نبيل سليمان: عن الفيروزيات السورية.. ما زالت تنبض كأنها ابنة اليوم

0

تتعدد وتختلف الروايات حول الظهور الأول لفيروز في سورية. ولعل أوثقها أن تكون ما اعتمده الباحث، والوزير السابق، سعد الله آغا القلعة، في موسوعة كتاب الأغاني الثاني، حيث يؤكد أن الظهور الأول كان في 21/ 2/ 1952، على مسرح سينما دمشق، كما هو مثبت في سجلات الإذاعة السورية آنئذٍ. أما المناسبة فكانت حفلًا أقامته لجنة مؤازرة لتسليح الجيش السوري، بحضور الزعيم (رتبة عسكرية) فوزي سلو، رئيس الدولة، ورئيس الوزراء، بفضل انقلابٍ عسكري، والعقيد أديب الشيشكلي، رئيس الأركان، الذي سيترأس الدولة بانقلابٍ تالٍ.
غنت الشابة اللبنانية التي كانت في بداية مشوارها الفني الواعد قصيدةً للشاعر اللبناني بشارة خوري (1885 ـ 1968)، وهو الشهير بالأخطل الصغير، وشاعر الحب والهوى، وشاعر الصبا والجمال. أما القصيدة فهي “ذكرى بردى”، وقد لحنها الأخوان منصور وعاصي الرحباني، ومنها “بردى هل الخلد الذي وعدوا به/ إلاّك بين شوادنٍ وشوادي/ قالوا: تحب الشام؟ قلت جوانحي/ مقصوصة فيها، وقلت: فؤادي”. وقد ظهرت فيروز في الصورة مع المطربة السورية حنان (1929 ـ 2011)، وهي جانيت حايك هاروني، كما شاركت في الحفل المطربة سعاد محمد (1926 ـ 2011) بأداء قصيدة أبي القاسم الشابي “إذا الشعب يومًا أراد الحياة”.
تتسمّى سورية غالبًا في الأغنية الفيروزية بالشام، أو ببردى، أو دمشق. ومن البدايات أيضًا هذه الأغنية التي تعود إلى عام 1954، من كلمات وألحان الأخوين الرحباني “بلادي وحبك يا موجعي/ معي يا بلادي يعيش معي/ تراباتك المطلعات الربيع/ أكف من الذهب الممرع/ وغيماتك البيض سكبُ العبير/ تُحَبّ وتنزل في الأضلع (…)/ بلادي وزهر دمشق يضوع/ بما في الدار من شذا ضيّع/ دمشق الجميلة عند رُبًا/ من الشرق طيبة المرتع/ يحدّث عنك برفعة رأسٍ/ حديث البطولات لم تركع/ إذا تُذكرين يشيل جناح/ ويوغل في الزمن المسرع/ سألت لنا الله أيام رغدٍ/ كصحو مطلاتك الممتع/ بلادي عليك سلام الشعوب/ ففي البال أنت وفي المسمع”.

ومن الأغاني المبكرة المجهولة التي كتبها ولّحنها الأخوان الرحباني أغنية “فتاة سورية”، التي جاءت مقدمتها الموسيقية أشبه بواحد من مارشات الانقلابات العسكرية التي تواترت في سورية منذ عام 1949 حتى 1954، ثم تواترت منذ 1961. وتذكّر أغنية “فتاة سورية” بالأغاني الوطنية في خمسينيات القرن الماضي، بتركيز خاص على المرأة، ولكن بقدرٍ أكبر من البساطة، وأحيانًا من السذاجة والمباشرة: “فتاة سورية.. هيا إلى المسير/ فتاة سورية.. لك الغد المنير/ أيتها المواكب المدلّة افتخارًا/ أيتها الطلائع اخطري في الضياء/ جهادنا للحق والإخاء يا عذارى/ نشيدنا للمرتجي للخير للبناء/ ها نحن سورية/ جميعنا نسير/ ها نحن سورية.. لنا الغد المنير”. وهذه الأغنية ـ هل أقول: هذا النشيد الطلائعي؟ ـ طويلة، ومنها: “نحن جنود سورية.. إذ دعا النفير/ إذ دعا النفير.. جميعنا نسير/ ومن ألوفنا نشيدنا المثير:/ يا سورية.. يا سورية/ إنّا هنا إنّا هنا للموعد/ يا سورية.. يا سورية/ لك الربى لك الذرى هيا اصعدي”.
وشبيهة بأغنية “فتاة سورية” تأتي أغنية “سورية” المبكرة المجهولة، كلماتٍ وألحانًا، وهي أيضًا للأخوين الرحباني، وفيها: “سورية.. سورية/ مواكب تسير في مطالع الضياء/ سورية.. سورية/ فأخفضي الجباه يا جبالُ للإباء/ وارسمي الدروب يا سماء/ واملأ القلوب يا رجاء/ قد أطلت الجموع بالنداء/ فاستنيري يا ملاعب الصفاء/ بلادنا على فم الصحارى/ مروجها تعانق الغمام/ بلادنا المدلّة افتخارًا/ منائر توزع السلام”. وفي ختام الأغنية: “أسورية فلتعلم الشعوب/ بأننا نفنى ولا نلين/ أسورية ولتهنأ القلوب/ لن يدخل الغريب للعرين/ دولة التاريخ والصروح/ قمة العلياء والطموح/ يوم يدعو الجيش للفتوح/ دارنا الأمجاد والعلاء/ سورية.. سورية”.
تبلغ الفيروزيات السورية غايتها القصوى في شاميات الشاعر اللبناني سعيد عقل (1912 ـ 2014). وقد توقفتُ عندها مطولًا في مساهمتي تحت عنوان “الدلالات والمفاعيل القومية لأغاني فيروز في بلاد الشام”، وذلك في نشرة “أفق”، التي تصدر عن مؤسسة الفكر العربي في بيروت، وأوقفتْ عددًا لفيروز.

من منا لم تأخذه يومًا بسَوْرتها قصائد: “أحب دمشقا هواي الأرقّا”، أو: “قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب”، أو: “شام يا ذا السيف لم يغب”، أو: “بالغار كُللت أم بالنار يا شام”، أو: “نسّمتْ من صوب سورية الجنوبُ/ قلت هلّ المشتهى وافى الحبيبُ”، أو: “سائليني يا شام”.. وقد كانت آخر الشاميات الفيروزية عام 1976: “يا شام عاد الصيف متئدًا وعاد بي الجناحُ/ صرخ الحنين إليك بي، أقلعْ، ونادتني الرياحُ/ أصوات أصحابي وعيناها ووعد غدٍ يُتاحُ/ كل الذين أحبهم نهبوا رقادي واستراحوا/ فأنا هنا جرح الهوى وهناك في وطني جراحُ/ وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباحُ/ يا حبّ تمنعني وتسألني متى الزمن المباح/ وأنا إليك الدرب والطير المشرد والأقاحُ/ في الشام أنت هوىً وفي بيروت أغنيةٌ وراحُ/ أهلي وأهلك والحضارة وحدتنا والسماحُ/ وصمودنا وقوافل الأبطال ضحّوا وراحوا/ يا شام يا بوابة التاريخ تحرسك الرماح”.
من الفيروزيات السورية المنسية أغنية “ميسلون”: من كلمات الأخوين محمد وأحمد فليفل، اللذين لحّنا النشيد الوطني السوري “حماة الديار”، والأناشيد التي تربينا عليها جيلًا فجيْلًا: موطني ـ نحن الشباب ـ في سبيل المجد، وسواها. أما الأغنية الفيروزية “ميسلون” فقد لحّنها الأخوان الرحباني: على الأرض فوق السهول/ وعبر شعاب الجبال/ على الأرض بين الوحول/ وفوق الدروب الطوال/ نشق الطريق ونمضي/ سراعًا لخوض القتال/ عند الحدود وفي ميسلون.. لنا ذكريات/ بطولات جيش تحدى المنون../ ليبني الحياة الحياة/ وأحيا على الأرض عبر القرون../ شعار المشاة على الأرض../ رفاقي إما دعاني النفير.. فكونوا الجواب/ وإما دعا الصوت كي ما نغير../ فشبوا الحراب الحراب/ وهبّوا النسقي التراب الأثير.. دماء الشباب/ على الأرض..”.

الطبع، نال الفيروزيات السورية ما نالها من فعل الزمن. وفعل فعله أيضًا ما عاشت سورية منذ 2011. ولكن من الفيروزيات السورية أيضًا ما لم يزل ينبض كأنه ابن هذا اليوم، بينما تشققت سورية، فصارت سورية الكردية الأميركية، وسوريا التركية، وسورية ـ أم السوريات ـ المنافي، وسورية (المفيدة)، وما أدراك ما سورية المفيدة. وإذا كان لا يزال من الفيروزيات السورية ما يغالب كل ذلك، ويرسل نبضًا حارًا، أقلّ أو أكثر حرارة، مهما يتبدل أو يتخافت، ففي المقابل نجد بين المقالات المتكاثرة حول الشأن السوري في راهنه ومستقبله وماضيه القريب، ما يشبه النعوة، لكأنها ترجيع لما كتب جبران خليل جبران قبل مئة سنة: “يا سورية، يا سورية، يا أرملة الأجيال وثكلى الدهور، يا سورية يا بلاد النكبات، يا سورية يا أمًا لا أبناء لها”، أو ما كتب أيضًا في رسالة إلى ماري هاسكل: “آه يا ماري، يا ماري، أية بلاد تعيسة هي سورية! ما أتعس أبناء سورية! لقد تحملوا الكثير الكثير، ولوقت هذا طوله، بحيث أصبح الألم، الألم الفظيع، طبيعة ثانية”.
إنها نفثة المكلوم الحرّى التي قد يكون الشعر بها أولى من تحليلات وتنظيرات وندب المقالة السياسية عن سورية التي وقعت وكثرت سكاكينها، كما كتب بحق موفق نيربية يومًا.
لقد كتب أنسي الحاج في جريدة “الأخبار” اللبنانية في 16/ 2/ 2013، أي في السنة الثانية للثورة/ الزلزال، إن غيرنيكا تبدو مضحكة أمام الفاجعة السورية، وكذلك يبدو جحيم دانتي أمامها ترفًا. وتساءل أنسي الحاج: “هل في سورية بعد إلا هواء المقابر؟”، ونادى إلى لغة جديدة “لقول الهول السوري”. وإنها لنفثة المكلوم أيضًا. غير أن من مقالات النعوة والندب ما يقصر عن أو يزيد على أن يكون نفثة حرّى، إذ تقصف بما يجعل المرء يتساءل عما إن كانت تتحدث عن بلد آخر.

*ضفة ثالثة