نبيل سليمان: من مفكرة الزلزال: ليس للسوريّ إلا الأمل

0

الاثنين

سحابة هذا النهار طفقتُ ألهج: ليس للسوريّ إلا الريح تسكنه ويسكنها.

لم أستأذن محمود درويش، ولا سليم بركات الذي أهدى الشاعرُ له القصيدة. لم أستأذن الكرديّ الذي لم يترك له الشاعر إلا الريح.

السوري الآن وقد زلزلت سورية زلزالها هو الكرديّ والعربيّ والسريانيّ والتركمانيّ والأرمنيّ والشركسيّ ومن نسيت. السوري الآن هو كل شلوٍ من أشلاء سورية، على الرغم من الجغرافيا المهشمة، وعلى الرغم ممن هشّم هذه الجغرافيا فانكتبت القصيدة: ليس للسوري إلا الريح تسكنه ويسكنها/ وتدمنه ويدمنها/ لينجوَ من صفات الأرض والأشياء. والسوريون يقتربون من نار الحقيقة/ ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء.

فجرًا رقص البيت، رقص زجاج المكتبة وجحش الكوي وما يسمّى ثريّا، ورقصتُ، رقصتْ سميعة، رقص الحذاء والحفاء والدرج والجيران الذين انحشروا في مدخل البناية.

تقول سميعة مومئةً لي: لم يكن خائفًا.

ما الخوف؟ يترجّع سؤال السوري من القامشلي إلى إدلب إلى اللاذقية إلى… بعد كلّ الذي كان – يا ما كان، وغير الله ما كان – منذ اثنتي عشرة سنة إلى غدٍ ليس لناظره قريب.

ظهرًا ترقص السيارة التي ألجأتنا منذ الفجر، وها هي تضرب في الشوارع التي ضاقت بالسيارات، كما ضاقت ساحة الشيخضاهر – قلب اللاذقية – بالهاربين من بيوتهم.

ها هنا، في ظهيرة ربيعية من آذار قبل اثنتي عشرة سنة كانت حناجرهم تدوي: يا درعا نحنا معاكي للموت، وتدوّي: سلمية سلمية، لا سنيّة ولا علويّة، واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد، والسيارة ترقص أمام حديقة المارتقلا التي تفور بما تفور به ساحة الشيخضاهر: مظلات ملونة، خيام صغيرة وقليلة، أراكيل تحت المطر، عيون فاغرة، طفلة تنتحب على صدر امرأة تنتحب، والسيارة ترقص إلى أن يوقفها حاجز – شرطة؟ عسكر؟ أمن؟ – وممنوع المرور إلى الشارع الذي بالغت فيه بنايةٌ بالرقص حتى انهارت على من فيها.

كل الأيام صار اسمها: الاثنين

من يوم إلى يوم ترميك الزلزلة. من اللاذقية إلى جبلة ترميك الزلزلة، ليس لأن أخوتك وأخواتك يقيمون هنا – كانوا يقيمون؟  هربوا إلى القرى؟ – بل لأن نذيرًا قد زلزلك صوته: في حي غزالات من جبلة انهارت البناية التي يسكن فيها الدكتور فايز عطاف والدكتورة هالة سعيد.

فايز جرّاح، وهالة متخصصة بالأمراض العصبية، زوجان من الحب والأبوة والأمومة والثقافة والزهد والنقاء والعطاء، وجبلة تعلم أن فايز يقدم العون المادي المنتظم لعشرات من الأسر المعوزة، وبخاصة ممن تزلزلت أوضاعهم بعد 2011.

فايز وهالة وعمر من الصداقة، وأنت تنخطف أمام الكومة – البناية التي ينبش فيها الروس، وتسورها مركباتهم العسكرية العملاقة على مشهد من علمهم، ومن المئات الذين تحلقوا دعاءً ورعبًا وترقبًا، وفي العشية سينبشون جثتيّ اللذين سيتوسدان معًا في الصباح قبرًا واحدًا، بعد أن يملآ واحدة من النعوات التي تملأ جدران جبلة واللاذقية: من ينسى مقالة ميشيل كيلو (نعوات سورية) التي جازته عليها العدالة الأمنية بالسجن ثلاث سنوات من 2006 إلى 2009 في سجن عدرا من سوار دمشق.

زلزال هو إذن، ولأنك عجزت عن أن تكتب عنه أيامًا بلياليها، لك وعليك أن تتهجّى ما يكتبون:

“كأنه حركة ارتدادية للزلزال الكبير الذي ضرب هذا البلد منذ عشر سنوات”: بشير البكر.

“الزلزال يكاد يكون الاسم العام لكل ما يأتي من سورية منذ عام 2013 على الأقل”: ياسين الحاج صالح، الذي يؤكد على أن عواقب الزلزال البشرية والمادية هي التي تدعو إلى النظر إلى الزلزال كمسألة سياسية.

معن البياري: يفصّل في اقتراض لغة الصحافة مفردة (الزلزال) من أهل الجيولوجيا لخلعها على حدث كبير، فيكتب (زلزال سياسي)، ويضرب مثلًا بزلزال احتلال الكويت الذي لا زالت ارتداداته تتوالى منذ ثلاثة عقود. ويصف البياري زلزال الاثنين بأنه طبيعي، كارثي، وغير سياسي، بينما ” كنا نأمل زلزالًا سياسيًا لم يقم”.

هي إذن مسألة سياسية مهما يكن من أمر المجاز وأفانين البلاغة أو الاقتراض من لغة الجيولوجيا وسواها.

هو زلزال سياسي إذن، كان ينادي منذ غابت شمس الثورة السلمية براميلَ متفجرة وقصفَ حلب الشرقية والميليشيات الطائفية وداعش وجبهة النصرة وأحرار الشام والباصات الخضر وأيًا من الاحتلالات أو الدويلات أو المعتقلات أو المجازر أو التهجير أو امبراطوريات الفساد الموالية أو المعارضة أو…

ليلةً بعد ليلة، وإلى أن ينعم عليك النوم بليلة، دع عينيك – عيونك تتقلب بين السطور: أبو الفداء يقص عليك أدمى القصص في (المختصر في أخبار البشر) أن معلم كتّاب كان في حماه. ولما فارق المكتب/المدرسة وانهار السقف على الصبيان، لم يحضر أحد يسأل عن صبي، لماذا؟ لأن أهاليهم قضوا أيضًا.

من شمس الدين الذهبي إلى كمال الدين الغزي، ومن ابن كثير إلى أسامة بن منقذ إلى…. يضرب اللاذقية عشرة زلازل منذ ألف سنة حتى الاثنين.

وأنت تقلّب وتتقلب بين سطور ذاكرتك وسطور كتب وكتّاب، وإذا بزلزال الاثنين عريق ومكين، يرميك بين مائتي ألف قتيل/ شهيد/ ضحية، ويطوّحك بين جبلة واللاذقية، بين حلب وحماه وحمص، بين أنطاكية وطرابلس، ثم يرميك…

***

إلى كل الذين سمعوا أو قرأوا أو شاهدوا نهر العاصي في زلزال الاثنين يطغى على سد قرية التلول فيطغى السد على القرية والقرى ومثل سد التلول هو أيضًا سد ميدانكي على نهر عفرين.

إلى كل الذين لم ينسوا انهيار سد زيزون:

أقدم روايتي (درج الليل… درج النهار) التي صدرت عام 2003، وتحدثت عن سد زيزون، وعن السدود التركية العملاقة التي أورثت سورية والعراق كارثة الجفاف، وفتحها أخيرًا زلزال الاثنين.

(درج الليل… درج النهار) أيضًا تحدثت عن حرب المياه الآتية لا ريب فيها، لا سمح الله، يومئذٍ قد يكون زلزال الاثنين زلزالًا رحيمًا.

***

لا، ليست صفائح تكتونية وما أدراك، بل هو الغضب الإلهي – على وزن النصر الإلهي – قد رماكم بزلزال الاثنين جزاءً وفاقًا على مواقفكم العربية الإسلامية الخجولة تجاه حرق القرآن.

أما هذا السوري حسن حسين فيكتب: “إنها دولة يسكنها الموت”.

في قرية سطامو في سوار اللاذقية انهار ستة عشر بناءً من أصل مئة بناء وبناء في اللاذقية. وفي سطامو كم من بناء تصدّع، وفيها أكثر من خمسين جثة، وأكثر من مائتي سلة غذائية، وإعلان عن سرقات منها، ونفي للسرقات، فما وقع هو فقط تقصير لا غير… أما حاضنة اللاجئين في الشمال جنديرس فقد انهار فيها 257 بناء، وفجعت بـ 756 قتيلًا، وألف مصاب.

سطامو هي جنديرس وجنديرس هي سطامو لأن إدلب هي اللاذقية واللاذقية هي إدلب، والقامشلي هي حلب وحلب هي القامشلي…. والشمال الغربي والشمال والشرق من سورية هو الجنوب وهو الغرب بفضل زلزال الاثنين، حتى لو أصرّت القنوات التلفزيونية على التفريق، وشمت شامت من الموالاة بسورية غير المحررة مهما يُقل إنها محررة، أو لو شمت شامت من المعارضة بسورية الرسمية. ومن يدري فقد يوحد الزلزال الطبيعي ما فرّقه الزلزال السياسي، مهما تسيّس الأول ومهما تطبعن الأخير.

***

معذرة من الصديق معن البياري إذا كتب: ليس للسوري إلا اليأس.
من أية فيللا أو قصر في سرمدا إلى أي فيللا أو قصر في دمشق أو الرقة…
من أية أنقاض أو أية خيام في أنطاكية أو غازي عنتاب أو الأتارب…
من أية سورية إلى أية سورية: ليس للسوري إلا الأمل.

*ضفة ثالثة