توفيت فيروز حسب شائعات بعض وسائل التواصل ، لكنها لم تتوف حسب شهادة ابنتها ريما والحمد لله ، أطال الله عمرها وحفظها ذخرا لنا ولحماية النفحة الباقية من أرواحنا . وفي الحقيقة، هناك من يريد قتل فيروز رمزيا بكل المعاني ، بل قتل كل ماله صلة بزمن فيروز، ودفن كل ما كان جميلا ونبيلا ومشبعا بأحلامنا، من سنرجع يوما إلى حيّنا، وسمراء يا حلم الطفولة ، إلى شايف البحر شو كبير ، إلى حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي ـ إلخ من الأغاني التي شكلت فضاء روحنا ، ورافقتنا في صباحات المدرسة والعمل، وفي سهرات الليل المنعشة، قبل أن تجري مقارنتها بسهرات طرب الست ، التي طالما عبأت رؤوسنا الثقيلة، لدرجة اعتبرها بعض الأذكياء مسؤولة عن هزيمة حزيران.
لم تكن فيروز أغنية فقط ، بل كانت وصارت فولكلورا شاميا بالمعنى الواسع للكلمة . كانت مدرسة في حب الوطن والبلد، من الشام إلى بيروت ومن فلسطين إلى لبنان. ولم يكن غريبا أن يقدمها أحد الأخوين فليفل اللذين لحّنا النشيد الوطني السوري؛ في حفلة مدرسية عام 1946، معلنا اكتشافه صوت فيروز، الذي سيرافق أجيالنا اللاحقة مع بدايات البث الإذاعي في لبنان ، ثم في دمشق، ثم مع فرقة الأخوين الرحباني ، التي أبدعت معها تلك الثورة من الأغاني القصيرة، المتميزة بقوة المعنى وبساطة الفكرة ورقصة الموسيقى، بخلاف الأغاني الشائعة والطويلة إلى درجة الملل والامتداد حتى الانبساط !. فغنّت للحب والأطفال، وللقدس وفلسطين، للبنان الأخضر وللشام ومجده ، وللحزن والفرح والوطن والأم وريما الطفلة. وقدمت مجموعة مسرحيات تنوّعت مواضيعها بين نقد الحاكم والشعب وتمجيد البطولة والحب بكل تعبيراته، كما جمعتها أغنياتها بكبار شعرائنا وملحنينا.
رافقت فيروز أحلامنا بالعودة إلى فلسطين، وبالشام ذي المجد ، وبالعروبة الممتدة من المحيط إلى الخليج ، لكن جلّ أغانيها كانت بسيطة ومليئة بهموم الإنسان الفرد، الحب والصداقة، الأم والطفل، الجار والأهل ،.
كل ذلك فعلته فيروز في عصر كان يستحق اسمها، عصر الأحلام والآمال ، بأوطان تنهض مستقلة ومتعافية، وبمواطنين يرفعون رؤوسهم عاليا ، ويحلمون بمطاولة السماء مشاركة وإبداعا.
كان ذلك عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفيه تكامل استقلال الشعوب، وظهرت الجمعية العامة لللأمم المتحدة ، ومواثيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان .
صحيح أن حروبا أخرى، قد بدأت فيه أو استمرت ، كالحرب العربية الاسرائيلية، ثم حروب الهند الصينية ، وحرب فييتنام ، والحرب الباردة . بعضها انتهى، وبقي الأمل بانتهاء بعضها الآخر!.
لكن مكر التاريخ بدأ بقلب الاتجاه، فبدلا من التقدم الذي كان مسيطرا قبل نهاية القرن الماضي ، بدأ التراجع مع بدايات القرن الجديد ، وكانت أولى بشائره الاحتلال الأمريكي المباشر للعراق ضاربا عرض الحائط بكل لافتات المجتمع الدولي ومواثيقه، وصولا إلى ترسخ دولة ولي الفقيه في إيران، وإطلاقها بذرة الإرهاب الدولي لدعم شبكتها في أنظمة الطغيان والفساد الممتدة إقليميا وعالميا ، الأمر الذي مالبث أن شبّ عن الطوق، وصار وظيفة واستثمارا سياسيا شديد الفعّالية والنجاح، على جميع المستويات ! .
وإذا كان هذا الاتجاه التراجعي للتاريخ واضحا في سيرورة نظم بلدان الربيع العربي ، وانقلابها ضد ثورة شعوبها، ومحاولتها اللحاق بركب التقدم التاريخي، الذي سيبقى لامحالة أملا لكل الشعوب، فإنه اشد ما يكون وضوحا في سيطرة حزب الله وحلفائه على لبنان دولة ونظاما ومجتمعا، وانكشاف تحالفه المقدس مع دولة الطوائف العميقة وبنية الفساد الراسخة ، على الرغم من كل أقنعة الممانعة والتديّن الزائف التي يرفعها، والتي تكسّرت في كل المحطات.
عبر تلك الهيمنة ومع انتشار سلاح الحزب وعنفه الصريح منذ اغتيال الحريري ، ثم احتلاله لبيروت في أحداث 6 أيار 2008 ، بدأ لبنان ينكشف عن تحاجزات طائفية متجدده، وبدأ بفقد كل ماكان يتميز به من حريات بقيت بعيد الحرب الأهلية ، سواء في مجال حرية الصحافة والرأي اللتي كانت ميزة الجنّة اللبنانية الموهومة، أو في السياحة والتجارة والتنقل وهي عماد حياته الاقتصادية ، أم في باقي أمانه وحمايته للحريات الشخصية مع سلسلة الاغتيالات المتتالية ، فصار لبنان مستعمرة لولي الفقيه تتفاوض مع السكان حينا تحت السلاح وتخطف ما يشبه حياتهم حينا آخر، إلى أن استخدم لبنان قاعدة خلفية لدعمه نظام الإجرام في دمشق، ولتقاسمه احتلال سوريا مع باقي المحتلين، وإيغاله الأسود في قتل السوريين !
هكذا، ظهرعصر آخر، عصر لامكان فيه لأوهام فيروزية بعد . صحيح أن هناك عناصر أخرى لعبت أدوارا هامة في ذلك التراجع عن ذلك الزمن المشبع بالأمل والحرية والأنسنة ، ويمكن أن نلاحظ فيه دور ثورات التكنولوجيا ووسائل الاتصال الاجتماعي، والميديا والرياضة وموسيقى العنف والسرعة الخاطفة الخ. لكن كل تلك العناصر ، كانت ويمكن أن تكون أدوات تقدم للتاريخ كما حدث ويحدث في مختلف بلاد الناس، من أوروبا إلى امريكا وحتى بعض بلدان أفريقيا ، وخصوصا الصين واليابان والهند وغيرها، لكن في بلادنا العربية المشرقية بالذات وفي لبنان خصوصا، فمن الواضح أن توفرتلك الأدوات كان تهديميا و سلبياً ، تحت وطأة العامل الرئيس والأكبر في التراجع، ألا وهو طغيان نظام دولة الفقيه، وكيل الله على الأرض ، وحلفائه من أنظمة الإجرام والفساد في كل من سوريا ولبنان واليمن وغيرها.
ولن يكون انفجار بيروت الكارثي الأخير إلا العلامة الكبرى على هذا التراجع أو الانهيار التاريخي، والذي لامكان فيه لفيروز بكل ما يحمله اسمها، وأغنيتها، وزمنها، من معان وحمولات مشبعة بالقيم والآمال النهضوية، لشعب حاول أن يجد له مكانا في التاريخ، ولا بد له من أن يحاول مرة تلو الأخرى ، من 17 تشرين الماضي إلى 7 آب الحالي ، على الرغم من أصحاب العمامات السوداء والقلوب السوداءـ الذين يأبون إلا أن يحبطوه بإصرار عقيدي وعنف مسلح !. لم تمت فيروز والحمد لله، لكنهم يقتلونها إذ يقتلون كل ما حمله زمنها من رموز وقيم !. ونحن نرى اليوم الزمن الفيروزي الجميل ينهض في الصبايا والشبان الذين يحملون مكانسهم لتنظيف ما دمره اعداؤه من عمران في بيروت، وتنظيف حياتهم، وحياتنا، من عفن الطائفية والفساد والكذب والعنف ، لتغتني بما سيقرعه صوت فيروز من أجراس للحرية والخير والجمال في نفوسنا!
*خاص بالموقع