نادية هناوي: النسوية وتقليدية العقل العربي

0

على الرغم من أن النسوية في أساس تكونها المعرفي، وجوهر انتمائها الفكري، ترتبط انبثاقاً واتصالاً بعالم الفلسفة ارتباطاً لا مجال لدحضه، أو الارتياب فيه؛ فإنها لا تلقى في مشهدنا الثقافي العربي اهتماماً فلسفيا واضحاً يماثل ما تلقاه نقدياً. ومن ثم لا نجد للنسوية موقعاً فكرياً واضحاً وأكيداً في خريطة الفكر العربي المعاصر، باستثناء بعض المحاولات النادرة والفريدة.
ولأن التلازم بين النقد والفلسفة في توطيد النسوية كفاعلية وكينونة، أمر مهم، يغدو ارتكان النسوية الأحادي إلى النقد وحده وتعويلها عليه، كذلك الذي يسير على قدم واحدة. وهو ما يجعل تقدمها بطيئاً، فتغدو الطريق التي يمكن قطع مسافتها بخطوة واحدة تقطع بخطوتين أو ثلاث خطوات.
فكيف إذا كانت هذه الطريق مفضية إلى ميادين ليست واضحة المناهج ولا الأساليب، دروبها ملتوية ومسالكها شائكة بالمطبات وممراتها غارقة بالمنعطفات والتفرعات؟ وهل بعد ذلك كله يمكن لنا أن نتساءل عن تقدم تحرزه النسوية العربية، وهي عرجاء تعول على النقد وحده، وتتكئ على النقاد، مستكثرة على نفسها الفلسفة التي هي أقرب إليها من النقد، وأولى بها منه، نظراً لما في النسوية من مسائل وإشكاليات معرفية تحتاج مزيدا من الاحتجاج والتوغل في الجدل والاستنباط، محتكمة إلى كل ما هو منطقي وعقلاني. وما دامت الفلسفة في منأى عن الخوض في النسوية كمفاهيم ومصطلحات وطروحات وملابسات، فلن تحرز النسوية العربية تقدماً وهي تتحرك بحركات ناقصة وغير أكيدة.
ولنا أن نتصور هذه النسوية تتقدم وهي متعافية غير معاقة، وواثقة غير مترددة تقطع الأشواط بلا تذبذب، موطدة مشوارها بالجديد الذي يوجه مساراتها وجهة تكون فيها عطاءاتها، متناسبة مع أهميتها ومحصلاتها مكتسبة من ثبات وعيها، الذي به تدرك حقيقة طاقاتها وتعرف إمكانياتها الهائلة، التي بها تنتقل بين الفينة والأخرى من حال إلى حال أكثر جلاء، مؤكدة جدارتها على الصعيد الفكري، ومدللة على فاعليتها وأهمية موقعها على الصعيد الحياتي. وأهم معول من المعولات الفكرية التي تضع النسوية العربية في لب الفاعلية الفلسفية، وتجعلها جزءاً من اهتمام الفكر العربي المعاصر، هو النظر إليها بمنظار جديد يخرجها من قمقم التعيين المحدد والتمييز المخصص والمغلق، إلى فضاء التعميم بكل ما يعنيه من الانفتاح والاكتمال والشمول والشيوع والانتشار.
بيد أن النسوية العربية لم يكن لها على طول مشوارها بزوغ مؤسس على القصدية ولا برامج تتسم بالجماعية، وإنما هي توجهات ذاتية ودعوات فردية تقدمية، تقوم بها في الأغلب كاتبات واعيات، في شكل مشروع ميداني أو كتابي. ولا تحفل بالمواصلة إذ تنتهي بمجرد انتهاء الكاتب، أو الكاتبة من الدعوة إليها وتأكيد أهميتها. والأسباب وراء الانفراد والانقطاع في الاشتغالات النسوية العربية لا مجال لحصرها، لكثرتها وتشعب صورها، ولكن من الممكن التعريف بأهم تلك الأسباب، ومنها ما طرحه المفكر عبد الرزاق عيد حول فكرنا العربي، مهتما بإحدى سماته، وهي مركزية العقل الذي له السلطة والخلافة التي فيها للجسد قوة متصلة بالعالم المحسوس للرعية والرعاع. فيصير السلطان أو الخليفة هو العقل المتوسط بين الله وعباده، أي بين العقل الأعلى والجسد الخاطئ. ولا يتوانى هذا المفكر عن تشخيص مناحي المأساة في حياتنا. هذه المأساة التي لا تحاكي الناس، بل تحاكي الفعل هاجيا بسبب ذلك الزمن العربي.
ومن الأسباب أيضا العقلية العربية نفسها، التي ترى أن من سمات الإنسان العربي المعاصر ارتباطه الجينالوجي المتجذر وغير الواعي ذهنيا ونفسيا وفكريا بالآباء المؤسسين، الذين سبقوه حتى لا تتقدم في أي خطوة ولا نهوض ما لم يكن هذا التقدم مبنيا على جذر يمتد إلى الماضي، رابطا التراثي بالمعاصر، والقديم بالجديد حتى إن كان هذا القديم يمتد إلى مئات السنين مرتهنا بمواضعات ذاك الزمان، فضلا عن أصحاب الفكر المتزمت والعقلية الأصولية، الذين يرون في السلف الماضي ـ خارج مواضعات الاعتدال الديني ـ نموذجا صالحا ومثالا لا يمكن إلا أن يحتذى بطريقة وضع الحافر على الحافر، معممين الجانب الديني على سائر مجالات الحياة، متناسين أن العصور تتنوع والأزمان تتبدل، ومعها تتبدل حاجات الإنسان ونوازعه ومبتغياته.

وإذا كان هذا التجذر الأبوي مطلوبا في مختلف مجالات الحياة؛ فإن المجال الخاص بالمرأة والجندر هو المجال الذي يتضرر من هذا التجذر. وليس السبب أن النسوية حركة غربية؛ بل هو افتقارنا إلى منهجية تفكير نسوية، تقدم المرأة أولا، وتعطي للمجموع النسوي آخرا الأولوية في البحث والتحليل والتأويل. ومن ثم لا نظام يساند المرأة وينصرها، ولا حاضنة ترحب بها وتمركزها ليبقى الأمر والنهي في هذا كله بيد الرجل، الذي يحتل المركز في المنظومة الأبوية العربية، بينما تحتل المرأة طرفا من أطراف هذا المركز، وقد حُكم عليها بالتبعية والموالاة، هامشية بأوصاف جاهزة عفا عليها العصر، كوصفها بالجهل وانعدام الخبرة، أو أنها أكثر أفراد المجتمع، تجاوبا مع الخرافات في حل مشاكلها الاجتماعية، والأكثر ميلا لتصديقها والعمل لها، وأنها الكائن الشرير الذي ينبغي تقييد حريته وتوجيه أفعاله بأحكام صارمة، كي لا يقع في الخطيئة ويرتكب المعصية.
ولسنا في هذا التجذر الأبوي والتهميش للأنثوية بمختلفين عن الشعوب الأخرى، حتى شاع في المخيال العالمي، كما هو الحال في المخيال العربي، أن الشيطان هو المرأة والمرأة هي الشيطان؛ بيد أن التماشي مع روح العصر، والتجاوب مع مقتضياته أخذ تأثيره يظهر في العالم، لاسيما المتقدم بشكل واضح. وواحدة من دلائل هذا التأثير هو بزوغ النسوية كحركة تريد استعادة مكانة المرأة في المجتمع. وعلى الرغم مما شهدته بلادنا العربية من ثورات تحررية، وانقلابات جذرية وانتقالات حضارية كبيرة، كان من بين صورها إنشاء مؤسسات تختص بالمرأة ومنظمات تعنى بمختلف شؤون النساء الحياتية؛ فإن النظرة الضيقة للمرأة العربية، والتهميش العام للنساء العربيات بقي مستمرا. ولم تتمكن الاستراتيجيات والقرارات والمنظمات والتشكيلات، التي أريد منها خدمة المرأة، من تغيير الصورة النمطية لها كعضو هو الأضعف في المجتمع، لتظل معتمدة حياتيا على الرجل، حتى إن كانت مستقلة عنه اقتصاديا، وليس بيدها مستقبلها وإن كانت تملك المستقبل، وتصنعه بنفسها ولا معيار يقيم مكانتها، مثل المعيار الذي يتخذ من حياتها الأسرية ميزانا فيه الغلبة لكفة إرضاء الزوج والقيام بما هو مطلوب منها بالدرجة الأساس، بينما يُجحف حق الكفة الأخرى التي فيها المرأة أقوى من الرجل وأشد، كونها تقوم بما لا يقوم به من جانب، وتؤدي من جانب آخر ما يؤديه هو من مختلف الأعمال والمهام، سواء كانت تلك المهام بدنية، أو كانت ذهنية وقد تتميز فيها على الرجل أيضا.
وبالطبع وراء تلك التفاضلية الذكورية المجحفة، عقلية عربية متزمتة لا تريد أن تغير معايير تقييمها للمرأة، التي ما زالت في نظرها ثانوية وهي تدخل ميادين الثقافة والسياسة والاقتصاد والأدب والكتابة، كما أنها أبعد ما تكون عن ولوج عوالم الإنتاج الفكري والعلمي والفلسفي. وعادة ما تُعلل أسباب عدم الإبانة التي تعتقدها هذه العقلية بعدم تفرغ المرأة بسبب طبيعة عملها في شؤون البيت الكثيرة، ولرغبة المرأة في السماع والكلام أكثر من الاتجاه إلى التأليف، ولندرة التعاون بينها وبين الرجل في التأليف العلمي والإبداعي، ليظل الرجل مستأثرا بحصة الأسد في التأليف للفكر واللغة والفقه والحديث الشريف والتاريخ والتصوف والأذكار، وغير ذلك مما تراه العقلية المتزمتة طبيعيا، بوصفه امتدادا للنشاط العلمي والأدبي الذي عرفه العرب في العصور الوسطى.

*القدس العربي

ترك الرد

Please enter your comment!
Please enter your name here