غادر عالمنا في اليوم ذاته ثلاثة نازحين نجلاء مخلوف وحاتم علي وبيير كاردان تاركين ثلاثة أماكن ستبقى شاغرة الى الأبد. ثلاثة أماكن تخصهم وحدهم تم بناءها لبنة لينة وكل لبنة ممزوجة بالدموع والألم والعمل الشاق حتى صار لهم مكانهم الخاص الذي لا يمكن أن يملأه أحد غيرهم.
لست مع الشاعر جان كوكتو، الذي يقول إن الشعراء لا يموتون وإنما يتظاهرون بالموت. فالشعراء وكل المبدعين والشخصيات الكبيرة يتركون لنا مكانا شاغرا في عالمنا الراهن لا يمكن أن يملأه أحد. ولا حتى أعمالهم. والمكان الذي لا يمكن أن يملأه أحد إلا صاحبه، هو المكان الذي بناه هو بنفسه ولم يخلق به بمحض الصدفة. الشاعر والفنان والأشخاص الكبار لم يسجلوا تميزهم إلا بعد مغادرتهم للمكان الآمن المكتمل الذي لا يحتاج الى أحد كي يملأه، الى مكان قلق لا تتوفر فيه شبكات الأمان والاستقرار التي نسجها غيره له في مكان ولادته. مكان الولادة الفعلي والمجازي، وعلاقاته المنسوجة مكان مكتمل لا يحتاج الى أفراد ولا الى بناء دعامات إضافية كي يستقر، ويستطيع المرء أن يعيش فيه بدون قلق، ولكنه لا يضيف عليه شيئا ولا يتأثر لا بحضوره ولا بغيابه. ليس مديحا بالنزوح بل تأكيدا على أهمية عدم الاكتفاء والاتكاء على أمان ومكان لم ننسجه بأيدينا.
نزح حاتم علي، الطفل ذو الخمس سنوات، من قرية “فيق” في الجولان السوري عندما احتلتها إسرائيل. لم يترك المكان المستقر الآمن المرسوم له للحياة بإرادته طرد منه طردا. وهو مثل محمود درويش لم يترك له المحتل حتى الحلم بالعودة، فبلدته لم تعد موجودة بعد أن شيدت على أنقاضها مستوطنة “أفيك” الصهيونية. تماما مثل بلدة محمود درويش “البروة” التي لم يبق منها ولا حتى أنقاضها. وهذا ما سبب للاثنين قلقا مضاعفا لم يتناقص مع الزمن، لذلك لم يتناقص ابداعهما أيضا مع الزمن.
استمر حاتم علي في بناء مكانه البديل أملا بدواء القلق المستدام. ومن محيطه النازح واللاجئ انطلق يبحث عن الدواء ليس له فحسب، بل كان حاتم علي يحلم بالدواء لنا جميعا، كان يحتفي بكل البشر ويحبهم. كان يحتاج الى مكان وقلب يحتضنه لذلك كان المكان الذي اختاره ليعيش فيه مطمئنا هو قلوبنا ونجح في ذلك. لن أتكلم عن إبداعه وأعماله فلست بناقدة مختصة، ولكني سأتكلم فقط عن الملجأ الذي صنعه لنا وأتاح لنا مكانا نهاجر له في تغريبتنا السورية كلما نهشنا الحنين، مسلسل الفصول الأربعة الذي شاهدناه ملايين المرات في الخارج كما في الداخل، فالغربة عند السوريين لا تقتصر على المغتربين بالخارج فقط.
نجلاء مخلوف، أم ياسر عرفت اسمها الجميل نجلاء فقط يوم أمس بعد غيابها يا للأسف، وحزنت عليها أكثر لأننا جميعا نعرفها بأنها أم ياسر ونسينا أنها نجلاء، ربما الكثير منكم لم يسمع عنها ولكن ذلك ليس غريبا، فالمنابر لا تخبرنا دائما عن كل الرائعين في الحياة. وكذلك ليس غريبا أنكم سمعتم بها الآن ذلك لأن بعض البشر يخبرنا بموته ما لم نسمعه منه طوال حياتهم. وربما بما لا يعرفه هو عن ذاته.
أم ياسر كانت نازحة أيضا بالمعنى المجازي لأن الاستبداد احتل حياتها وبلدتها وعائلتها وطردها منها بالمعنى المجازي أيضا. أما قلبها فقد كان نازحا فعلا لا مجازا، عاش نازحا 15 عاما. نزح الى دمشق، ليس الى قصر المهاجرين كما نزح أقاربها، بل الى سجن صيدنايا حيث اعتقل بكرها ياسر الذي كان معارضا للنظام الاستبدادي. عندما تعرفت عليها شخصيا عرفت كيف تكونت شخصية ياسر القوية والجريئة والتي تضج بالمرح والحياة وتنشر الطاقة الإيجابية في كل مكان. هو يشبهها وهي التي نحتته من جسدها وقلبها وروحها وحكمتها ومع ذلك نسينا اسمها وتذكرنا فقط بأنها أم ياسر. كان كل رفاق ابنها أولادها، وكلهم يبكون الأن فراقها مثل أولاد رحمها. ابنها جمال سعيد قال “كانت تحاول أن تنقل لنا نحن المحرومين ما استطاعت من طعام الدنيا ودفئها وأزهارها، وكيف ثابرت على تخفيف وقع شدة السجن علينا بشدة الحب والكرم والأمومة” وقال ابنها غسان مفلح ” لم تكن ام ياسر تفرق بين أولادها لم تكن تفرق بين السني والمسيحي والعلوي والدرزي والكردي والإسماعيلي” هم رفاق ياسر ومعتقلون وهذا يكفي كي تسكنهم في قلبها. ليس هم وحدهم، بل مع عائلاتهم أيضا، كانت تستقبلهم في بيتها كلهم ومع كل تنوعهم.
ربما يبدو اسم بيير كاردان غريبا أمام حميمية اسمي حاتم ونجلاء، ومشاعري كانت من نوع أخر مع حدث موته، فقد حزنت على عالمنا الذي خسر أحد المواهب الكبيرة التي كانت تجعله مختلفا. وما يجمعه معهما هو أنه نازح من المكان ومن السائد واستطاع نحت مكانا خاصا به لا يمكن أن يملأه أحد.
ولد بيير كاردان في عائلة فلاحية إيطالية فقيرة. هاجر الى باريس هاربا من الفقر ومطاردا حلمه في صناعة الأزياء. درس واجتهد لينحت مكانا خاصا له/ فهو لم يتكيف مع أزياء باريس النمطية بل سعى كما كل القلقين الى بناء ذاته المتفردة وهويته الخاصة، لذلك ساهم في إحداث ثورة في الموضة بتصميماته المستقبلية في الخمسينيات والستينيات. كان مختلفا لذلك فقد رفضه في البداية المكان كما كل الأماكن التي تتكئ على يقين السائد وأمنه، فقد تم طرده في عام 1959، من الاتحاد الفرنسي للموضة. ومع ذلك استطاع احتلال مكان أحد أشهر 5 فرنسيين خارج فرنسا إلى جانب شارل ديغول فقد أثبت جدارته عبر المضي في مواضيع لم يجرؤ أحد قبله عليها. وعندما أطلق مجموعته (عصر الفضاء) بتميمتها التي عكست عصر الستينات والهوس بأبحاث الفضاء آنذاك، نجح بيير كاردان في التعريف بنفسه كأول ممثل للحركة الطليعية والمستقبلية في عالم الموضة والأزياء.
أمي البعيدة كل البعد عن عالم الأزياء والموضة سمعت باسم بيير كاردان. وكانت تعرف حاتم علي جيدا وتحبه مع أنها بعيدة عن أجواء الفن. تماما مثل ماكنت أعرف محمد علي كلاي وأنا لا أفقه شيئا عن الملاكمة. المبدعون يتجاوزن حدود أوساط تخصصهم. إبداعهم يمس المشترك بين كل البشر ويحتل كل القلوب. لكن أمي لم تسمع بنجلاء لأننا لم نحتف بها ويا للخسارة إلا بعد موتها.
*خاص بالموقع