إلى عماد شيحة
ثلاثون سنة تقريباً وأنت تنتظر النور والهواء النظيف، ثلاثون سنة تقريباً وأنت تنتظر هواء الحرية. كم حلمت بأنك ستشرع رئتيك في أعلى نقطة من قاسيون وتعبّ من هواء الحرية المنعش وتلقي التحية على مدينتك النائمة على السفح، وتبوح لها وجع الفراق الطويل وتبث اشتياقك لزواريبها الدافئة..
والآن أنت في لحظة تحقق الحلم فانطلق.
شهدتُ لحظة دخولك إلى منزلك حين خروجك من المعتقل، كانت عيناك تشعان فرحاً وألقاً، وبشرة وجهك صافية كعريس يزف إلى المرأة المستحيل، الحرية. تحّلق الأصدقاء في غرفة بيتكم، وللغرابة، تجولتُ في عيونهم فكانت عيناك أكثر العيون حيوية وبشراً.
نزلتَ في الأيام التالية إلى الشارع، لتتفيأ بشمس الحرية، فاجأتك الظلمة، حاولتَ أن تعب من الهواء فوجدته ثقيلاً ثقيلاً ثقيلاً.
تتلمس في تلك الظلمة المفاجئة التي غرقتَ فيها بقايا حلم .. بقايا مستقبل رجوتَ أن يأتي.. بقايا أفكار آمنتَ بأنها تحمل طاقة التغيير التي ذهبت أيام عمرك الأحلى من أجلها. ترى ماذا جرى للمصالح الأمريكية التي اعتقلتَ بسبب مناهضتها؟. يا للهول أصبحت أمريكا شخصياً في عقر دارنا وليس مصالحها فقط. أصبحت جارتنا وداخلنا على نحو لم يسبق لأي متفائل من عتاة اليمين الأمريكي والصهيوني أن يحلم به!!!!!!!
أين أحلامنا؟؟ أين مناخنا؟؟ منذ ثلاثين سنة، يا للخيبة، كانت نوافذ الأكسجين أكبر، وكنا نستطيع التنفس أكثر، على الأقل كانت الأخوات والنساء في بلدنا يحاولن الانطلاق وتلمس الحرية.. أما الآن بناتهن وبنات أخواتك وبناتك المفترضات مستسلمات ومنكفئات وراء الحجاب عله يحميهن من الأخطار ومن المجهول الذي تضاعف أسه.
هل مشيتَ في شارع الثورة؟ لا أستطيع التصديق بأنه عندما غيبتك السجون لم يكن هناك شارع بهذا الاسم بل كانت هناك تسترخي البساتين!. شارع الثورة، وأنا التي ظننت أنه كان موجودا هناك منذ الأبد. لكنه فعلا لم يكن هناك. ولم تكن حينها اللغة العربية قد اُختزلت بعد إلى عدة كلمات ومفردات محدودة جداً نسمي بها منشآتنا الوطنية. لم يكن هناك حي اسمه شرقي ركن الدين، ذلك الحي الذي تقطن فيه الآن. كان مكانه امتداداً لغوطة دمشق الشهيدة.
عندما يغيب إنسان ما في سفر صغير ويعود يسأل الناس أن يخبروه عن ماذا حصل أثناء غيابه. “ماذا فعلتم في غيابي؟”. وأنت بعد ثلاثين سنة، نرجوك ياعماد لا تحاول أن تسألنا هذا السؤال المر!!.
ربما كانت أحلامنا فضفاضة.. ربما كانت أفكارنا ضيقة.. ربما كانت هزيمتنا مطبخاً لحلم جديد.. فلا شيء يفنى ولا شيء يذهب سدى.. كما تقول لنا قوانين الطبيعة.
عماد تعال نحلم قليلاً. تعال نحلم أن هناك في هذه العتمة.. أعماراً نضرة، لا نعرفها، مثل عمرك حينما رحلتَ في ذلك الزمن البعيد، 22 ربيعاً، تحيك لنا كنزات حلم جديد.. أعمار نضرة لكنها تعرف السداة والحبكة خيراً منا، نحن النساجون القدماء.. أعمار نضرة تبرمج المستقبل على الفضاء الالكتروني وتستخدم مفردات لغة ستظل تسمعها طويلاً قبل أن تدرك عن ماذا تتكلم تلك البراعم الجديدة. وهل نملك إلا الأمل والإعداد لفرح الأيام القادمة.
كتبتُ هذه الخاطرة في نفس يوم حريتك، و لم أشأ نشرها كي لا أفرض عليك هواجسي. لكني حينما قرأت لك مؤخراً بياناً من أجل الإفراج عن المعتقلين السياسيين، عدت إلى ورقتي، لأقول ها هو عماد يصرخ: لماذا لا تدعوني أتنفس هواء الحرية الذي انتظرته طويلاً؟.
*مقال سابق نشر عند خروج عماد شيحة من المعتقل
*الحوار المتمدن