تضاعفت عناية خيري الذهبي (1946 – 2022) بالتاريخ سنة بعد سنة، ورواية بعد رواية. وبقدر ما كان يبدو في المنابر غير الروائية مؤرخًا واسع الاطلاع وبالغ الدقة والعمق، كان حذرًا في رواياته من طغيان المادة التاريخية وفجاجتها التي وصلت ببعضهم إلى حدّ ضياع الرواية بين متطلباتها الفنية وبين المادة أو الحمولة التاريخية المبهظة. بالتالي كان الفن الروائي هو الأول والآخر في روايات الذهبي ذات الصلة بالتاريخ أو ذات الشأن التاريخي، سواء أكان قريب العهد، كما في “ملكوت البسطاء” التي عادت إلى مطلع القرن الماضي، أم بعد العهد وضرب في بطون التاريخ، كما في “فخ الأسماء” أو “المكتبة السرية والجنرال”. وبين ماضٍ قريب وماضٍ أبعد تتموضع رواية خيري الذهبي “الإصبع السادسة” (2012) التي جعلت وكدها أيام إبراهيم باشا (1789 – 1848)، والقصد هو أيامه السورية أو أيامه الشامية التي لم تدم طويلًا (1832 – 1841)، لكنها تركت بصمتها التاريخية التي حاولت رواية “الإصبع السادسة” أن تتقراها وهي تحفر فيها وتعيد بناءها كما يشاء الفن الروائي.
لقد بينت لي هذه الرواية الفرق بين “احتراف” خيري الذهبي للكتابة الروائية وبين “احترافي”. وبيان ذلك أنني وقعت منذ قرابة أربعين سنة على مخطوطة في المركز الثقافي في اللاذقية، هي ثبت لوقائع جلسات مجلس مدينة اللاذقية عندما كان إبراهيم باشا واليًا على سورية الطبيعية، أو بلاد الشام (سورية ولبنان وفلسطين والأردن). وكان “محضر” كل جلسة بيانًا تفصيليًا لأهم حوادث المدينة بين جلسة وأخرى، ومداخلات الأعضاء وقراراتهم فيما يتعلق بالاقتصاد أو النزاعات أو أي شأن من شؤون الحياة اليومية. وقد أعارني المخطوطة الصديقُ الراحلُ عبد الكريم البني، الذي كان أمين المكتبة في المركز الثقافي، ونقلت منها ولخصت ما حسبت يومئذٍ أنه كافٍ لأن أكتب رواية. ثم نام المشروع في الأدراج طويلًا، ولما عدت إليه طلبت النجدة من صديقي ومن المخطوطة، وكانت المفاجأة القاصمة أن المخطوطة نُقلت إلى ركن في الوزارة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعاد المشروع إلى الأدراج إلى هذا اليوم، أما خيري الذهبي فقد نبش في المصادر والمراجع المتعلقة بزمن إبراهيم باشا السوري، وبذيول ذلك الزمن، حين بات يقال عنه كما نقرأ في الرواية “هذا المصري الملعون لم يترك البلد إلا بعد أن ملأها بالأرامل والثكالى”. وفي الرواية أيضًا أن الوالي المهزوم مضى إلى مصر، وتخلى عن الشاميين الذين جندهم من حمص وحماه ودمشق ونابلس وغزة – ولا أدري لماذا نسي الذهبي اللاذقية والساحل وجباله – واستبقى الشوام ممن نسوا حياتهم الشامية، والتذوا للمرة الأولى منذ أجيال بفتح المدن واصطفاء التركيات الجميلات، وتركوا نول الحرير وبيع ما أنضج البستان على الحمار. ولا تفتأ الرواية تبدي وتعيد في شأن إبراهيم باشا. فبعد رجوع الأرناؤوطي إلى مصر، ثم موته بعيد موت أبيه، حمل معه الحلم الجميل الذي زرعه في الشام، بحسب بعض شخصيات الرواية (حسن آغا)، على العكس من شخصيات أخرى ترى العكس، مثل نفيسة زوجة حسن آغا التي تتحدث عن ابنيها اللذين حاربا مع (الفاسق المصري) ضد خليفة الله في الأرض، سلطان الزمان العثماني. أما حسن آغا المرعشلي فقد ركبه اليأس بعد وفاة إبراهيم باشا وأبيه، وقدوم الولاة من أبناء محمد علي وأحفاده بلا (أحلام)، ثم هجوم الولاة الأتراك المنتقمين لاستعادة شام شريف كما كانت قبل قدوم رسل الثورة الفرنسية الملثمين بثياب الفاتحين وهادمي السلطة العثمانية.
قرأ حسن آغا المرعشلي “رسالة الغفران”، وكان يحاضر بها على برناردو الذي طالما حاضر بفولتروالماغنا كارتا، وتغنى -كما يتغنى مبدعه الروائي- بالفترة الذهبية التي عاشتها البشرية، حيث اختلطت الثقافات والأعراق. وقد حدث برناردو حسن آغا أيضًا عن لوسيان اليوناني من أصل سوري من سميساط، صاحب الثمانين كتابًا، ومنها كتاب “الربة السورية” عن الأرباب السوريين قبل ظهور التوحيد. وكان لوسيان يصرّ على أن يكتب “إحنا يا سوريين” كما كتب عن صعوده إلى السماء ومقابلته فيها للشعراء والحكماء والفلاسفة. وكان برناردو قد طرد من جنته التي بناها مع صديق عمره غاريبالدي خيالًا فخيالًا وحلمًا فحلمًا، وهجر الرسم وهجر الجامعة، أو هجراه منذ احترف الثورة. وأحسب أن المؤرخ قد ضغط هنا على الروائي والتأرخة ضغطت على الرواية في واقعة نادرة، وذلك فيما سبق عن الفلاحين المصريين وعن برناردو نفسه.
أسرع رجال السلطان العثماني إلى محو آثار المصري، وذلك بنشر الدعاة والداعيات. فالمصري خوّف الجميع، وهيّج الجميع، ثم رحل. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لمن درس في الأزهر، دون أن يحصل على “العالمية”، والذي كان كتاب الطهطاوي رفيق وسادته، وطالما تمنى السفر إلى “باريز” ليرى الانفجار – والانفجار هو ثورة 1848 – الذي جعل العوام يثورون على الأغوات والمقاطعجية والخوارنة… إنه حسن آغا المرعشلي الذي علّمه الفرنسية مسيحي سوري، وزلزله كتاب جان جاك روسو “العقد الاجتماعي” وكتاب زاديغ وكان قد عاد من القاهرة بحملٍ من الكتب بدلًا من شهادة “العالمية”.
حسن آغا بعبارة أخرى هو واحد من رجالات النهضة. وسوف يأتي بعده بعشرات السنين من رجالات النهضة من ينظر إلى أيام إبراهيم باشا السورية مثل نظرة حسن آغا: إنه محمد كرد علي (1876 – 1953)، وهو أول وزير للمعارف (التربية) في سورية، وأول رئيس لمجمع اللغة العربية بدمشق حتى وفاته. وقد نقل عنه محمد أسعد طلس وغيره من المؤرخين أن كرد علي قدّر عاليًا تأسيس إبراهيم باشا لمجلس الشورى (ديوان المشورة) الذي ضمّ بالإضافة إلى المسلمين، يهودًا ومسيحيين. وإبراهيم باشا، كما يعدد كرد علي، رتّب المجالس العسكرية، ورتّب جباية الخراج ومعامله الرعايا بالمساواة والعدل “لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم”، ولذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء. ويرى كرد علي أن حكومة محمد علي باشا، والد إبراهيم باشا، كانت من أفضل الحكومات خلال القرون الثلاثة أو الأربعة الأخيرة. كما يرى أن ذلك العهد القصير قد أحيا التجارة والصناعة، وقرّب العلماء والشعراء، لكنه أخطأ بفرضه التجنيد على الشباب (قانون الجهادية).
في رواية “الإصبع السادسة” شخصية أخرى من الشخصيات التي يبنيها خيري الذهبي باقتدار في رواياته. إنه الشاويش أبو حسان الذي اشتهر بسيرته في أثناء خدمته مع الباشا المصري عبر الأناضول وجزيرة كريت. وأبو حسان عقيم بسبب الأهوال التي أرعبته خلال الحرب الطويلة في “الروملّي”، ثم في حرب إبراهيم باشا ضد العثمانيين. كما جعلت الحرب منه حكواتيًا يتفنن في سرد حكاياته الطويلة المرعبة عن فتح قونيه ونهب نزيب وفتح أضنة والنساء التركيات… وقد لوّن الرواية لقاء “الرحّالتين”: أبو حسان الذي حمله المصري في رحلته العجيبة لغزو العالم، وبرناردو طريد القارتين الذي حمل رسالة توصية لحسن آغا من صديقه المصري نعمان، ودأب حسن آغا على أن يحدثه مفتونًا عن تاريخ سورية، بينما كان افتتان برناردو الرسام بملك ميمونت وصقلية فيتوريو الذي كان يسعى إلى إقامة مملكة في إيطاليا تحكمها أسرته. وكان برناردو أيضًا يتحدث عن باكونين الذي قرر أن ينشر الثورة في العالم ضد الطغاة والخوارنة.
يصوّر السرد أحيانًا ما يأتي بحرف مائل تميزًا له عن بقية النص، ولكن دون مبرر فيما يبدو لي. لكن الأهم هو تلك المشهديات المتوالية في الرواية، والتي تذكّر بما لخيري الذهبي أيضًا من الخبرة بكتابة المسلسلات التلفزيونية. فعندما أجدبت السماء وحُقّتْ صلاة الاستسقاء في حوش بلاس من دمشق، جوّع الناس أبقارهم وأغنامهم، وعطشوها، لتخور وتثغو وتنوح مشاركةً للبشر. وثمة مشهد جنازات الشهيدات، ومشهد رأس الطفل الذي يتدحرج مثل كرة الصبيان، والمشهد “الداعشي” لذلك الذي هيّج النار وراح يتأمل الرأس المتدحرج، حيث خُرقت عين بمسمار محمّى. كذلك هو مشهد رقبة الطفل المحزوزة التي يقول السارد إنّ حزّةً واحدة من الحزّاز الخبير فصلت الرقبة عن المنكب، والطفل حيّ!
يسعى أبو حسان إلى معرفة أهل الطفل المحزوز الرقبة. لكن اللغز الأكبر هو قتل وتمزيق الرضعاء، وتكاثر الأطفال (العجبة)، فهذا طفل بثلاثة أذرع، وهذا بثلاث عيون، ولهذا ذراع ضئيلة ناتئة من إبط الذراع اليمنى، فلتكن إذًا لأحدهم إصبع سادسة ليكون للرواية عنوانها. وهذا “عنيز” يعترف بسر الأطفال العجبة، فقد رأى الست نفيسة تلد طفلة لها أصابع زائدة في كفيها وفي قدميها. ومن المشهديات التي لا تنسى أيضًا موكب النساء المولولات اللاتي يعولن في طلب المطر، كاشفات عن الصدور وحاسرات عن الشعر، بينما الرجال يلبسون الفروات المقلوبة. ومن ذلك أخيرًا تسوير المقبرة التي تنهش الضباع فيها الجثث، بالقنب المحشو بالبارود، وإشعال سور البارود على إيقاع الطبلة، مع ترك منفذ وحيد للضباع: إنها المصيدة. وفي المدينة تُنصب خيمة، وأمام الخيمة طفل ينادي: “تعا تفرج على الضبع اللي أكل الططري، وضيّع مكاتيب الوالي على طريق دوما”. والسقيا للغتنا التي فيها “الضبْع” رفعٌ لليدين في الدعاء وفيها “الضبُع” هو الشر وهو السنة الشديدة المهلكة وفيها الضبعانة والضبْعان والأضبع والضباع والضُبَّع والضَبُعات والضبْعات والمضبعة…
أما رواية “الإصبع السادسة” ففيها سوى هذا الرعب ألق الفن، ليس فقط بالرسام الذي يُقتل في السوق الطويلة “برناردو” بل بالرسامة أروى التي بدأت ترسم على غير مثال، ومن رسومها التي تختم الرواية واحدة تشبه أروى نفسها وهي تطير غير مكترثة بالغوغاء ومتأبية على نيرانهم. وكانت تقوم بدور “أنس الجليس” في هيئة فتى يتغزل به المتفرجون. وفي الرواية فسحة لـ “الكوميضة: الكوميديا”، كما لألف ليلة وليلة، بينما التاريخ – الحفريات – يرمي بأولاء الذين كانوا رسل العقد الاجتماعي في دمشق، فإذا بهم يتحوّلون إلى وحوش.
ضفة ثالثة