نبيل سليمان: حين تتشكّل السيرة رواية

0

يتعدّد حضور هالة البدري في رواياتها، مرةً أقل سفورًا، فتكون راويةً بضمير المتكلم وبلا اسم، ومرة متحجبة باسم آخر، كأن تكون المراسلة الصحافية المصرية نورا سليمان في رواية “مطر على بغداد”. وقد كتبت في روايتها “نساء في بيتي” أنها مؤرقة برواية سيرية، وليس لديها الجرأة على ذلك، ولكن: “لن أبقى خائفة إلى الأبد”.
في رواية “طيّ الألم”، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (2022)، تحضر الكاتبة هالة البدري باسمها الصريح، وتجهر بأنها أبقت هذه الرواية عشرين سنة حبيسةً، ولكن ليس لأنها رواية سيرية، أو سيرة روائية، بل لأنها ظنت أن موضوع الرواية لا يهم أحدًا. وقد جاءت الرواية في فقرات/ فصول معنونة، ليست كل منها غير قصة قصيرة، وهالة البدري ظلت وفيةً للقصة القصيرة، ومتألقة فيها، بخلاف من هجروها بعدما انفردت بهم الرواية.
تُحَدِّثُ هالة البدري أنها تنشد العزلة من أجل الكتابة. وكانت تشعر بقرب زوجها أحمد أن حريتها، بالأحرى عزلتها، منقوصة، فالإحساس بأنها مراقبة يفسد العزلة المنشورة، وهي تقيم (معسكر كتابة) من أجل رواية. وسرعان ما تشرك الكاتبة من يقرأ/ تقرأ بسيرة رواية “طيّ الألم”، ابتداءً من منحة “بيت الكتاب” السويسرية في قصر لافيني مع ستة كتّاب وكاتبات، حيث حزمت أمرها وقررت أن تكتب ما كان من مرض زوجها غير عابئة بأي شكل يكون للكتابة: “سأكتب فحسب ما حدث”. ونقرأ: “أكتب دون أن أعيد قراءة ما كتبت. للمرة الأولى في حياتي لا تهمني الصياغة، ولا أحاول الوصول لمستوى رفيع للغة التي أعبر بها، بل ألقي بها وأمضي هاربةً منها، وأنا أعي تمامًا أني أقطع طريقًا طويلًا لألتفّ حول كتابة المنطقة الحرام: لحظاتنا الأخيرة معًا”.
بين يوميات منحة الكتابة وكتابة “طيّ الألم” في القصر الذي يحمل اسم قرية لافيني، وبين يوميات مرض الزوج ورحيله، ينهض بناء الرواية القصيرة (نوفيلا). هكذا ترتسم شخصية أحمد روائيًا، وليس فقط سيريًا، فهو الزوج المثالي المترفع عن شهوات الحياة، وصاحب مصنع، أصيب في الكبد بفيروس سي الناتج عن البلهارسيا. وقد أبدعت الكاتبة في تقديم قصة المرض، فجعلته أكبر سلاسة على الرغم مما يحف بمثل هذا (الموضوع) عادة من العسر، فعادت إلى تجربة المرض في فصل/ قصة (حيرة)، فاتّقد التصوير لمرحلة البحث من جراح إلى آخر. وفي فصل/ قصة (التحام) تستعيد دقائق خروج أحمد من الجراحة إلى الترجّح بين التحسّن والتدهور الذي سينتصر أخيرًا.
ينافس ما في “طيّ الألم” من سيرة الكاتبة ما فيها من سيرة الكتابة، بينما هما يتفاعلان ويتكاملان. ولعل الامتياز الفني لذلك يقوم في الأولوية الظاهرة حينًا، والمستبطنة حينًا، لسيرة الكتابة، والتي تنادي الميتا رواية ومترادفاته من ما وراء السرد، أو الميتا قص، أو الميتا سرد، أو ما وراء الرواية… حيث تتحدث الرواية عن نفسها، رصدًا لعوالم الكتابة، وكشفًا للعملية الإبداعية، فإذا نحن مع قصة عن القصة، وإذا نحن مع الرواية التي تحكي وقائع تأليفها، وهو ما أدعوه بالكتابة في العراء، الكتابة التي تكشف للقراءة عن أسرار الكتابة. ومن النقاد من يعد ذلك نرجسية الكتابة التي تقوم على التمركز الذاتي، فهي من السرد الذي يكتفي بذاته، وهي ملمح من ملامح ما بعد الحداثة، وقد يكون مفيدًا في هذا السياق أن أشير إلى الجهود النقدية العربية المميزة في كل ذلك: سعيد يقطين في كتابه: الميتا روائي في الخطاب الروائي الجديد في المغرب ـ أحمد خريس في: العوالم الميتا قصية في الرواية العربية ـ آراء عابد الجرماني في: الميتا سرد في الرواية العربية ـ فاضل ثامر في: المبنى الميتا سردي في الرواية.

تكتب هالة البدري أنها عندما سافرت إلى سويسرا في منحة الكاتبة كانت لا تزال في ما سمته مرحلة المتاهة من مراحل كتابة رواية، أي لا تزال في بداية الطريق، أو هي تتلمس الطريق إلى رواية. وتفصل في ذلك بأنها كانت (تخربش) بأفكار، تبدو كل فكرة منها مستقلة، لكن الأفكار توحي بأنها ستلتقي. وهنا الأهم في بناء “طيّ الألم” منذ جنينيته، فتتساءل الكاتبة: “هل هذه قصص قصيرة؟”. وبدا لها كل ذلك أنه علامات لم يحن بعد أوان كشفها: “قطع مبعثرة أعلم أنها تكون دائمًا أساسًا متينًا لعمل في طور النضج حتى لو استهنت بها الآن أو كرهت قراءتها”.
إنها خبرة الكاتبة المتمرسة، وهذه من فضيلة الاحتراف، وهالة البدري كاتبة محترفة في الصحافة وفي الرواية التي تواتر فيها تألقها من “منتهى”، إلى “ليس الآن”، ومن “امرأة ما”، إلى “مطر على بغداد”، إلى “مدن السور”، إلى “نساء في بيتي”، إلى “وادي الكون”، إلى “طيّ الألم”، التي تعلن الكاتبة فيها أنها تكتب عن تجربة خاصة في الفقد، وأنها تكتب وحسب، من دون أن تعرف إلى أين سوف تمضي الكتابة بها/ بالرواية. فالأيام تتعاقب في قصر لافيني، والنص/ الرواية ينمو “مثل شجرة تتفرع إلى أغصان”. وهي رواية/ نص “مكشوف لي ولكم مثل الفضيحة، كما يتناقض مع لعبة الأدب ومكر الكاتب واحتفاظه بأسراره إلى الحد الأقصى الذي يمكنه من العبور بقارئه إلى حيث تعشش جوهرته”.
كذا تشرك الكاتبة القراءة في لعبتها، بالأحرى: محنتها. وفي هذه المحنة يدهشها عدم القدرة على أن ترسم صورة أحمد، وتعلل ذلك بقصور إمكانياتها عن بناء شخصية روائية، والعجز عن الكتابة عن أقرب الناس إليها “عن الفراغ الذي أجده في داخلي كلما اقتربت منه”.
ليس الأمر تواضعًا ولا مازوخية، إنه الصدق الكاوي في التعبير عن معاناة الكتابة السيرية الروائية. وهذا الصدق هو الذي ينسج مثلًا في فصل/ قصة (الغرفة) عودةَ الكاتبة إلى المستشفى بانتظار إجراء الجراحة لأحمد، مع استعادة العيش العائلي في الغرفة في قصر لافيني، حيث أرهقتها الكتابة في ذلك اليوم. فكلما حسبت أنها اقتربت من الذروة، يزداد إحساسها بالرفض، وتتضاعف بها الرغبة بترك الرواية متسائلة: “لماذا دخلت هذا الشرك؟”. لكن الكاتبة انتصرت على مرارة التجربة وآلام المخاض، فكانت “طيّ الألم”.
من سيرة الكاتبة هذه المرة بعدما تقدم من سيرة الرواية، ما يأتي في ما يشبه المتوالية السردية، ففي قصر لافيني تتأمل الكاتبة التي نزلت في غرفة وليم فولكنر ـ وكل غرفة تحمل اسم كاتب شهير ـ قصة من وهب القصر لمنح الكتابة والكتّاب والكاتبات: روهلت، وجيني التي طلقت مليونيرًا من أجل الحب، وأم روهلت الممثلة المغمورة التي عشقت من أورثها حملًا ثم اختفى، ثم ظهر… وفي أيام الكاتبة في سويسراـ قرأت في القصر من روايتها “منتهى”، كما شاركت في جنيف في حفل توقيع كتب عربية، أقيم بمناسبة مرور خمسين سنة على ثورة 1952، وشارك في الحفل الروائيان المصريان بهاء طاهر، وجميل عطية إبراهيم.
وفي جنيف، يلتمع الوصف في السياحة بين المدينة القديمة، والحي التجاري، والكاتدرائية، والشوارع البازلتية، والبجعات البيض المتعالية، ونافورة البحيرة… وبمثل ذلك الالتماع تحكي الرواية حكاية توهان الكاتبة في الجبل وحَرَن سيارة صديقتها على شفا هاوية، فتنهمر ذكريات الكاتبة عن شهر العسل مع الزوج الراحل فوق جبل صفين الممتد من العراق إلى إيران. ولا تفتأ الكاتبة تنادي من سيرتها لحظات خاصة، أو بالغة الخصوصية، تثري عالم “طيّ الألم”، كما في الاستغراق في تفاصيل الماضي مع الزوج الراحل: السيارات وحديقة البيت وآنية البورسلان ورفضها التبرع بملابس المتوفى، وما قال لها صديقها عبد الحميد حواس عند رفض ابنه التبرع بملابس وأحذية والدته المتوفاة، وكذلك الرسام الذي طلب من الكاتبة أن يرسمها من بين خمسة كتاب، وهو الذي يرسم بورتريهات كتّاب، ويقيم معرضًا لرسومه كل حين.
تتساءل “طيّ الألم” عمّن يصنع أقدارنا: الصدفة أم الإرادة؟ وبالتالي: هل نحن مسيرون أم مخيرون؟ أما الجواب على سؤال البشرية الأزلي هذا، فيجيب عليه السعداء قائلين: نحن الذين نصنع حياتنا، سواء كنا نحن من ندفع القدر ليعطينا، أم كان هو من يدفعنا، لا يهم من البادئ.
تواجه الرواية الموت بمثل هذا التساؤل. ومن الماضي المصري ـ مرض وموت الزوج ـ إلى الحاضر السويسري ـ المنحة ـ تفعل تلك المواجهة فعلها، وصولًا إلى مسك الختام الذي يأتي في نهايتين، أولاهما مؤرخة في سنة 2003، أي سنة منحة الكتابة، والنهاية الثانية مؤرخة في سنة 2020، أي في تاريخ قرار النشر. والخلاصة الدقيقة لذلك هي أن الكاتبة لم تلحظ بعد موت زوجها عالم النساء الوحيدات، ولا عالم الرجال الوحيدين. وتعلن أنها ليست مهمشة، ولا تنتظر من أحد أن يضعها في مكان بعينه، وهذه الواعية بعمق وشفافية لأمر (الأرملة) في بلادنا، تصغي إلى ما يخاطبها به صديقها السينمائي: “أنت في حاجة إلى حياة جديدة، ميلاد جديد”. وهذا صوت ماريان الصديقة في منحة الكاتبة يخاطب الكاتبة: “لا بد من علاقة جديدة”، فنقرأ أخيرًا، وقد تشكّلت السيرة روايةً، قولها: “أتشبث بأوراقي، طوق نجاتي”.

*ضفة ثالثة