نبيل مروة: لماذا تكره “طالبان” الموسيقى والأغاني مع أن “الأصل في الأشياء الإباحة”؟

0

الصُوَر الآتية من كابول لمشهد تحطيم “طالبان” الآلات الموسيقية في المعهد الموسيقي الأفغاني، تعيد إلى أذهاننا صُوراً لهمجية القرون الأولى من التاريخ البشري. وتطرح علينا سؤالاً مُلحاً ومُحيّراً:

لماذا يكره الإسلام السياسي الأصولي، الفن عموماً والموسيقى والغناء خصوصاً؟

تختلف المواقف في الشريعة الإسلامية بمذاهبها الأساسية وفِرقِها المتنوعة، من ظاهرة الفنّ بمعظم ممارساته ونتاجاته، ماضياً وحاضراً. تتأرجح تلك المواقف من الفنِّ، وبمعظم أنواعه، بين تحريم كُلّي بإعتباره فُسقاً ومعصية لطاعة الله، وبين إباحة مُقنَّنة ومُقيّدة بحدود صارمة. ويُبْرِز التأرجح هذا التباسات كثيرة تطفو كبُقع سود في فهم المسلمين عموماً والإسلام السياسي خصوصاً لظاهرة الفن، مُلقياً بظلالٍ من الريبة والحذر على طريقة تقبُّلهم هذه الظاهرة الانسانية وتفاعلهم معها.

هذا الاختلاف في اتجاهاته المتناقضة، كان دائماً يتحرك في مدٍّ وجزر على إيقاع تبدُّل السلطات الشرعية دينية كانت أم مدنية. إلّا أن هذا الإيقاع المُتغيّر لم يُزل آثار هذه البقع والظلال، بل أبقاهما على غموض تاريخي غير بنّاء، يؤكده هذا الكم الهائل من التأويلات والفتاوى في تحريم الغناء والموسيقى، من دون أن يبرز ولا مرة واحدة موقفاً إسلامياً تشريعياً جامعاً وقاطعاً، يُطْلق فيه العنان الحر للحركة الفنية بكل ممارساتها، ويُدين التعرض لها تحريماً، كبتاً وحَدّاً.

قد يكون الدينُ بالمطلق، أي دين، في جوهره قامعاً للتعبير الفني الإبداعي نظراً إلى احتوائه على مُحرّمات وحدود هدفها كبت غريزة الابداع المتأصلة في النفس البشرية أو بالحد الأدنى تقييدها والسيطرة عليها.

بيد أنّ معظم الأديان في حاضرنا، وعلى وجه الخصوص المسيحية منها، توصلت مُرغمة بعد أفول عصر الظلام في القرون الوسطى وبدء عصر النهضة والأنوار، الى الكثير من الخلاصات التي تُفيد بأن ممارسة الفن بأشكاله المتنوعة هو عمل مفيد للإنسان ويعود بالخير على البشرية كلها. فالكنيسة الكاثوليكية مثلاً لم تكتفِ بتصْويب نظرتها اللاهوتية الى الفن عموماً، بل ذهبت بعيداً في رعاية الفنون التشكيلية والموسيقية، فحضنت مُمارسيها وشجعتهم، كما استفادت من روائع نتاجات هذه الفنون لإبراز سُموّ تعاليمها الإيمانية. فعلى سبيل المثال لا الحصر استفادت الكنيسة المسيحية في أوروبا من الابداع الموسيقي ذي الطابع الديني، للمؤلِّف “جان سيباستيان باخ”، بقدر ما استفاد المجتمع المدنيّ عموماً والعلوم الموسيقية خصوصاً، إذْ دفعت بالتذوق الفني الى مراتب أعلى وطوّرت أشكال التأليف واساليبه بفضل هذا الموسيقيّ المُبدع.

وبدت تيارات ومذاهب إسلامية واسعة، غريبة عن ظاهرة الفن، وتسير في دائرة مُغلقة من الحُرم المُطلق أو الإباحة المحدودة، مع تراكم الفتاوى وتحريمات مستمَدّة من تأويلات متناقضة للنص القرآني، إضافة الى السُنّة النبوية وأحاديث الصحابة التي أصبحت مع مرور الوقت المصدر الأساس في الشريعة وأحكامها.

الغناء والموسيقى، هما أكثر ما دارت حوله فتاوى الحُرم في مجال الفنون. فاستند بعض هذا التحريم الى تفسيرٍ آيات في القرآن، كما استند الى الكثير من احاديث النبي محمد والصحابة، التي نُقلت شفهياً عنهم ودُوِّنت بعد نحو 200 عام على وفاتهم. 

استدلَّ مُحرِّمو الغناء والموسيقى الى خمس آيات قُرآنية نذكر أهمها من حيث التداول: ففي الآية الأُولى جاء قول الله: (ومن الناس من يشتري لهْوُ الحديث ليَضُلَّ عن سبيل الله بغيْرِ علم ويتخذها هزراً أولئك لهم عذابٌ مُشين)… وقد فسّر الفقهاء أن اللهو في الآية هو الغناء! أما في الثانية فجاء قوله: ( والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كِراماً)…وهنا أيضاً قالوا إنّ الغناء من اللغو فوَجُب تحريمه!

في الجهة المُقابلة، استدلّ بعض علماء الفقه بمقاصد الشريعة في إباحة الغناء والموسيقى بحدود وضوابط كثيرة، معارضين ما كان قد فُسِّر في تلك الآيات وغيرها من الأحاديث النبوية، ومستندين إلى القاعدة الفقهية البسيطة التي تقول إنّ الأصل في الاشياء الإباحة، إذا لم يرد في النص القرآني نص صحيح وصريح يقول بالتحريم.

لا ضرورة هنا لاستعراض طويل ومُمِل لكل هذه الفتاوى تحريماً أو إباحة. إلا انّ ملاحظة واحدة تجدر الإشارة اليها، وهي أن كل تحريم كان دائماً يأتي مُترافقاً مع فائض قوة تمتعت به السلطة الدينية، ناتج عن إمساكها وتحكُّمها بالسلطات الدستورية او المدنية. في حين أنّ أي إباحة وإن محدودة، كانت تصدر عن ميزان قوى تميل كفّته لمصلحة السلطة الدستورية أو الحاكم المدني (خليفة كان، ملك ام رئيس جمهورية) الذي بدوره كان يتحكّم ويُملي ما يُريده على السلطات الدينية، انطلاقاً من مصلحته السياسية في استمرار حُكمه. 

في محاولة للإجابة على السؤال المتعلق بأسباب كُره الإسلام السياسي الأصولي للغناء والموسيقى، قد يكون الأصح القول إنّ تلك الكراهية وإنْ بدت على شكل تحريم وقمع وعنف، إلّا أنها في الأصل خوف متأصل من ثأثيرات الفنون في المجتمع. جذورُ هذا الخوف كثيرة ومتشابكة ولكن أهمها يكمن:

أولاً؛ في أنّ ظاهرة الإبداع الفني مُتجذرة في التاريخ البشري حتى قبل وجود الأديان. فالإنسان مُنذ نشأته مفطور بالغريزة على الإبداع الذي لولاهُ لما استطاع الاستمرار في العيش والتطور. والإبداع في جوانبه النفسية هو تمثيل لعملية الخلق. أما الأديان فتضع الخلق في عهدة الله وحده الذي لا شريك له.           

ثانياً؛ في امتلاك فنون العرض، من موسيقى ورقص ومسرح وسينما، قدرة هائلة على التأثير وإنْ ببطء على حركة وعي الفرد والمجتمع. هذا الوعي الذي من شأنه أن يُنمّي القدرة على التفكير وطرح الأسئلة والنقد، كما القدرة على الخيال والحلم بحياة أفضل، في حين تُركّز الأديان على الحياة بعد الموت، وتسعى إلى تعطيل  حركة الوعي هذه، وتكبيلها بأثقال من القوانين الإلهية والمحرمات والحدود، مُحوِّلة الحياة الى مجموعة طقوس وعبادات وتجارب مريرة لا خلاص منها، إلا في وعد الجنة المرصودة حصراً للمؤمن الذي يكرّس نفسه لطاعة الله والخضوع الكلّي للسلطة الدينية.

ثالثاً؛ في أنّ ممارسة فنون العرض كلّها تشترط بالضرورة المشاركة بين كل أفراد المجتمع ذكوراً وإناثاً، سواء كانوا مؤدّين أم مُتَلقين. فمن خلال هذه المشاركة يتأمن التفاعل بين الفنانين وجمهورهم، ويحدث التثاقف بين مختلف الحضارات والشعوب. في حين تضع الشريعة الإسلامية حرمات وحدوداً لا حصر لها لمنع حصول هذه المشاركة وعلى وجه الخصوص في اختلاط الجنسين على قاعدة المساواة الجندرية.

رابعاً؛ في كوْن الموسيقى لا تُقدم لنا المتعة والتسلية وحسب، بل أيضاً تُلهمنا عبر تحفيز الانفعال والإثارة للكثير من المشاعر التي تتدفق في الجسد تمايلاً ورقصاً ورغبات. في حين أنّ الجسد هو أكثر ما تعرض للتكبيل والتحريم من قِبل الأديان قديماً. وما زالت الشريعة الإسلامية تتشدد في تكبيله والتنكيل به ونكران وجوده خصوصاً جسد المرأة. فالإسلام الأصولي يعتبر أنّ الشيطان يحضر في ثلاثية الموسيقى- الغناء- الرقص.

لكُلِّ هذا وأكثر يخاف أهل الإسلام السياسى الأصولي و”طالبان” من انتشار ظاهرة الفن في مجتمعاتهم، فيصبّون كرههم عليها ويوجِّهون سهام حقدهم الى الموسيقيين والموسيقيات، قمعاً اضطهاداً وتحطيماً لآلاتهم الموسيقية.

الصورة الآتية من كابول لمشهد تحطيم “طالبان” الآلات الموسيقية، هي صورة تتحدث عن نفسها من دون مواربة. صورة تنطق بالكراهية وتُبشر بالرجوع في الزمن إلى الهمجية والتوحش عند إنسان ما قبل التاريخ.

وبقدر ما تُثير هذه الصورة الغضب والاستنكار لعمل مُشين تحت عباءة التديُّن والنفاق، تُثير أيضاً الاسى والحزن في النفس على أفغانيين وأفغانيّات آمنوا بأن العمل والابداع في فنون الموسيقى والغناء والرقص والمسرح، قد يشكلان أملاً بحياة أفضل لهم وفي غدٍ أجمل لبلادهم.

(درج)