هذه مقالة حول الموقف من حرية التعبير وحق الاختلاف، وقد تهيبت بعض المواقع المؤيدة للمعارضة السورية نشرها، حذرا من الحساسية التي يثيرها ذلك الحق عند استخدامه بوضوح ضد الثورة السورية، بل وتأييده للنظام وبصورة شديدة التشبيح والركاكة. الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى مراجعة هذه الإشكالية ، والدعوة إلى حوار واسع حولها، وحول مركزية حقوق الإنسان والديمقراطية في مستقبل ثورتنا.
أما مناسبة الاستعادة هنا، فهي الموقف من قضية الناشط الفلسطيني ( نزار بنات) الذي تبين أنه مات بعد الاعتداء عليه من قبل قوات الأمن الوقائي التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية يوم 24 حزيران المنصرم في بلدة دورا، جنوبي الضفة الغربية .
الضحية المذكورة ، كان ناشطا سياسيا في الضفة الغربية، ومعارضا لمشروع التسوية التي تنتهجها سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية. ترأس قائمة الحرية والكرامة وشاع أنه اهتم بحقوق الإنسان والديمقراطية في وسطه. كما كان ميالا للخطاب القومي العربي. وكمعظم اليساريين العرب، كان مؤيدا للحشد الشعبي العراقي ولنظام بشار الأسد ولحزب الله ، فضلا عن كونه شعبويا ركيك اللغة والخطاب،. الأمر الذي وجدت السلطة الفلسطينية فيه وفي إثارته للنعرات بحسب تقديرها، مبررا متكررا لاعتقاله من قبل أجهزة أمنها، وفق العادة الدارجة لشقيقاتها العربية السيئة الصيت. مع فارق يستحق تسجيله هنا، هوأنها أعلنت رسميًا وفاته ، وفتحت حوله تحقيقا قضائيا ، دعت لمشاركة مؤسسات حقوقية مستقلة ودوليه فيه، كما أكدت جاهزيتها لاتخاذ أية إجراءات تترتب على النتائج التي سيتوصل لها التحقيق القضائي بخصوص الوفاة، التي أثارت وما زالت تثير ، مظاهرات وردود فعل عديدة شعبية ودولية ، كان بارزا بينها انسحاب حزب الشعب الفلسطيني من حكومة السلطة.
كل ذلك حدث في الفضاء الفلسطيني والعربي والدولي المهتم ، وهو شائع ومتداول، لكن ما كان صادما ومغايراً بصدده، هو ما حدث في فضاء مجتمع المعارضة السورية البديل والافتراضي ، وما برز في وسائل التواصل الاجتماعي المتمددة على مساحة العالم . فقد انتشرت فيها ردود فعل شامتة ، وتعليقات أوساط وناشطين سوريين معروفين طغى عليها الترحيب بمقتل ذلك الناشط ( على مثال : يستاهل ، له من الله ما يستحق). وليتها توقفت عند عدم الاهتمام بكونه ضحية اعتداء سلطة فقط، لكنها تعدت ذلك إلى التشفي بمقتله، فوصل الأمر بأحد الناشطين المعروفين بضجيجهم ، إلى القول بأن الضحية وافق سلفاً على طريقة قتله !.
بالطبع ، أثار ذلك النمط الصادم من تلقي الحادثة انقساما جديدا بين صفوف المعارضة السورية المتشظية بالأصل، وكشف عن فهم مضطرب لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي انطلقت مظاهرات شباب الثورة من أجلها، وعن استمرار التخبط في معاني أهداف الثورة ومنظومة التغييرالقيمي، التي توجهت لبنائها بما يناقض منظومة النظام الأسدي ومجمل أخلاقياتها، وقيمها المشبعة بالاستبداد وإلغاء حقوق الإنسان والمواطن.
هذا الانقسام والفهم المضطرب، دفع بعض معارضينا الأشاوس إلى تأييد قتل الضحية ( نزار ) ردا على تأييده المعلن لنظام بشار الأسد، وضد تصريحاته المحملة بالبذاءة والسخرية السوقية من الثورة السورية وشخصياتها !.
لذلك صار ذلك الناشط ضحية ، لا للقتل من قبل نظامة وسلطته فقط، بل من قبل بعض أوساطنا المعارضة ، ولم يجر اعتباره كمجرد مؤيد للنظام السوري، بل صارشريكا له في إجرامه أيضا، واستحق في نظرهم كل مايستحقه مسؤولوالنظام وشبيحته ، علما أنه لم يستخدم أي سلاح سوى سلاح الكلمة والتعبيرات الاجتماعية الشائعة، كالتظاهر وإعلاناته. ليس في تأييده (القومجي) لنظام الأسد فقط ، بل في معارضته لسلطته ذاتها أولا .
ثقافة التشفي والنفي الشائعة هذه تشوه أخلاقيات وقيم الثورة السورية، وهي ليست سوى وجه آخر لثقافة الشبيحة وقيم النظام الذي ثرنا عليه، وحاولنا أن نقدم وجها مختلفا عنه، بمافي ذلك من قيم حقوق الإنسان وحريات التعبير التي تضمن حق الاختلاف وتعدد الآراء .
ربما كان أسلوب (نزار بنات وغيره ) مؤثرا وفعالاً أكثر من حملة السلاح كما يفكر البعض ، لكنه، في ظني لم يكن مجرما وخارقا للقانون. ربما اعتبر مؤذيا سياسيا في تحريضه، ويمكن عندها الاحتكام للقانون والقضاء المستند إلى شرعية دستورية مستقرة . لكن قتله، بل مجرد التفكير في قتله ، إنما هو جريمة أو شروع في جريمة يجب الحذر منها ، ومعاقبة من قام بها وفق القانون وأحكامه!
وأرى أن الموقف السلبي من مقتله ، هو موقف سلبي أصلا من حرية التعبير وحقوق الإنسان، ومن بينها حق الاختلاف بالرأي وتعدده .. إنه موقف ضد ثقافة الحوار والديمقراطية التي تتطلب كثيرا من الوقت وجهدا في الصبر والتداول. وأكثر من ذلك هو موقف ضد الرأي الشهير، والفيصل في هذالصدد لـ (فولتير) : قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد ان ادفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك !.
أما الاستبداد بالرأي وهو أساس الديكتاتورية والطغيان، فلاشك أنه الأسهل والأسرع في الوقت والتكاليف، لكن نتائجه كارثية على المجتمع والتاريخ وقيمة الإنسان في النهاية، كما هو معروف .
الأخطر من كل ذلك، هو أننا عندما نعتمد هذا الرأي السلبي من حق الاختلاف في الرأي كقاعدة عامة، إنما نسمح بإلغاء رأينا نفسه ذات يوم . فوفق نفس الحالة، سيأتي من يختلف معنا وانطلاقا من مصلحته وغايته ، سيرى في رأينا ليس سكوتاً عن الخطأ فقط ، بل ربما شراكة في جريمته إلى هذا الحد أو ذاك . وسيسعى، أو يسكت على الأقل عن إلغائنا، وإلغاء كل رأي آخر بالنتيجة ، سواء كان ذلك بالسجن أو النفي أو القتل أيضا، والشواهد على ذلك لاتعد ولاتحصى في تاريخ نظام الأسد الطغياني .
فعبر ذلك التاريخ والرعب الذي كرّسه، من ممارسة السياسة وحريات التعبير وحق الاختلاف في الرأي ، تم السكوت عن مجازر متعددة ، بدءا من حماه إلى تدمر، مروا بحلب وحمص والقامشلي وغيرها ، فضلا عن جرائم واستباحات فردية اشتهر بعضها ومازال معظمها مسكوتا عنه !.
في المحصلة، وجد كل منا نفسه ، كما وجدت الجماعة السورية نفسها طوال ذلك ، وكأنها الثور الأسود الذي صاح يوم حان وقت استفراده وموته: قُتلت يوم قُتل الثور الأبيض !.
وبالمثل ، فالضحية الفلسطينية ( نزار بنات) مناضل ضد أخطاء سلطته ونظامه، لكن رأيه المشوه مع النظام الأسدي، لايجوز أن يدفعنا إلى إلغائه والاصطفاف مع ظالميه، بل الأحرى أن يدفعنا إلى التضامن مع قضيته وقضية الشعب الفلسطيني ، بغض النظر عن اختلاف رأيه ورأي كثيرين غيره من قضيتنا العادلة ، كي لانجد أنفسنا ذات يوم مضطرين للقول : قُتلنا يوم قتل الثور الآخر ، ولو كان أسود التعبير ضدنا.
وذلك ما أدركه شباب سوريا في قيم التضامن وعدم الصمت عن ظلم هنا أو هناك ، فقامت مظاهراتهم تحيي بعضها بعضاً في كل أرجاء سوريا، رافضة السكوت والاستفراد. وهي إن صمتت حينا، وتراجعت حينا آخر، فلاشك أنها ستعود مادامت أسباب الثورة قائمة، بل وتضاعفت ضد الاحتلالات المتعددة التي جلبها طغيان الأسد وعصاباته.
*خاص بالموقع