سأستعير عنوان كتاب الباحث المغربي، الدكتور سعيد بنكراد، “بين اللفظ والصورة تعددية الأجوبة وفرجة الممكن“(1)، وأعتمد منهجه، في محاولة الإجابة عن السؤال الأساس: ماذا حصل في سوريا منذ عشر سنواتٍ؟ يُجمِع السوريون بكافة مواقعهم وأنواعهم على إجاباتٍ محددةٍ، أولها أن ما حصل هو زلزالٌ سوريٌّ ومنعطفٌ تاريخيٌّ غيَّر مصائر ملايين السوريين وعشرات المدن. والإجماع الثاني هو أن ما حصل كان عبارةً عن صراعٍ كبيرٍ بين طرفين، بين النظام وطرفٍ أخر. من هو هذا الطرف الآخر؟ هنا تتعدد الأجوبة.
إذن، يُجمع السوريون أيضًا على أنّ النظام طرفٌ مؤكدٌ في الصراع. كما يجمعون على أنّ وجوده كان مستهدفًا من قبل الطرف الآخر.
تتعدد الأجوبة إذن فقط حول ماهية الطرف الآخر من الصراع: من هو؟ وماذا يريد؟ ولماذا يستهدف وجود النظام؟ وهل استهدف وجوده منذ البداية؟
سندرس هنا الأجوبة التي تصف أو تصنِّف السوريين الموجودين في الطرف الآخر من النظام. وسنقوم بعزل الكثير من العوامل، سواءٌ التي فعلت فعلها منذ اللحظة الأولى، أم تلك التي ظهرت فيما بعد، والتي ساهمت في تعقيد المسألة السورية وتعقيد الأجوبة، والتي تتمثل في التدخلات الإقليمية والدولية، ودخول المنظمات الإسلامية المتطرفة إلى سوريا. إذن، الجواب الذي نبحث عنه هو: من هو الطرف الآخر في هذا الصراع؟ من هم السوريون الذين كانوا بمواجهة النظام؟
سوف تشكك راهنية الحدث بموضوعية أي سردية أو دراسة تتناول ما حصل منذ عشر سنواتٍ، فالجراح مازلت تنزف، والألم الكبير يمكنه أن يحجب أي رؤيةٍ موضوعيةٍ من قبل أي طرف. لكن إذا كان ذلك سابقٌ لأوانه، ماذا نفعل؟ وكيف يمكننا أن نقارب ما حصل في الذكرى العاشرة للحدث؟ المشكلة أننا نحتاج ذلك فعلًا، فنحن لسنا مجرد باحثين أكاديميين ندرس بكل برودٍ حدثًا في التاريخ. نحن شعبٌ يتألم، وهناك وطنٌ جميلٌ اسمه سوريا علينا استعادته وإعادة إعماره. ولا نستطيع انتظار الزمن وحده، كي يفعل فعله، ويساعدنا في إجلاء الرؤية. لذلك، ليس علينا سوى البحث الدائم، لمقاربة ما حصل، قدر الإمكان، للتوصل الى رؤيةٍ يمكن أن تساعدنا على التقييم الموضوعي، وهذا ضروريٌّ لعودة تشكُّلنا كشعبٍ سوريٍّ، كما يمكنها أن تكون أساسًا لبناء سلامٍ سوريٍّ داخليٍّ مستدامٍ. والاستدامة لا يمكنها أن تتعزز إلا بعملية التصحيح المتكررة التي سوف يقوم بها هذا الشعب كلما فعل الزمان فعله. ولكن هذه العملية التي سوف تكون طويلةً لا يمكن أن تتحقّق بدون تحقّق حرية التعبير كحد أدنى.
تُوفِّر حرية التعبير إمكانية إطلاق السرديات الحرة بكامل أركانها، لأن هناك عاملًا آخر غير الزمن القصير يعوق هذه الإمكانية. ولنسأل أنفسنا مثلًا: هل حان الوقت لتحليل السرديات المختلفة عن مجزرة حماة، رغم مرور أربعين سنةٍ عليها؟ لا أعتقد ذلك، لأن استمرار معادلات القوة والسلطة والهيمنة ذاتها التي كانت في وقت الحدث حتى الآن، يجعلها عصيةً على السرد، عصيةً على المعرفة. وأكثر من ذلك، أزعم أنه لم يحن الوقت لمعرفة ماذا حصل في سوريا منذ عام 1963 وحتى الآن. فما بالكم بما حصل منذ عشر سنوات؟ ولكن لابد من المحاولة.
من هم السوريون على الطرف الآخر من الصراع؟ في تعددية الأجوبة
الجواب الأول: ما حصل هو ثورة شعبٍ سوريٍّ في وجه نظام الاستبداد والقمع والنهب، شعبٌ يريد حريته. والفاعل الأساسي في هذه الثورة هم الشباب الذين أرادوا فتح أفق مستقبلهم الذي كان مغلقًا. وهو جواب كل المنخرطين في الثورة من كافة المشارب الأيديولوجية والمناطقية والطائفية.
الجواب الثاني: ما حصل هو مؤامرةٌ، والطرف الثاني كان عملاء مندسين ينفذون مؤامرةً خارجيةً على سوريا. وهو أول جواب قدمه النظام السوري الذي يعتبر أنه لا يمكن وجود سوريا بدونه، فهي سوريا الأسد منذ خمسين عامًا. لذلك سرعان ما أطلقها في وجه المتظاهرين.
تنوّعت أهداف هذه المؤامرة عند الأطراف الأخرى، التي تبنت هذا الجواب، إذ تراوحت بين الأسباب الاقتصادية، في بعض التحليلات اليسارية، كالاستيلاء على الثروات السورية، وخاصة المكتشفة حديثًا كالغاز، مثلًا والتي بدأت تتصارع عليها الدول. وبين الأسباب الجيوسياسية، وأهمية موقع سوريا كبوابةٍ للمنطقة العربية على الاتحاد الأوروبي. ومؤامرةٌ إسرائيلية لإسقاط النظام الممانع، كما رأينا في بعض التحليلات الفلسطينية والعربية واليسارية الأوروبية. وكذلك كان هذا الجواب هو الخطاب الذي لطالما كرّره حزب الله فوق رؤوسنا.
الجواب الثالث: الطائفة السنية تريد إسقاط النظام العلوي، وتريد إقامة دولةٍ دينيةٍ سنيةٍ بدلًا عنه. هذا الجواب لم يكن موجودًا بقوةٍ عند النظام منذ أول لحظةٍ فحسب، بل أيضا عند أنواعٍ متعددةٍ من الثوار والمعارضة للنظام فيما بعد العام الأول من الثورة. ولسوف يكون لعملية الدمج بين الجوابين الثاني والثالث من قبل النظام قوة تأثيرٍ رهيبةٍ؛ لأن بنية المؤامرة تحتاج إلى أدواتٍ محليةٍ، وبهذا الدمج، يكون قد حدّد هوية هؤلاء العملاء الداخليين؛ آملا بذلك كسب التعاطف أو على الأقل الحياد من كل الأطراف التي لا تريد إقامة دولةً إسلاميةً في سوريا، ابتداءً من الأطراف السورية المتنوعة ذاتها التي شاركت في الثورة، من يسار وليبراليين وأديان وطوائف، وانتهاءً بالعالم الخارجي والشعبوية السائدة فيه نتيجة الخوف، بسبب العملياتٍ الإرهابية التي قام بها متشددين إسلاميين باسم الاسلام. النظام يدرك تمامًا أنه لا يمكنه أن يكسب تعاطف أحدٍ على الإطلاق ولا حتى الطائفة التي ينحدر منها، من خارج أجهزته القمعية، إذا كان يقمع ثورة حريةٍ شعبيةٍ.
المشكلة أن جواب النظام هذا الذي أطلقه منذ اللحظة الأولى لشق صف الشباب الثائر، تبنته الفصائل العسكرية التي قاتلت ضد النظام فيما بعد، نتيجة انزياح طبيعة الفاعلين على الأرض عن طبيعة الفاعلين الأوائل.
يمكننا أن نضيف هنا فئةً أخرى تبنت هذا الجواب، وهم ما سمّي “الرماديين”. واللون الرمادي ليس سبةً كما اعتبره البعض، بل هو توصيف للموقف من قبل أصحابه أنفسهم، “أنا لست مع النظام، ولكنني لست مع المعارضة”. والأجوبة الرمادية تظهر عادةً عندما يمتنع صاحبها عن التصريح بحقيقة موقفه. وهؤلاء الرماديون لا يجمعهم شيء، فهم عابرون للطوائف والطبقات والمناطق. إنه جواب كل شخصٍ لا يستطيع الدفاع عن النظام، ويخجل من إعلان دعمه له، ولكنه يخاف من تغييره، لأن له مصلحةً ما في استمراره.
الأجوبة كما جاءت عبر الشعارات والصور
الرموز والشعارات من أقوى أدوات السياسة، لذلك ربما يمكننا أن نطلَّ معًا على الحدث عبر بوابتها. سنستمع الى ما قاله عبرها الطرفان مباشرةً أثناء الصراع، علَّنا نصل إلى مقاربةٍ موضوعيةٍ لما يريده كلّ طرفٍ.
يقول سعيد بنكراد، في الفصل السادس من كتابه “إن الشعار السياسي ليس اختراعًا اصطناعيًّا من صنع وكالةٍ إشهاريةٍ أو حزبٍ. إنه يعبِّر أو يلخص رأي مجموعةٍ بشريةٍ. إنه يتميز بحريةٍ كبيرةٍ في الاشتغال، بمعنى أن المرسل إليه يشعر تجاهه وكأنه هو مرسله، وأنه يعبر عن نفسه من خلال هذا الشعار”. وهذا ما رأيناه في الانتشار السريع للشعارات ذاتها في المحافظات السورية كلها. كما رأيناه من قبل عندما اجتازت الحدود شعارات الربيع العربي. اعتبر بنكراد الشعار أداةً مركزيةً كونيةً يمكن أن تصاغ عبرها ووفقها كل الحاجات البشرية في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والدين. ولكن السبب الرئيس الذي يكمن وراء استخدام الشعار السياسي من قبل الفاعلين السياسيين، هو أن الناس في تصورهم ميالون في العادة الى “الفكر الجاهز” والأحكام القطعية والمسبقة التي يركنون إليها كي تعبِّر عن حاجاتهم الراهنة فورًا وبعيدًا عن قلق الشك والبحث عن الحقائق.
أول شعارٍ أُطلِق في سوريا، في تلك الفترة، كان في مظاهرة الحريقة 17 شباط 2011: “حرامية، حرامية” ثم تبعه مباشرةً شعار “الشعب السوري ما بينذل“. لم تطلق في هذا اليوم شعاراتٌ من قبل النظام، لأنها جاءت مباغتةً، ليس له فحسب، وإنما باغتت الفاعلين فيها أيضًا. كانت عبارةً عن رد فعلٍ مباشرٍ على فعل النهب والإذلال الذي صار فاقعًا في تلك الأيام. فظهر ما في قلوبهم مباشرةً في هذين الشعارين دون تخطيطٍ مسبقٍ. أما من جهة النظام فقد تم التعبير عن رد فعله عبر جملةٍ واحدةٍ فقط، أطلقها وزير الداخلية آنذاك “هذا اسمه مظاهرة!! عيب“. كان صادقًا وعفويًّا، وعبَّر مباشرةً عن البنية التي عينته وزير داخليةٍ. إن أي مظهرٍ معارضٍ أو احتجاجيٍّ هو عيبٌ. ولو كان من أتى الى الساحة فاعلًا حقيقيًّا في السلطة، رئيس فرع مخابرات مثلًا، لقال فورًا إنها جريمةٌ، وليست عيبًا فحسب.
لم يدرك وزير الداخلية مطلقًا حجم الفضيحة التي ظهرت في جملته العفوية تلك، والتي تم تداولها على نحوٍ كبيرٍ فيما بعد، على سبيل السخرية. كان يعبِّر عن فعل التدجين الذي صار متجذرًا في المخيلة السورية، والذي يعتبر أن أي احتجاجٍ على النظام هو خروجٌ عن الأخلاق ويدخل في ساحة العيب. بينما لخص الهتاف العفوي، “حرامية، حرامية”، الاحتقان الكبير الذي عاشه القطاع الاقتصادي نتيجة الاحتكار الشديد للفعاليات الاقتصادية من قبل العائلة المالكة التي بدأت تُخصخص القطاع العام من خلال “عملية الرمرمة”، وهذا هو اللقب الساخر الذي أطلقه السوريون على احتكار رامي مخلوف والعائلة المالكة للفعاليات الاقتصادية. هذا الاحتقان ظهر في منطقة الحريقة التي تعتبر كما هو معروف، الساحة الخلفية للقطاع الاقتصادي الخاص في دمشق (تجارة وحرف ومشاغل وأماكن تسويق الإنتاج الصناعي) والفاعلون في هذا الحدث كانوا واضحين جدًّا وهم الفئة التي تعمل فيها.
الشعار الثاني الذي أُطلِق في تلك الفترة كان في سوق الحميدية – الحريقة 15 أذار: “الله، سوريا، حرية وبس“. يمكن أن نتلمس عامل التدين الإسلامي في هذا الشعار الذي جمع الدين والوطن والحرية فيه، وكان جواب النظام الفوري عليه: “الله سوريا بشار وبس“؛ بما معناه أنه يمكن أن نتفاوض حول الدين ولكن لا تحلموا بالحرية، ووُضع اسم بشار محل كلمة الحرية.
الشعار الثالث كان: “واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد“. لا يمكن أن يُفهم الشعار خارج سياقه، كما يقول بنكراد. لأن الغاية الحقيقية للشعار “لا تكمن في معناه الحرفي، بل في قدرته المتكررة على التحريض داخل سياق اجتماعي محدد”. هل كان المتظاهرون يريدون توصيف الشعب السوري بأنه واحدٌ؟ وإذا كان الامر كذلك، فلماذا تعرَّض حامله للقمع الشديد الى حدّ القتل؟ هذا الشعار كان يحمل حلم الشعب السوري الواحد، ويطالب بعدم التمييز بين المواطنين، مؤكدًا، في الوقت ذاته، بأنه لا يطمح الى طائفيةٍ مقلوبةٍ.
الشعار الرابع تم رفعه في 16 آذار في ساحة الداخلية، عندما بدأ قمع المعتصمين فيها، وكان قد أطلق في الأيام التي سبقتها أمام السفارة الليبية: “خاين يللي بيقتل شعبه“. لكن النظام أطلق شعارًا واحدًا وهو: “الله، سوريا، بشار وبس”، بعد أن جرى تعميمه مسبقًا على عناصر الأمن. لذلك جاء مضحكًا وناتئًا ولا يخاطب الموجودين بالاعتصام؛ إذ لم يكن هناك من يهتف “الله، سوريا، حرية وبس”. كانت هوية الفاعلين في اعتصام الداخلية علنيةً وواضحةً، منذ اللحظة الأولى، وتهمة الاندساس غير ناجحةٍ معهم. فقد أعلن القائمون على الاعتصام عن أنفسهم في البيان الذي وقعه أكثر من 300 مثقفٍ قبل الاعتصام بأسبوعٍ، وأعلنوا من خلاله دعمهم لمعتقلي ربيع دمشق الذين بدأوا إضرابهم عن الطعام مطالبين بالإفراج عنهم. فقد ضاق السجن عليهم إلى حدّ الاختناق، بعد أن شهدوا نجاح الشعب التونسي والمصري في إسقاط أنظمتهم الديكتاتورية، وهم الذين كانوا يدفعون ثمن مطالبتهم بالديمقراطية في سوريا في السجن، ولم يكونوا أصلًا يطالبون بإسقاط النظام.
تكرّرت الشعارات ذاتها في 18 آذار في درعا، ثم حصل انفجارٌ بالشعارات هناك، ثم امتد فيما بعد إلى كل أنحاء سوريا. وتحول شعار “الشعب السوري ما بينذل” الى “الموت ولا المذلة“، بعد سقوط أول شهيد من بين المتظاهرين السلميين. وهو شعارٌ شعبيٌّ قديمٌ. لكن الشعار يمكن أن يكون “ممتدًّا في الزمان، حتى وإن لم يكن دائم الفعالية، إنه متواتر بطبيعته. فكلما وجدت مجموعة بشرية ما نفسها أمام نفس التهديد، فإنه يظهر من جديد كالصيغة السحرية ليستأصل القلق ويستجمع الطاقات”، كما يقول بنكراد. وعندما لم يترك النظام خيارًا للتفاوض وبدأ بالعنف العاري، بدأ انتشار شعار الربيع العربي “الشعب يريد إسقاط النظام“.
نلاحظ أثناء رصدنا لشعارات النظام بأنه لم يكذب في معركته مطلقًا، وكان منسجمًا مع ذاته على طول الخط، منذ أول خطابٍ له في آذار، عندما أعلن الحرب على شعبه. وكانت شعاراته تعبِّر تمامًا عن حقيقته، “الأسد أو نحرق البلد“، لا بل صار عناصره يردّدون بكل صراحةٍ ووقاحةٍ شعارهم “شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد” في مواجهة شعار المتظاهرين “حرية للأبد غصب العنك يا أسد“.
أما بالنسبة للصور المرفوعة فقد كانت أهم ملاحظةٍ يجمع عليها السوريون هي أن النظام رفع صورةً واحدةً فقط، وهي صورة بشار الأسد في وجه المتظاهرين. بالمقابل لم يرفع المتظاهرون صورًا لرموزٍ تخصهم على الإطلاق. ولكن بعد سقوط قتلى في صفوفهم، حضرت الصور بكثافةٍ، ولكنها كانت صور الشهداء المتعددة، في مقابل الصورة الواحدة التي كانت ترعى عملية قتلهم.
فرجة الممكن في تقاطعات الأجوبة
المشتركات بين الأجوبة بكل تدرجاتها هي، أولا أن حركةً سوريةً هائلةً بدأت في 2011 في سوريا. وثانيًا أن النظام الحاكم كان مستهدفًا في هذه الحركة. وثالثًا أن هناك محركات طائفيةً في هذه الحركة.
رفض أصحاب الجواب الأول، الشباب الثائر غير المنضوي في غالبيته تحت لافتةٍ أيديولوجيةٍ دينيةٍ أو طائفيةٍ، شعار “الثورة السُّنيّة في سوريا”، وأصرّوا على أنها ثورةٌ وطنيةٌ سلميةٌ ضد الاستبداد والفساد والتمييز وقمع الحريات وغياب العدالة؛ بينما اتفقت الكثير من الفصائل العسكرية، فيما بعد، مع النظام، على أنها ثورةٌ دينيةٌ سنيةٌ ضد الحكم العلوي الطائفي المتشيّع حديثًا. وسوف تتقارب الرؤية أكثر بينهما، كلما امتدت الحرب؛ حتى أضحت هي ذاتها بعد سنواتٍ. وذلك بعد أن انتهى الصراع المسلح الذي بدأ بين فصائل عسكريةٍ منشقةٍ عن النظام، من جهةٍ، والنظام وجيشه من جهةٍ أخرى، والذي اعتبره الكثيرون امتدادًا للثورة وممرًّا إجباريًّا لها، نتيجة عنف النظام.
لقد حل محل الصراع المسلح الأول نوعٌ جديدٌ من الصراع، نتيجة تكاثف العوامل الخارجية على الأرض السورية. ولم يعد طرفا الصراع الشعب/ النظام فحسب، بل اندلعت حربٌ إقليميةٌ ودوليةٌ بأدواتٍ جديدةٍ، وهي الميلشيات السنية والشيعية. وحصل ذلك بعد إعلان النفير من قبل كل طرفٍ الى الجهاد، كي يأتي المقاتلون الى سوريا لنصرة أهل السنة. فجاء الشيشان والتوانسة ومسلمو فرنسا وأوروبا وداعش والقاعدة. وكذلك بدأت ظاهرةٌ جديدةٌ من نوعها في العصر الحديث، وهي التعبئة العالمية الشيعية للجهاد، التي أطلقتها إيران من أجل دعم الشيعة في حربهم ضد السنة. فحزب الله الشيعي لم يعد يكفي وحده، وانما تم تعبئة ميليشياتٍ شيعيةٍ متنوعةٍ. وجاء الأفغان والباكستان وفقراء شيعة إيران والعراق ليلبوا نداء الجهاد الشيعي. توافد الطرفان إلى سوريا، إما عبر الارتزاق أو عبر التعبئة الدينية التي كانت ضروريةً، لكسب وقودٍ بشريٍّ للحرب من بسطاء الشباب المتدين، الذين عادة ما يكونون ضحية الشحن الطائفي، من أجل استخدامهم في حروبٍ لا تمت للدين ولا للطائفة بأي صلةٍ.
في عملية تصفية الأجوبة عما حصل، نصل إلى جوابين مختلفين فقط، ولكنهما لم يأتيا من الفراغ بدليل التأثير الهائل لهما على كتلٍ كبيرةٍ من البشر. لذلك أعتقد أنه علينا البحث في تقاطعات الجوابين كي نستطيع مقاربة الواقع، ونتوصل إلى فرجة الممكن في المستقبل السوري. سنلاحظ أنّ التقاطع الذي يمكن البناء عليه، جاء في التسليم بحضور الفاعل المتدين المسلم الشعبي في الثورة، الذي لم يتعارض مع كونها ثورةً ديمقراطيةً. وعادة ما تتعدد الدوافع التي تكمن وراء انخراط كل فرد فيها، كما في كل ثورة. أما التفارق الكبير بينهما فقد كان كامنًا في شعار الدولة الإسلامية الذي طرح فيما بعد وقسم صفوف الثوار.
الساروت وفدوى سليمان والنخب الثقافية
كان أشهر تقاطعٍ بين الأجوبة هو ظهور الثنائي الثائر الشهير في حي الخالدية المسلم في حمص، عبد الباسط الساروت وفدوى سليمان. كما تقاطعت الأجوبة في انحياز غالبية المثقفين المنحدرين من كافة المشارب الطائفية والفكرية إلى الثورة، رغم مظاهر التدين التي تضمنتها. فالمثقف عادةً بطبيعته كنخبةٍ لا يخضع للمخاوف الشعبوية التي أعاقت الكثيرين من الانحياز للثورة. فقد رأينا كيف انحازت للثورة، ووثَّقت انتهاكات النظام في المناطق السنية الثائرة، أعدادًا كبيرةً من المثقفات والمثقفين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: سمر يزبك وروزا ياسين حسن ووجدان ناصيف وهنادي زحلوط وغيرهن كثيرات وكثيرون.
لقد انحاز للثورة ياسين حاج صالح الكاتب الديمقراطي اليساري، وعاش في مدينة دوما الثائرة مع زوجته المناضلة السياسية سميرة خليل. وكذلك فعلت المحامية الديمقراطية رزان زيتونة التي كانت في قيادات تنسيقيات الثورة، والناشط وائل حمادة والشاعر ناظم حمادي. وما لبث التفارق أن عبر عن نفسه في عام 2013 عبر اختطاف هؤلاء الناشطين الديمقراطيين الأربعة من قبل الفصائل المسلحة المتأسلمة.
صادق جلال العظم المفكر والفيلسوف السوري، الذي كتب كتاب “نقد الفكر الديني” في الستينيات، قاطع بين الجوابين على نحوٍ واضحٍ في مقابلة مع تلفزيون أورينت، في أيلول ٢٠١٥، قائلًا “البلد معبّأ طائفيا وغرائز الانتقام منفلته من كل عقال”(2) كما وضح في تلك المقابلة أن “المقصود بالعلوية السياسية ليس العلويين كبشر، بل تلك الطغمة الأمنية العسكرية المالية الطائفية المطلوب إسقاطها. لقد أردت بذلك تحييد الطائفة العلوية”، ثم أردف أنه “من فضائل الثورة علينا أننا نستطيع الكلام الآن بعد أن بقي الكلام السوري بهذا الخصوص يدور بين الجدران المغلقة فقط”. كما أكد أنه لا يمكننا أن نتجاهل أن “العمود الفقري للثورة هي الطائفة السنية العربية مع مشاركة من الأكراد والعمود الفقري للنظام هو الطائفة العلوية وهي التي تمده بالرجال والمقاتلين”، ثم أضاف بأن هذا لا يعني أنها ثورةٌ سنيةٌ بمعنى أنها دينيةٌ. ولا على أنها حربٌ أهليةٌ. إنها ثورةٌ من أجل الديمقراطية وضد التمييز الطائفي. في المجر مثلًا في عام 1956 لم يقل أحدًا أن الثورة كانت مسيحيةً رغم أن الأغلبية كانت كاثوليكيةً، وتطالب بالحريات الدينية. وعند سؤاله عن تخوفاته وهو اليساري والعلماني من تدين الثوار أجاب بأنه لا يخاف من ذلك لأن “الإسلام الشعبي السوري لا يتقبل عنف وتشدّد الإسلام الطالباني والقاعدة وداعش فهو عبارة عن عبادات ومعاملات”.
أما الكاتب السوري مصطفى خليفة فقد قال، في هذا السياق، في إحدى مقابلاته: “في سوريا، ومنذ خمسين عاما كانت هناك حرب أهلية بلبوس طائفي مسكوت عنه. ولو انتصرت ثورة الحرية والسلمية خلال العام الأول لأنهت هذه الحرب الأهلية المستمرة حتى الآن”(3). إذن ما حصل من عشر سنوات هو ثورة حريةٍ وديمقراطيةٍ، والنضال ضد أي شكلٍ من أشكال التمييز، هو نضالٌ ديمقراطيٌّ سوريٌّ جامعٌ. وهذا ما أعطى طاقةً هائلةً للثورة منذ اللحظة الأولى، والتي استطاعت أن تسقط رمزيًّا هذا النظام منذ العام الأول. ولكن القوى الإقليمية والدولية احتفظت به هيكلًا فارغًا، كي تبرر من خلاله احتلالها لسوريا.
إذن ما حصل من عشر سنوات هي محاولة جبارة من الشعب السوري من أجل إطلاق “الجولة الثالثة من الاندماج الوطني السوري”(4)، محاولة عودة تشكله كشعب بعد أن بددت أوصاله 50 عامًا من التحطيم الممنهج.
أخيرًا، أشير إلى تعريف حنة أرندت للثورة، كي لا نغرق في توصيف المآلات والعقابيل التي ظهرت فيما بعد. ففي كتابها، “في الثورة”، شددت أرندت على الارتباط الوثيق لمفهوم الثورة بالفكرة التي تقول “إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأةً، وبأن قصةً جديدةً تمامًا، قصة لم ترو سابقًا ولم تعرف قط، هي على وشك أن تظهر”(5). وهذا ما حصل تمامًا في سوريا منذ عشر سنوات، عندما بدأ مسار التاريخ، من جديدٍ، فجأةً.
(حكاية ما انحكت)