.. ما جينا”.. الخ

ولتلك الأهزوجة الرمضانية.. أكثرُ من صِيغَةٍ في المدن السورية.

وبالعودة إلى نصوص “خيال الظلّ” التي كانت تُعرَضُ في أغلب مقاهي سوريا بعد صلاة التراويح في رمضان؛ سنجد تلك الصيغة الأقدم:

“حِلّوا الكِيس واعطونا، اعطونا حِلوَانّا

صحنين بقلاوة.. رغيفين شلبيّات.. رغيفين حلبيّات

حَيَّ الله.. يا بلاد الشام، مين فيها.. بلاد الشام

فيها الخوخ والرمَّان.. حلّوا الكيس واعطونا

دولابي دولابي.. يا سِكّر جلّابي”

ثمّ ينفرد الرئيس من بينهم فيُنادي بأعلى صوته داعياً لصاحب البيت ولعائلته ذاكراً بالاسم أصغر أفرادها:

“يخلّي له أمّه” فيُردّد وراءه الجميع: “آمين”.

ثمّ يُردِّد: “يخلّي له أبوه” فيردّون وراءه: “آمين”.

“يخلِّي لُه إختُو”.. وهكذا حتى يخرج صاحب البيت فيُوزِّع عليهم الحلوى والسكاكر والمُكسَّرات والفواكه المُجفَّفة ورقائق “القمر دين” من عُصارة المشمش؛ والمَلبَنَ المصنوع من دبس العنب.. الخ.

ثمّة جيلٌ من الأطفال السوريين؛ ومن أطفال إدلب ذاتها؛ لا يعرفون رمضان الذي عشناه؛ لم يعيشوا.. سوى مشاهِدِ شبيحة الأسد؛ ثمَّ أوهمهم إخوة المنهج بأنهم قد تحرّروا من الاستبداد؛ فإذا هم في استبدادٍ جديدٍ باسم الدين!.

يُقال بأنّ ذاكرةَ الطفولة الأولى عند الانسان هي الأقوى؛ وقلّما ينسى منها شيئاً؛ بل.. إنها التي تُشكِّلُ جوهرَ شخصيته فيما بعد؛ كما إنها نَبعُ حنينِهِ إلى مسقط رأسه؛ وإلى موطنه؛ لهذا لم أكن بحاجة إلى مَرجِعٍ لأدقّقَ ما قد حفظته من تلك الأهازيج الرمضانية في طفولتي.. إلا من باب حِرصِي على التدقيق فيما أكتبه؛ بينما تتلامحُ صورةُ “الدَرمُول” وهي سَلّةٌ من القَشِّ بلا مِقبضٍ؛ تُستعمل لِجَمع حَبَّاتِ الزيتون عند قطفه؛ وكنتُ أخطِفُهَا من “قبو المُونة” حالما أسمعُ نداءَ أقراني.. لنبدأ جولتنا الرمضانية في حارتنا أولاً؛ نجمع ما يمنحه لنا الجيران في تلك “الدرمول” لنجلسَ بعد نهاية الجولة.. مُتحَلِّقِينَ حولها؛ تحت الضوء الشاحب لمصباح البلدية كما كانت تسميته؛ نأكلُ مِمَّا جَنينَاهُ ونحن نتسامر ونضحك.

هكذا يبدأ اولُ مساءٍ رمضانيّ لنا؛ لكنه لا يكتمل إلا إذا ذهبنا قبلَ إفطارِ أولِ يومٍ إلى “تلّةِ الرَمَادِة” قربَ “الجامع العُمَرِيّ” وهي تلّة يُقال بانها من مُخلَّفاتِ لُبِّ الزيتون بعد عَصرِه واستخراجِ زيتِه؛ ممَّا يلزم لصناعة “صابون الغار” الذي اشتُهِرَت به إدلب أيضاً؛ وبخاصةٍ بعد إعفاء صُنَّاعِه فيها من ضريبته في العهد العثمانيّ؛ ومن أشهرهم “آل الصَنّاع” ويبدو أن كُنيتَهُم قد جاءت من تلك الصنعة التي أجادوها.

مسحراتي في مخيم اللاجئين

وهكذا تشكَّلت تلّتان من مُخلَّفات تلك الصناعة؛ ثانيها.. كان شمال ساحة البازار؛ وأذكر كيف كانت الحشائش والزهور البرية تنمو فيها؛ ويتخذها أبو اصطيف مكاناً لتجهيز “مدفع رمضان” لكنّي رأيتُ بدلاً عنه كتلةً بين يديه ولها فتيل؛ ثمّ يصرخ بنا لنبتعد عنها وعنه؛ بينما يُشعِلُ قدَّاحته الحجريّة ذاتِ الفتيل؛ ثم ينفخ حتى يتوهَّجَ؛ فيُقرِّبُهُ من فتيلِ تلك المُفَرقَعَةِ الصوتية لترتفعَ في الهواء.. فترتفع معها رؤوسنا لنراها كيف تنفجر في الجوِّ تاركةً وراءها سحابةً رماديةً من الدخان.

خيبتي من عدم وجودِ مدفعٍ حقيقيٍ لرمضان جعلتني لا أعودُ ثانيةً لمشاهدة ذاك “الطُوب” الذي يُفَرقِع فقط؛ ثمّ أّنّي كبُرتُ.. وكَبُرَ أقراني؛ فجاء جيلٌ بعدَنا.. يهزجُ؛ وهو يدقّ الأبواب في رمضان:

“جيناكم.. جينا.. جينا / حلّوا الكيس واعطونا.”

مُكتفياً بالفُرجَة عليهم من نافذة “المربَّع الفوقاني” في بيتنا العتيق؛ كما لو أنّي ما زلتُ أراهم وأسمعهم حتى يومي هذا.. في تغريبتي: رمضاناً.. بعد رمضان؛ تحت تهديد القصف الأسديّ / الروسيّ؛ بينما أنا بعيدٌ عن بلدي وعن مدينتي؛ حتى لكأنَّ كلَّ أهازيجِ المُدُنِ والقرى السورية النازحةِ إليها بالباصات الخضراء.. تصدحُ فيها الآنَ في رمضان؛ ولكن.. انتقالاً من استبداد النظام الأسديّ إلى استبداد إخوة المنهج؛ ريثما تتحرَّر من الإثنين معاً؛ بإهزوجةٍ رمضانيةٍ قادمة:

“جيناكم.. جينا.. جينا / لناخُد حرِّيتنا بإيدينا”!.

*خاص بالموقع